الأيتام والثورة السورية

د.م. محمد مروان الخطيب

بعد مرور أحد عشر عاماً على انطلاقة الثورة السورية، وإنسداد الحل السياسي للقضية السورية، تتكشف المزيد من المآسي التي خلفها بطش العصابة الأسدية والأطراف الدولية الداعمة لها، وإحدى هذه المآسي الإنسانية، هي الأيتام الذين فقدوا آباءهم إما نتيجة استشهادهم في غياهب معتقلات العصابات الأسدية أو نتيجة القصف الهمجي الذي كانت تتعرض له التجمعات السكانية المنتفضة على العصابة المغتصبة للسلطة.

وإن كانت لا تتوفر حالياً أي إحصائيات عن عدد الأيتام منذ بداية الثورة السورية حتى تاريخه، بسبب تعدّد القوى المسيطرة على الأرض، بالإضافة إلى النزوح والتهجير واللجوء، إلا أن بعض الإحصائيات (مؤسسة الأيتام التركية) بينت أنه يتجمع حالياً في الشمالي السوري الخارج عن سيطرة العصابة الحاكمة أكثر من 1.2 مليون طفل يتيم في الشمال السوري لا يحصلون على خدمات الرعاية والإغاثة المطلوبة في مجالات التعليم والعلاج النفسي. كما أعلنت وزارة العائلة والسياسيات الاجتماعية التركية في عام 2019 عن وجود أكثر من 2100 عائلة تركية تنتظر دورها لتبنّي أطفال سوريين أيتام. وذكرت الوزارة حينها أنّ أطفالاً سوريين أيتاماً يؤخذون بطريقة سرية إلى بلدان غربية أو يُختطفون بهدف التبنّي.

من هنا تتكشف المأساة الحقيقية لليتيم السوري في مناطق النزوح داخل الوطن ودول اللجوء حيث يواجه اللاجئون الأيتام ممن بلا معيل يسد احتياجاتهم معاناة مضاعفة، بدءاً من افتقادهم لمن يستطيع تأمين احتياجاتهم المعيشية الأساسية وصولاً إلى اعتبارهم من بعض الجهات مصدراً للتكسب والمتاجرة، إضافة إلى عمل العديد من الجهات إلى اقتلاعهم من جذورهم عبر الإختطاف والتهريب إلى بلدان أخرى بهدف التبني أو أشياء أخرى. إضافة إلى كل ذلك فإن الكثير من الأيتام يجدون أنفسهم مضطرين إلى التوجه لسوق العمل بعد أن أصبحوا هم السند والمعيل بعد تحملهم مسؤولية إعالة عوائلهم، فيما ما يزالوا هم بعمر الطفولة. حيث بات مشهد عمالة الأطفال السوريين في شمال غرب سورية واضحاً بشكل كبير، إذ أن معظم المعامل والورش الصناعية أضحت تشغل الأطفال بنسب كبيرة.

وإن كانت الحملات العسكرية الوحشية التي قامت بها عصابات الأسد والأطراف المساندة له قد تركت أثراً كبيراً على صحة الأطفال وخاصة الأيتام من الناحية النفسية، وتقدر منظمة أنقذوا الطفولة (Save the Children) أن الجيل القادم في سورية سيكبر ويعاني من صدمات نفسية وعصبية، إذ أن معظم الأطفال حالياً في مناطق النزوح يعانون من جراح نفسية يصعب دملها، ومن ضغط عصبي، وأصبح الكثير منهم أكثر عدوانية. فمن الطبيعي أن يترك اليتم آثاراً سلبية على الطفل بداية حياته، فتجربة فقد أحد الوالدين أو كلاهما من أقسى التجارب على الطفل، وتجعله يشعر بالضعف والوحدة وفقدان الأمان، وكلما كان الطفل صغيراً زادت وطأة الحدث عليه، وخاصةً في فقدان الأم والتي تلازم الطفل في فترة طفولته وتعمل على رعايته.

وحيث أن للطفل اليتيم احتياجات تزيد عن احتياجات الطفل العادي، ويحتاج لتوفرها وإشباعها مثل الحاجات الغذائية والصحية والنفسية والتربوية والاجتماعية، وإن كانت مسؤولية إشباع تلك الحاجات ورعاية الطفل اليتيم تقع أولاً على عاتق الأسرة الراعية له، إذ تحتاج تلك الأسرة لإمكانيات مادية وتوعوية بحاجات الطفل اليتيم ومعرفة الأزمات النفسية التي يمر بها وطريقة التعامل معها. وفي الدرجة الثانية تقع مسؤولية علاج ورعاية الطفل اليتيم على المجتمع المحيط، إذ أن المجتمع الذي يعيش فيه الطفل اليتيم يساعد في تخفيف الأزمات عنه، وتقع على عاتق الدولة الراعية أو الجهات المسيطرة إحداث مؤسسات متخصصة برعاية وتأهيل العائلات التي ترعى الطفل اليتيم، وتأهيل المشرفين العاملين في مجال رعاية الطفل اليتيم، وهذا ما يفتقده يتيم الثورة السورية إذ إننا نعيش في ظل غياب كامل لمثل هذه المؤسسات، وإهمال من قبل الدول الراعية نتيجة كبر حجم المأساة التي نعاني منها.

ولحجم المأسآة الإنسانية التي تشكلها ظاهرة اليتم، فقد عمدت الأديان السماوية وخاصة الديانة الإسلامية، حيث اعتنى الإسلام باليتيم عناية خاصة، بسبب الحرمان والضعف والانكسار الذى يعيشه بعد فقد معيله، وكى لا يكون الأمر محل جدل أو تأويل، فقد نص سبحانه وتعالى على ذلك صراحة فى كتابه العزيز فى غير موضع، وصار الإحسان لليتيم والتحذير من المساس بحقوقه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، ومن هذه الآيات السماوية التي تحصن حقوق الأيتام وتثمن من ثواب رعايتهم وحسن إدارة شؤونهم (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) كما توعد من يسيئ إلى اليتيم ويتجنى على حقوقهم وممتلكاتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).

وترغيباً فى مد يد العون والإحسان لليتيم، حمل القرآن الكريم بُشريات عظيمة لكافلى اليتامى والمحسنين إليهم، وتوعد المقصرين وآكلى أموالهم ظلمًا بالوعيد الشديد، وكفى كافلهم شرفاً أن يكون رفيق النبى فى الجنة، وبئس سالب حقهم مآلًا من الخلود فى النار. ومن الأمور اللافتة أن أكبر تكرار للفظ اليتيم في القرآن الكريم جاء في سورة النساء، حيث ذُكَر اليتامى بلفظ الجمع ثماني مرات، ولعلَّ في ذلك إشارة إلى قول (اللَّهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة)، كما في ذلك إشارة أيضاً إلى مقدار ما تتحمَّله النساء من تعبٍ وشدَّة في رعاية الأيتام بعد فقدان الزوج.

إلا أننا بالرغم من كل ذلك مازلنا نعيش تقصيراً كبيراً في معالجة مأساة الأيتام في المناطق الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد، إذ أننا نفتقد إلى العمل المؤسساتي المنظم، وجميع المشاريع تقوم على مبادرات فردية ترعاها جهات تؤمن الموارد المادية اللازمة والكوادر البشرية التي تدير هذه المشاريع وفقاً لمنهجيات الحالات الإسعافية، دون خطة واضحة ومنهجية عمل معدة وفقاً للأسس والمعايير العلمية، فالعديد من المشاريع تظهر إلى العلن ثم تختفي، لكون الرعاية والدعم مصدره شخصي، كما أن فكرة المشاريع تتم من خلال مبادرات فردية لم تنشئها مؤسسات طالما افتقدتها الثورة السورية منذ انطلاقتها، مما يجعل من ظاهرة اليتم حلقة ضمن حلقات فقدان العمل المؤسساتي في الثورة السورية، ويبقى أيتامنا كما مؤسساتنا عرضة للتجاذبات الدولية والإقليمية وللصراعات بين التيارات التي تعصف بالهياكل التي تحاول تصدر الثورة ومصادرة قرارها.

المصدر: اشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى