لا تزال صورة تلك الفتاة الصغيرة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها وترعى إخوتها الخمسة في أحد مخيمات الشمال السوري عالقة في ذاكرتي منذ نحو عامين، شعرتُ حينها بأمومتها المكتملة وتعمّدت أن أشاهد الفيديو مرة ثانية على مرأى ابنتي ذات الأعوام الستة في محاولاتي الدؤوبة لتعريفها بالمعاناة السورية والمأساة التي يعيشها أقرانها.
بيان سليمان الطفلة التي نزحت خلال الحرب ومات والداها فوجدت نفسها أماً يتيمة لخمسة أبناء عليها أن تهتّم بهم وتطعمهم وتغسل ثيابهم ومع ذلك تبدو سعيدة.
تطلّ بيان سليمان من خيمتها المتواضعة في دارة عزة بريف حلب معبرّة بابتسامة بريئة عن خوفها من الضباع تسقط عنها ملامح قهر الأمهات، وتكمل حديثها.. “سحّاب الخيمة لا يعمل نربطه بالخيط.. ليس لدينا مال لشراء مدفأة.. نضطر لإشعال بقايا الحاجيات في التنكة لكنها سرعان ما تنطفئ فنعاود إشعالها”.
لم أرَ أيّ نظرات تعاطف من ابنتي مع بيان فقررت أن أستثير مشاعرها ليكون جوابها.. أمي بيان سعيدة وتربي أخوتها لمَ الحزن؟ وشعرت أنني لو ضغطت عليها أكثر قليلاً ستقول: “أمي بيان سعيدة أكثر مني على الرغم من أنك تغدقين عليّ بوابل من الاهتمام والرعاية، وربما ستكون في المستقبل أفضل ممّن يرتادون المدارس ويعيشون حياة طبيعية”.
يُفاجئك الأطفال بقدرتهم على التقاط الزاوية الأخرى ويُحزنك ضيق أفقنا وفقر رؤيتنا فعملية الترويض التي خضعنا لها طيلة سني عمرنا كُتب لها النجاح.
في كل مناسبة تهتم بالطفل واليتامى تتهافت الصحف والمجلات ومراكز الأبحاث على إصدار دراسات وأرقام وتوصيات لدعم هؤلاء الأطفال الأيتام وتوفير بيئة جيدة لهم، عادة لا يكترث أحد لهذه التوصيات، تتناقلها وسائل الإعلام المحلية معتدةً بنتاجها وشاعرة برضى تام عن “زخم المحتوى”، فيما تصخب شاشات “الشوشال ميديا” والقنوات التلفزيونية بالمرشدين الاجتماعيين وأخصاء علم النفس يتحدثون جميعهم عن أهمية حماية الطفولة!
يعرف هؤلاء ونحن نعرف أيضاً أن لا أحد يريد مساعدتنا وأن خيمنا مكتظة بـمثل بيان، وأن كل الجمعيات والمنظمات التي حملت على عاتقها إنقاذ الأيتام، استنفذت طاقاتها مع أول أيام الموت السورية حينما صار اليتم ثيمة تميزنا وأحد أبرز خصائصنا الفيزيائية والنفسية.
تنتهي مناسبة “يوم اليتيم” الأول من نيسان، تبقى بيان في خيمتها تصارع مخاوفها من “الضباع لوحدها”، تشبك حبالها وتربت على كتف إخوتها معلنة جولة جديدة مع حياة سلبتها كلّ شيء ومنحتها قوة مجابهة الضباع في العاشرة.
تجربة بيان وبكل قساوتها قد تكون أفضل بكثير من تجارب آخرين اعتقدوا أنهم نجوا بأنفسهم وبأبنائهم من اليُتم تلك النجاة الفردية وشعورها الواهم، لتسوقك أحاديث السوريين من منافيهم وأينما وجودوا إلى مخاوف مماثلة لمخاوف بيان وأوجاع تحاكي أوجاعها “نحن مكسورو الخاطر” يقول أحد الشبان السوريين من تركيا على الرغم من أنه تخرج حديثاً من أحد كليات الهندسة ويعمل ويعيش حياة مستقرة نسبياً.
فيما يعبّر سوريّ آخر حاصل على دكتوراه في الفلسفة من أحد جامعات تركيا العريقة “نحن مجروحون بكرامتنا.. لن ننتج فلاسفة ولا مفكرين ولا عظماء”.
لحظة وقوف صادقة مع الذات تكشف قواسم مشتركة بيننا فنهوي من أبراجنا العاجية وكراسي “التخصّص” ونعبّر عن خوفنا بعيداً عن الثرثرة، فمشهد تلك الأم الدمشقية التي أُغمي عليها عندما أبلغتها السلطات الدنماركية بإلغاء تصريح الإقامة الخاص بها منذ أشهر وبأنه يتوجّب عليها العودة إلى دمشق كونها صُنفت آمنة، يختزل الواقع ويضعنا أمام صورتنا الحقيقية بعيداً عن الخطابات والتنظير.
كفانا حزناً وعويلاً على الأطفال اليتامى كفانا تسوّلاً باسمهم فلنتعلّم منهم ونحترم مُصابهم، فلنتواضع أمام صبرهم وجسارتهم، ونُفشي لهم بأننا نحن أيضاً نخشى الضباع لكننا نخشى الاعتراف أكثر.
المصدر: إشراق