
تكشف مآلات حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، بعد مرور أكثر من 600 يوم، وجود أربعة عوامل تتحكّم في مسار القضية الفلسطينية حالياً؛ أوّلها، صمود أهالي غزّة وفصائل المقاومة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الهمجية، على الرغم من الكلفة البشرية الهائلة التي لا يمكن حصرها بدقّة إلا بعد انتهاء الحرب. وثانيها، تعزيز التوافق الأميركي الإسرائيلي على ابتزاز المقاومة الفلسطينية في غزّة بورقة تعطيل وصول المساعدات الإنسانية، والتلاعب بغموض المسار التفاوضي، وتكثيف الضغوط على أهالي غزّة بغية تهجيرهم. وثالثها تغير لهجة الخطاب الدبلوماسي الأوروبي تجاه حرب غزّة، وبروز فكرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ورابعها استمرار تآكل تأثير “الإطار العربي” في مسار قضية فلسطين.
وبغية تحليل تداعيات التغيّر في السياسات الأميركية والإسرائيلية والأوروبية والعربية على مآلات حرب غزّة، وقضية فلسطين والمنطقة عموماً، يمكن التوقّف عند أربع ملاحظات؛ أولاها تصاعد الاختراق الأميركي الإسرائيلي للإطار العربي، وهيمنة تأثير العوامل الخارجية على أغلب السياسات الرسمية العربية على نحو يجعل من الصعب (لكيلا نقول من المستحيل) أن يراهن الفلسطينيون على البعد الرسمي العربي، على الرغم من الأحاديث المُكرّرة عن إصلاح جامعة الدول العربية، أو تفعيل مؤسّساتها، أو تعزيز العمل العربي المشترك… إلخ، إذ يبدو رهان بعض الأنظمة العربية على كسر إرادة المقاومة الفلسطينية توطئةً لتوطيد العلاقات العربية مع واشنطن وإسرائيل، سواء في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية أم غيرها، ما يكشف مفارقة عودة هذه الأنظمة، مرّة تلو الأخرى، للاستغاثة بالفاعل الأميركي، ومناشدته إيجاد حلّ لحرب غزّة، على الرغم من وضوح مسؤولية واشنطن المباشرة في دعم الجرائم الإسرائيلية، ناهيك بالدور الأميركي في إحكام حصار غزّة في مدار 17 عاماً كاملة، ما أدّى في المحصّلة إلى خلق البيئة الضاغطة على الفصائل الفلسطينية على نحو دفعها إلى شنّ هجوم “7 أكتوبر” (2023).
تتعلّق الملاحظة الثانية بتغيّر معظم المواقف الأوروبية من تداعيات حرب غزّة، لا سيّما على الصعيد الإنساني ومسألة إدخال المساعدات إلى القطاع المحاصر. بيد أن تأخّر العواصم الأوروبية في اتخاذ مواقف مختلفة عن مواقف واشنطن، سواء في عهد جو بايدن أم دونالد ترامب، سيجعل من الصعب أن تعزل القارة العجوز نفسها عن تداعيات سياسات حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرّف بقيادة بنيامين نتنياهو، التي ألحقت ضرراً هائلاً بقيم الغرب ودفاعه المزعوم عن حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والعدالة، إذ نجح نتنياهو في توريط الأوروبيين بصورةٍ غير مباشرة في جرائمه في حرب غزّة، التي باتت تمثّل منعطفاً واضحاً يفضح انهيار المبادئ الليبرالية الدولية وانتقائيتها الفجّة على نحو ما تكشفه أيُّ مقارنة بين السياسات الأوروبية تجاه فلسطين وتجاه الحرب الروسية على أوكرانيا.
يبدو رهان بعض الأنظمة العربية على كسر إرادة المقاومة الفلسطينية توطئةً لتوطيد العلاقات العربية مع واشنطن وإسرائيل
وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو تغيّر السياسات الأوروبية تجاه حرب غزّة كافياً (بمفرده) لإعادة إحياء حلّ الدولتَين، وتجسيد الدولة الفلسطينية عملياً في حدود 4 يونيو 1967، في ظلّ ثلاث عقبات؛ أولاها استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل، لا سيّما في تنفيذ مخطّطات تهجير أهالي غزّة، على الرغم من تواتر إشارات غضب ترامب من نتنياهو، التي تبدو محصورةً في “النطاق الشخصي الجزئي”، من دون ضرب الإطار الكلي للتحالف/ التوافق الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي. وثانيتها غياب أيّ طرف إسرائيلي يقدّم طرحاً سياسياً بديلاً من فِكَر نتنياهو وتيّار اليمين الإسرائيلي، فيمكن القول بوجود شريك إسرائيلي ينحاز إلى حلّ الصراع والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وثالثتها تضاؤل فرص تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد حرب الإبادة في غزّة والضفة الغربية، إذ تتّجه الأمور إلى مستويات أعلى من الصراع بين قوى الشعب الفلسطيني الحيّة وتيّار الصهيونية الدينية، خصوصاً في القدس والضفة الغربية.
تتعلق الملاحظة الثالثة بالعجز الإسرائيلي، بعد أكثر من 600 يوم من حرب الإبادة، عن حسم الصراع ضدّ الشعب الفلسطيني، وفصائل المقاومة في قطاع غزّة، على الرغم من كلّ المجازر والفظاعات التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحقّ المدنيين العزل. وإلى ذلك، ثمّة تراجع ملحوظ في مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية، واحتمال أن تواجه “عزلةً دوليةً” بسبب سلوكها الاستعماري في فلسطين، وتحوّلها عبئاً استراتيجيّاً على السياسات الأميركية في إقليم الشرق الأوسط.
في استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل لا يبدو تغيّر السياسات الأوروبية تجاه حرب غزّة كافياً لإعادة إحياء حلّ الدولتَين
وإذ تبقى إسرائيل عالقةً في الماضي والأيديولوجيا وحروب “النصر المطلق” بمفهوم نتنياهو، تؤسّس إدارة ترامب تحالفاتها الإقليمية على الشراكات الاقتصادية. وعلى الرغم من تأثير الضغط العسكري الإسرائيلي على حركة حماس وحزب الله ونظام بشّار الأسد وإضعاف إيران، فإن واشنطن تبدو عازمةً على تنفيذ استراتيجيتها وأولوياتها في خدمة “أميركا أولاً”، وتعزيز استقرار الشرق الأوسط لبناء كتلة موحّدة ضدّ تمدّد النفوذ الصيني، ما يفرض على إسرائيل أمرَين؛ أحدهما التفكير في إعادة التموضع ضمن اتفاقات أبراهام وتعزيز الاستقرار الإقليمي والتعاون الأمني واحتواء إيران. والآخر أن تنخرط في المشروع الأميركي الجديد للمنطقة عبر التكيّف مع متطلّبات إنهاء حرب غزّة وفق توازن البراغماتية والعدالة، الذي يعني عودة كلّ المحتجزين الإسرائيليين مقابل إعادة إعمار غزّة بمساهمة من دول الخليج والسلطة الفلسطينية في مسألة نزع سلاح حركة حماس (حسب ما جاء في مقال باراك سيللا، “Trump’s new Middle East leaves Israel out”، في جيروزاليم بوست: 25/5/2025).
وعلى الرغم من تعمّد حكومة نتنياهو تصعيد ممارساتها في غزّة والضفة الغربية والقدس المحتلّة، فإن ذلك لا يحجب مسألة تآكل مكانة إسرائيل في إقليم الشرق الأوسط، واضطرار واشنطن للانخراط الكثيف بنفسها في البحث عن حلول لإنقاذ إسرائيل من ورطتها الاستراتيجية مع الشعب الفلسطيني، ناهيك بتعقيدات صراعها مع الفاعلين من غير الدولة (State Actors-Non)، خصوصاً جماعة الحوثيين اليمنية.
تتعلق الملاحظة الرابعة بتفاقم أزمة الإطار العربي، ومحدودية نتائج القمم العربية، سواء الدورية أم الطارئة، نتيجة غياب المشروع العربي الإقليمي، وتصاعد الفجوة بين الشارع العربي وبين مواقف النظم الرسمية العربية من قضية فلسطين. واستطراداً في التحليل، فقد أكّد ضعف مُخرَجات القمّة العربية الرابعة والثلاثين في بغداد (17/5/2025)، خلاصات حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، التي كشفت استمرار ضعف مواقف أغلب النظم الرسمية العربية، وتردّدها الواضح في استخدام أوراق القوّة العربية من أجل فرض وقف هذه الحرب، أو التعامل مع تمادي السياسات الأميركية والإسرائيلية في تصفية قضية فلسطين وإبادة شعبها، على نحو يشير إلى نهاية جامعة الدول العربية، وغياب إرادة أعضائها وتضارب أولوياتهم واهتماماتهم.
تآكلت مكانة إسرائيل فاضطرت واشنطن للبحث عن حلول لإنقاذها من ورطتها الاستراتيجية مع الشعب الفلسطيني
ومن المهم في هذا السياق التأكيد على فكرتَين، إحداهما ضرورة عدم المبالغة في مسألة مركزية الدور الخليجي على الصعيد العربي على ضوء حقيقية قصور النفوذ الخليجي المالي والسياسي عن تعويض غياب الأدوار المصرية والعراقية والسورية، التي أفرزت على مدار ثلاثة عقود خلت الفراغ الاستراتيجي العربي الراهن، الذي قد يقود المنطقة برمّتها، في المحصلة النهائية، إلى سيناريو من الفوضى الإقليمية، أو “انفجار” المشرق العربي بتعبير الباحث اللبناني جورج قرم. والأخرى، أن بقاء إقليم الشرق الأوسط عالقاً بين المطرقة الإسرائيلية والسندان الأميركي ليس قدراً مقدوراً، لا سيّما في حال عودة حراك الشارع العربي واستعادة روح موجتَي الثورات العربية عامَي 2011 و2019، ما يبدو أكثر السيناريوهات إيجابية لمنع الانحدار العربي الإقليمي نحو إحياء منطق الحلّ الإقليمي لقضية فلسطين، بمركّباته الثلاثة: دبلوماسية الصفقات والاستثمارات الأميركية، مقاربات السلام الاقتصادي، “ثقافة السلام الإبراهيمي” (أي تقديم الاقتصادي على السياسي، والبراغماتية على مبادئ/ قيم المقاومة والتمسّك بالحقوق والعدالة). إعادة إنتاج إطار انتقالي لعملية تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعد فشل إطار مدريد/ أوسلو، وتآكل فرص حلّ الدولتَين بسبب الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية.
يبقى القول إن قضية فلسطين ستشهد في المدى المنظور احتدام الصراع بين البُعدَين العالمي والفلسطيني، في غياب شبه تامّ للبُعد العربي، بعد أن كانت فلسطين هي القضية المحورية للإطار العربي، وبوصلة سياساته الخارجية وتحالفاته مع القوى الدولية والإقليمية. وبهذا المعنى، فقد خسر الإطار العربي بتخلّيه عن القضية الفلسطينية معناه التحرّري والسياسي، فضلاً عن جوهر رسالته الأخلاقية في العالم. وعلى الرغم من وجود قضايا عربية أخرى مهمة، فإن قضية فلسطين تبقى (في رأي كاتب هذه السطور على الأقل) الأكثر قدرةً (وصلاحيةً) على بناء إطار عربي جديد، ورابطة عربية جديدة، عبر بنية تنظيمية فعّالة، تقوم على استلهام إرادة الشعوب العربية، لكي تعكس مطالبها في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية.
المصدر: العربي الجديد