
في فترة نظام الأسد الأب والابن؛ لم يكن أسلوب الاعتقال والاختفاء القسري مرتبطاً فقط بمعاقبة المعارضين السياسيين لذلك النظام، أو حتى كأداة ردع للشعب في حال حاول الخروج من النهج الذي صنعته “الدولة المتوحشة” في تأطير المجتمع، بل كانت فلسفة الاعتقال هي للحصول على رهائن بغض النظر عن مشاركتهم في معارضة الأسد، حيث تعتمد الدول الاستبدادية عادة على معاقبة المناهضين لها بشكل مباشر، والتضييق على عائلاتهم، في حين اعتمد الأسد على العقوبة الجماعية لكل عائلة المعارض أو الناشط، وصنع ديناميات لهذا الاعتقال بشكل مؤسسي وممنهج، من لحظة وصول التقارير عن المعارضين حتى لحظة إخفائهم مع عائلاتهم، وعامل هؤلاء المعتقلين كرهائن عنده لا يقبل إدخالهم في أي مفاوضات لإطلاق سراحهم، أو حتى الإعلان عن مصيرهم أو أين دُفن الذين سلَّم لعائلاتهم بياناً أنهم قُتلوا تحت التعذيب.
وبعد سقوط الأسد بقي ملف المعتقلين الشهداء جُرحاً مفتوحاً أمام الدولة الناشئة والمجتمع المدني الذي يحاول النهوض بنفسه، وزاد من عُمقه تراكم تقارير عن تغيير نظام الأسد لأسماء أبناء المعتقلين وتوزيعهم في دور أيتام مختلفة، بُغية التعتيم على هوياتهم وطمس أصولهم، وإبقاء ذويهم في حالة من الشتات بحثاً عن أي معلومات قد توصلهم لأبناء أقاربهم الشهداء، وهُنا تَعود الذاكرة إلى مطابقة ما فعله الأسد مع ما فعله الجنرال “خورخي فيديلا” في الأرجنتين عبر قتل المعتقلين وإخفاء وتغيير هوية أبنائهم، وعما فعله المجتمع المدني الأرجنتيني في محاولة منه لمعرفة مصير هؤلاء الأبناء.
أفضى حراك “الجدات” إلى العثور على أكثر من 120 طفل من أبناء المعتقلين الذين قتلهم “خورخي”، وتوارث المجتمع المدني في الأرجنتين مشروع “الجدات” واستمر البنك الوطني للبيانات الجينية حتى الآن.
“جدات بلازا دي مايو” في وجه قاتل أبنائهم
كان سلوك الجنرال الأرجنتيني بعد انقلابه عام 1976 هو الاعتقال الواسع للمعارضين من النقابات والأساتذة الجامعيين والناشطين، وكان الاعتقال يشمل كل عائلاتهم بمن فيهم الأطفال، وكان يحرص على إخفاء أماكن الاعتقال وحتى أماكن دفن المقتولين من المعتقلين بشكل واضح، كما اعتمد “خورخي” على نشر تفاصيل التعذيب والاعتقال وحتى آليات التخلص من المعتقلين عبر (رحلات الموت) عن طريق إلقائهم أحياءً في المحيطات أو إخفاء جثثهم بنفس الطريقة، حيث اعتمد خورخي على ملف المعتقلين كأداة أساسية لمواجهة الحراك ضده، بالإضافة لتغيير هويات أطفال المعتقلين ووضعهم على لوائح التبني وفي دور الأيتام بأسماء جديدة وأصول مزيفة، ومع ازدياد حالات اعتقال الأطفال مع ذويهم، بدأ الحراك المدني في الأرجنتين يتبلور عبر مظاهرات سريعة لأمهات المعتقلين كل خميس من كل أسبوع تتم في ساحة “مايو” في وسط العاصمة الأرجنتينية “بوينس أيرس” مرتديات أوشحة بيضاء ويحملن صور أبنائهم وأحفادهم المفقودين.
استطاعت أمهات المعتقلين تدريجياً من تنظيم أنفسهن وإنشاء أرشيف لأبنائهن وأحفادهن المعتقلين، وذلك بالتزامن مع حملات مناصرة قاموا بها عالمياً لتسليط الضوء على سلوك الجنرال الأرجنتيني اتجاه الإخفاء القسري للأطفال، واستطاعوا لاحقاً أن يُنشئوا أرشيفاً اعتمدوا عليه في حراكهم الموسع بعد تنحي “خورخي” واعتقاله، حيث بدأت الجدات خطوتهم التالية بالبحث عن أحفادهن الذين غيَّر المستبد أسماءهم، وذلك عبر:
1- ابتكار قاعدة بيانات للحمض النووي عبر تأسيس “البنك الوطني للبيانات الجينية” وذلك بدعم أميركي بهدف الحصول على عينات من عائلات المفقودين.
2- أطلقوا حملة موجهة للأهالي الذي تبنوا أطفالاً في فترة حكم “خورخي” من أجل أخذ عينات من الأطفال ومطابقتها مع بيانات البنك الوطني.
3- قاموا بتنظم بيانات كل دور الأيتام في البلاد ومتابعة تسجيلاتهم ضمن فترة حكم “خورخي” وأخذ عينات جينية من الأطفال فيه ومطابقتها مع بيانات البنك الوطني.
4- إطلاق حملات تشجيع مستمر ((حتى الآن)) للأشخاص الذي يشكون بأصولهم وذلك لدفعهم من أجل تقديم عينة جينية خاصة بهم للبنك الوطني، تحت عنوان : ((إذا كنت تشك في هويتك، نحن نساعدك))
5- دفع الدولة الأرجنتينية لإصدار قانوني بتجريم التبني خارج إطار الدولة مع عقوبات مشددة.
أفضى حراك “الجدات” إلى العثور على أكثر من 120 طفلا من أبناء المعتقلين الذين قتلهم “خورخي”، وتوارث المجتمع المدني في الأرجنتين مشروع “الجدات” واستمر البنك الوطني للبيانات الجينية حتى الآن، وما زال الأفراد في الأرجنتين يقدمون حمضهم النووي للتأكد من عائلاتهم، وكان أخر المكتشفين لعائلاتهم هو “الحفيد 139” الذي عثر على عائلاته بعد 40 عاما في كانون الثاني 2025.
لا تهدف خطوات العدالة الانتقالية، أو معرفة مصير المعتقلين والوصول إلى أطفالهم الذين تغيرت هوياتهم فقط لإعادة هؤلاء الأطفال إلى عائلاتهم المتبقية، بل أيضاً من أجل ترميز الضحايا.
نحو معرفة مصير أبناء المعتقلين الذي قتلهم الأسد
فتح سقوط الأسد الباب على الآليات التي اتبعها بالتعامل مع أبناء المعتقلين، حيث كان هناك توثيق حقوقي تراكمي عن آليات الاعتقال وأساليب التعذيب وأيضاً طُرق التخلص من جثث المعتقلين من قبل المجتمع المدني السوري، ولكن كان ملف أبناء المعتقلين ضبابياً قبل هروب الأسد، ولكن تصدر الأحداث بعد انتشار إثباتات تؤكد تغيير الأسد لأصولهم واللعب بأسمائهم، مما يوجب على الدولة والمجتمع المدني الناشئ اتخاذ خطوات سريعة لمعرفة مصير هؤلاء الأطفال، فعلى صعيد الحكومة والمجتمع المدني يتوجب:
1- إصدار أوامر بمنع مغادرة العاملين والإداريين في دور الأيتام بين عامي 2011-2025 القطر.
2- تأسيس مكتب حقوقي ضمن اللجنة الوطنية للمفقودين للتحقيق مع هؤلاء العاملين والإداريين، ومتابعة أرشيف كل دور الأيتام في سورية.
3- إنشاء البنك الوطني للجينات، وذلك بدعم من المجتمع المدني المحلي والدولي.
4- تشجيع الشباب الذين خرجوا من دور الأيتام على تقديم بياناتهم الجينية لمطابقتها مع بيانات البنك المُنشأ.
5- أن تُعيد روابط المعتقلين تنظيم نفسها، بعد أن تحول عملها من حقوقي يُطالب الأسد بالكشف عن مصير أبنائهم، لعمل حقوقي وحراك محلي وطني لحث الدولة على إصدار قوانين لترميز الضحايا وتسريع ملف العدالة الانتقالية.
وبسبب تسارع الأحداث في سوريا سياسياً وأمنياً نحو الاستقرار، يتوجب أن تكون مثل هذه الخطوات سريعة، في ظل بقاء ملف المعتقلين مجهولاً، حتى على صعيد أماكن دفن جثثهم أو أين اختفى آلاف الأطفال الذي اعتقلهم الأسد مع عائلاتهم.
خِتاماً؛ لا تهدف خطوات العدالة الانتقالية، أو معرفة مصير المعتقلين والوصول إلى إطفالهم التي تغيرت هوياتهم فقط لإعادة هؤلاء الأطفال إلى عائلاتهم المتبقية، بل أيضاً من أجل ترميز الضحايا، وذلك عبر قوانين لاحقة مبنية الإعلان الدستوري الذي نص على تجريم إنكار جرائم الأسد.
المصدر: تلفزيون سوريا