تراجع بريقها بفعل عوامل عدة تداخل فيها العالمي والمحلي والانشغال بتحديات الحياة جعل السياسة ترفاً. خبا نجم الأحزاب الأيديولوجية من المشهد السياسي الموريتاني منذ عقود، فبعد أن كان الفكر الناصري والبعثي يهيمنان على الخطاب في مدرجات الجامعة ونقابات العمال، لم تعد الأيديولوجية تستهوي المواطن العادي.
واختفت شيئاً فشيئاً أطروحات اليسار وتقهقر الإسلام السياسي في ميادين الاستقطاب الجماهيري، وعلى رغم ذلك لا تزال أربعة أحزاب ذات منطلق أيديولوجي ممثلة في البرلمان، وإن كانت نسب حضورها خجولة مقارنة بالأحزاب الوطنية.
الزمن الذهبي
وشهدت حقبة السبعينيات ذروة مجد الأحزاب الأيديولوجية الموريتانية، فظهرت حركة الكادحين اليسارية التي سينبثق منها لاحقاً حزب اتحاد قوى التقدم الذي لا يزال يمثل صوت اليسار تحت قبة البرلمان.
وفي الفترة نفسها تقريباً تشكلت حركات ناصرية وبعثية وعانى المنتسبون إليها من جحيم سجون السلطة، ومع بداية المسار الديمقراطي توزعوا بين أحزاب الطليعة والتحالف الشعبي، وقبل فترة قصيرة نسبياً ظهر حزب “الصواب” كبوتقة تضم كوادر “البعث”.
أما آخر أحزاب الأيديولوجيا التي منحت لها السلطات الموريتانية ترخيصاً فهو “التيار الإسلامي” الذي توحد في صفوف حزب “التجمع الوطني للإصلاح والتنمية” ويحتل 14 مقعداً نيابياً ويحظى بزعامة المعارضة.
وشهدت السنوات الأخيرة تراجع اهتمام الموريتانيين بالأيديولوجيا عموماً في مقابل الانشغال بتحديات الحياة اليومية التي جعلت من السياسة ترفاً لا يطمح له جل المواطنين بفعل الضغط الاقتصادي المتزايد منذ عقد من الزمن.
موت الأيديولوجيا
ويتطلب فهم الحال التي وصلت إليها الأحزاب الأيديولوجية في المعترك السياسي الموريتاني تشريح الواقع الاجتماعي لهذا البلد الذي تشترك فيه أعراق عدة مشكّلة فسيفساء بشرية يجمعها الإسلام والثقافة العربية والأفريقية.
الوزير السابق والمحامي محمد ولد أمين يرى أن “موت الأيديولوجيا قضية عالمية نتيجة لنمو الطبقة الوسطى وانشغالات الأفراد بالأمور الفردية، فالأحلام الوردية الكبرى والمثالية المفرطة تتساقط، والشيوعية القومية تقفز على القُطرية، والآن نشاهد انتهاء الأيديولوجيا الشوفينية المعروفة بالإسلام السياسي”.
وقال ولد أمين إن “المجتمعات ستفرز أيديولوجيات أخرى مثل حب البيئة والكوكب الواحد، وهذه الأفكار ستكون محط اهتمام شعوبنا خلال العقود المقبلة، لأنها هي التي تتماشى مع الوضعية الجديدة”.
بينما يعزو النائب في البرلمان الموريتاني الصغير العنيق سبب تراجع الأحزاب السياسية العقائدية إلى عجز هذه المشاريع عن إحداث التغيير المطلوب وإحداث الديمقراطية في ذواتها وعجزها عن تطبيق الممارسة الديمقراطية التي تضمن التناوب وحول جيل محل الجيل السابق له”.
وقال العتيق “أثبتت الأيام أن هذه الأحزاب ليست تقدمية ولا ديمقراطية، ولم تطبق تلك الصفات في ذاتها ولا تناوب فيها، وليست هناك فرص لإظهار أو ترك المجال لأوجه وأدمغة جديدة يمكن أن تتلاءم مع العصر”.
واعتبر أن “ضعف أو قلة إيمان قيادات الأحزاب الأيديولوجية بمشاريعها ضمن وقائع كثيرة حدثت فيها انتهاكات لحقوق الإنسان، سواء ما يتعلق منها بالسجناء أو الرق أو الاضطهاد أو التعذيب، إضافة إلى قضايا أخرى طرأت مثل ارتفاع الأسعار والنزاعات القبلية في كثير من الأمور التي تمس المواطنين مثل الإضرابات واستخدام العنف والقمع، بينما هذه الأحزاب بقيت صامتة تراقب من بعيد وكأن الأمر لا يعنيها، وهذا مما يزيد خيبة أمل الطبقات الكادحة في جدية قيادات هذه المشاريع المجتمعية المؤدلجة التي كانت بالفعل تمثل معارضة راديكالية خلال فترة زمنية معينة”.
أيديولوجيا السلطة
ويتفق المهتمون بالشأن الموريتاني على خصوصية حالتهم التي تنتفي فيها الثوابت السائدة للممارسة السياسية في العالم، ومن هذا المنطلق يؤصل الباحث إسماعيل الشيخ سيديا واقع الأحزاب الأيديولوجية بقوله إن ” أيديولوجيا السلطة ظلت مسيطرة، بحيث تتحكم من وراء حجاب في الأحزاب المؤدلجة وغير المؤدلجة، فتضرب هذا بذاك وتخرج هذا من رحم ذاك، لدرجة تجعل من العقيدة السياسية خطأ ينبغي تصحيحه”.
وأكد هذا الطرح أن أكثر الأحزاب تمثيلاً في البرلمان الموريتاني هو حزب الإنصاف الحاكم الذي لا يستند إلى أيديولوجيا ويحتل نوابه 105 مقاعد من أصل 157 بالبرلمان.
ويرى ولد أمين أن “نظام الاقتراع المعتمد في موريتانيا يؤدي إلى تشرذم الأصوات، وذلك بطبيعة الحال سيكون على حساب الأحزاب السياسية لمصلحة الأحزاب الكرتونية، أحزاب المناسبة”.
وقال إن “هذه ليست مشكلة لدى موريتانيا فقط بل هي في كثير من الدول، إذ إن بعضهم أخذ بالنظام الإنجليزي الذي انبثق عنه ثنائي القطبية الذي يؤدي إلى وجود حزبين، واحد حاكم وآخر معارض، وذلك يساعد في تنمية الأيديولوجية يساراً ويميناً”.
وأشار إلى أنه أمر مقصود لأن هذا النوع من الأنظمة يمركز كثيراً من الصلاحيات ويريد شرذمة الآخرين، وبالتالي يكون هناك قطب للنظام في مقابل معارضة ضعيفة، لافتاً إلى أن الأيديولوجية هي قضية هلامية بطبعها، وليس بالضرورة أن يكون الشخص إسلامياً أو بعثياً أو شيوعياً حتى توجد الأيديولوجية.
بينما يعتبر الباحث ولد الشيخ سيديا أن “موريتانيا تشهد حالاً قتلت فيها الممارسات السياسة والأيديولوجية والسلطة، والنتيجة تفحم للكاريزما وانعدام الزعيم الذي يخرج من رحم السياسة”.
المصدر: اندبندنت عربية