سوريالية المشهد السّوري لا تقلُّ غرابةً عن التَّداعي المريع للمنظومة العالميّة أخلاقيًّا وسلوكًا وضميرًا اللَّهم إلّا في الصَّدمة الَّتي ترقى إلى مستوى إنكار البعد الحقيقي لهذا السُّقوط، وعدم تصديقنا له.
منذ أن نادينا “يا حريّة” وخرجنا نطالب برفع نير ظلم ركب رقابنا لنصف قرن من الزَّمان وأكثر، تكالبت علينا الدنيا بديمقراطييها ومستبديها وليبرالييها ومتطرفيها وقُوّادها وبنات ليلها وحتّى مثلييها. ومع ازدياد سُعار الانتقام الطّائفي، لم يكن أمامنا إلّا طلب النَّجاة بأنفسنا وأطفالنا وأحلامنا كذلك، فقصدنا من ظنَّنّاهم أخوة، وطلبنا العون ممَّن خلناهم سندًا وخِلَّة. طلبنا الصَّعب هربًا من الأصعب، وهل أصعب على الكريم من بذل ماء الوجه؟ فوجدنا أنفسنا نجاور لئامًا ذلَّ جارهم كما قال الشّاعر يومًا. وهكذا بات مسمّانا الجديد بكلِّ اللُّغات لاجئين. صرت ترانا في أمكنة لسنا منها وليست منّا، تناظرنا باستغراب ودهشة واشمئزاز أحيانًا، ويزورُّ عنا أهلها ازدراءً، بل وفوقية في أحايين أخرى. صرنا نشعر بأنفسنا معلَّقين في فراغ مكان أشبه باللّا مكان، بعد أن تجاوَزَنا الزَّمان وتوقَّف بنا عند تلك الصَّيحة اليتيمة.
ومن حينه لم نعرف الاستقرار. تحوَّلت نفوسنا إلى قبائل رحُّل تلتمس الطُّمأنينة غذاءً والأمان شرابًا في أيِّ أرض وعلى باب أيِّ قوم. علقنا على حدود البشر الَّتي قسَّمت أرض اللَّه دولًا وممالك وإقطاعات، فهذا يرمينا إلى ذلك باسم الإنسانيّة، وذلك يعيدنا إلى ذاك باسم الدَّيمقراطيّة، والكلُّ يلعب بنا في الدَّوائر الرَّسميّة والحكوميّة وغير الرَّسميّة تحت غطاء الدَّعم والإغاثة وغيرها من “أغطية” أَكل عليها الزّيف وشرب، بل ومسح بها حذاءه أيضًا، لكنَّها لم تدفع عنّا أو عن أطفالنا الارتجاف بردًا وجوعًا، وعن شبابنا الموت كمدًا وقهرًا.
انقلبت أحلامنا إلى مآسي، وصنعوا منها ألف حكاية وحكاية تتلوها شهرزادات الإذاعات المسموعة والقنوات المرئيّة في حضرة شهرياريي شعوبهم؛ و”قولبوها” لتكون أحاديث تلوكها ألسنةٌ وجد أصحابها فيها بغيَتهم في تسويق ذاتهم في مجتمع يتقن السَّمع وحسب. ويتحوَّل كلُّ متسوَّل في أيِّ بقعة من بقاع الأرض إلى “لاجئ”، ولتُلصق بهذا اللّاجئ كلُّ بلايا الدُّنيا من تراجع اقتصادي وانفلات أخلاقي وتدهور ثقافي وأزمات مجتمعيّة. ثمَّ يتحوَّل إلى ورقة يلعب بها السّاسة على عقول السَّذّج من شعوبهم ليخفوا بها سوءاتهم وخواء مشاريعهم كما شهدنا ونشهد في العديد من الدُّول. لقد بات اللُّاجئ رهابًا، مرضًا وعلَّة، وأستغرب أنَّهم لم يطلعوا علينا بعد بمصطلح على شاكلة إسلامفوبيا ويتحدَّثوا عن “ملتجيفوبيا” مثلًا.
خلاصة الحديث أنَّنا يا سادة أضيع من الأيتام على مآدب اللِّئام، وهذا ما يجب أن نعترف به، ولا أظنُّنا نختلف عليه، وإن كان هذا الضَّياع بنسب متفاوتة بحسب بلد اللُّجوء. لكن الَّذي يجب أن نتَّفق عليه تاليًا هو ألّا نتوقَّف عنده. لا بد أن نقف على سبب معاناتنا في بلدان اللُّجوء وسبب الانتشار المذهل للخطاب العنصري، لنعرف كيف نداور الأمر ونساير الوضع ونرسِّخ لكرامتنا موضعها ولوجودنا قواعده في مجتمعات لا يعترف أهلها بأنَّنا نظراء لهم، فهذا قدرنا.
وفي النِّهاية، سأستعير من أحلام مستغانمي كلماتها الَّتي ضمَّنتها في كتابها “شهيًّا كفراق”، وأحور فيها لتناسب السِّياق الَّذي نحن بصدده وأقول: باختصار، نحن يتامى الحرِّيّة وثكالى الأوطان. من السَّهل لمن يريد أن “يصطاد” لاجئًا في شوارع الغربة أن يتعرَّف إلينا. نحمل سماتٍ مختلفة، ويشي بنا التّيه ونقص الحنان وذعر اليتامى السّاكن في عيوننا. إنَّنا نتاج الغرف السِّرّيّة للضّمائر.
المصدر: اشراق