
يشترك المتطرّفون في العالم في صفاتٍ كثيرة، ليس في انعدام العقل والمنطق والتفكير فقط، والغوغائية ورفع الشعارات الزائفة، والعنصرية والشعبوية، والسعي إلى تقسيم المجتمع، بل في أن أسوأ الهزائم دائماً ما تتحقّق على أيديهم. الأمثلة في هذا المجال أكثر من أن نستطيع حصرها، لكن ما حدث للهند خلال التصعيد أخيراً مع باكستان، يمثّل جديد تلك الشواهد. بالطبع، لم تتلقَّ الهند هزيمةً واضحةً، لكن التحليلات أجمعت على أنها تلقّت ضربةً قويةً أضرّت بسمعة جيشها، بعدما قدّم أداء سيئاً، خصوصاً في المعارك الجوية، إذ أُسقطت طائرات هندية فرنسية الصنع، ما أثّر في سمعة الأسلحة الغربية التي بحوزتها، خاصّة أن باكستان استخدمت طائرات صينية الصنع. ويكفي أن باكستان قدّمت نفسها باعتبارها الطرف المنتصر بعد انتهاء المواجهات، بينما التزمت الهند الصمت تماماً، خاصّة بعدما تجاهل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحديث مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي، معلناً نهاية المواجهات ووقف إطلاق النار، من دون الرجوع إليه.
على مدار السنوات الماضية، اجتهد رئيس الوزراء الهندي (اليميني المتطرّف) ناريندرا مودي، وحزبه المتشدّد (بهاراتيا جاناتا) في تقسيم الهند، وزرع بذور الشقاق داخل المجتمع. فلم يقتصر القمع على المسلمين فقط، بل تعدّاه إلى الأقليات الأخرى، مثل المسيحيين والسيخ وغيرهما. وشمل القمع اعتقالات واعتداءات مستمرّة، والتهجير ونزع الجنسية، وإحراق دور العبادة، والاعتداءات الجنسية، وقتل رجال الدين، وتدمير المؤسّسات التعليمية، وتخريب الأماكن المقدسة، ونبش المقابر. حتى وصل الأمر إلى إنتاج أغانٍ عنصرية، على طريقة أغنية (إحنا شعب وإنتو شعب)، التي ظهرت قبل 11 عاماً في مصر.
من غير المتوقّع أن تنتهي ظاهرة التطرّف والمزايدة، لأنها دائماً ما تداعب خيال الجماهير التي لا تلتفت إلى المآلات النهائية، بقدر ما تقتصر نظرتها على اللحظة الحاضر
أدّت سياسات حزب بهاراتيا جاناتا بقيادة مودي، التي تعمل على تعزيز القومية الهندوسية (الهندوتفا)، إلى توتّرات اجتماعية داخل الهند، خاصّة مع الأقلّيات الدينية، ممّا أثر في التماسك الاجتماعي في الهند، وهو عامل يمكن أن يؤثّر بشكل غير مباشر في الروح المعنوية الوطنية أو الدعم الشعبي للعمليات العسكرية، خاصّةً أن الجيش الهندي يضمّ أفراداً من مختلف الطوائف الدينية، بما في ذلك من المسلمين. ولذلك، قد تؤثّر التوتّرات الاجتماعية الناتجة من السياسات الداخلية في الروح المعنوية داخل الجيش، خاصّةً إذا شعر أفراد من الأقلّيات بالتهميش أو التمييز، كما أن سياسات مودي الداخلية أثارت انتقادات دولية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. وبالتالي، قد تكون أسهمت في إضعاف موقف الهند الدبلوماسي، والحدّ من الدعم الدولي في مواجهة باكستان. الشيء نفسه رأيناه في الولايات المتحدة، فلم تنتج جعجعات ترامب وتهديداته دول العالم بشأن الرسوم الجمركية أيّ مكاسب، كما لم يستطع وقف الحوثيين في اليمن عن مساندة غزّة، رغم توعّده مرّات عدة بسحقهم. وفي إسرائيل، انضمّ المتطرّف إيتمار بن غفير إلى حكومة نتنياهو، متوعّداً بفعل كلّ ما هو إجرامي ووحشي لإنهاء القضية الفلسطينية، وكانت النتيجة الهزيمة المذلّة في معركة طوفان الأقصى.
وللمفارقة، شهدت العلاقات بين الهند بقيادة مودي وإسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو نموّاً متصاعداً، إذ يستلهم الطرفان التطرّف من بعضهما، فكان مودي أوّل رئيس وزراء هندي يزور إسرائيل. وبعد الهجوم الذي أدّى إلى مقتل 27 شخصاً في كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، دعا ساسة هندوس متشدّدون إلى اتخاذ إجراءات انتقامية مشابهة لتلك التي ينفّذها الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، مشبّهين هجوم كشمير بهجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل في 7 أكتوبر (2023). وهي مواقف مثّلت امتداداً لرؤية المتطرّفين الهندوس، الذين يرون أن هناك أرضيةً مشتركةً تجمعهم مع إسرائيل، تتمثّل في أنهم “محاطون بالأعداء المسلمين”، وينظرون بإعجاب إلى تلّ أبيب “نظراً لقدرة إسرائيل على القتال والازدهار، وهو شيء يتمنّونه لأنفسهم ويريدون محاكاته”، وفقا لما ذكرته صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في تقرير نشر بعد “طوفان الأقصى”.
وبالطبع، لا يبدو في الأفق أن المتطرّفين في كلّ من الهند وإسرائيل يمكن أن يغيّروا من سياستهم قيد أنملة، بل بالعكس، سيتشدّدون أكثر فيما يفعلون، لأن هذه هي بضاعتهم الوحيدة، ولا يمكن أن يتراجعوا عنها، وهو أمر متوقّع من متطرّفين لا عقل لهم، شعارهم الاستمرار فيما يفعلون حتى النهاية.. نهايتهم. ومن غير المتوقّع كذلك أن تنتهي ظاهرة التطرّف والمزايدة، لأنها دائماً ما تداعب خيال الجماهير التي لا تلتفت إلى المآلات النهائية، بقدر ما تقتصر نظرتها على اللحظة الحاضرة.
المصدر: العربي الجديد