
بعد الجولة الأولى من مفاوضات اسطنبول الروسية- الأوكرانية التي اقتصرت نتائجها على صفقة تبادل أسرى الحرب بين الطرفين والتوافق على مواصلة المفاوضات، التي لايملك الطرفان ترف الخروج منها، انطلق النقاش بين الأطراف على مكان الجولة الثانية. اقترح ترامب الفاتيكان مكاناً يحتضن المفاوضات، وقيل إن الفاتيكان أبدى استعداده لاستضافتها، لكن قداسة البابا لن يقوم بدور الوسيط، بل ستتولى ذلك دوائر الفاتيكان المعنية بالسياسة الخارجية. لكن روسيا رفضت العرض، وصرح وزير خارجيتها بأن الفاتيكان يقع في دولة عضو في الناتو، مما سيعرقل حركة الدبلوماسيين الروس. وأضاف بأنه يصعب تصور قيام مركز الكثلكة في العالم بالتوسط بين دولتين أرثوذكسيتين تسعى إحداهما (أوكرانيا) لتقويض الكنيسة الأرثوذكسية في بلدها.
التبريرات التي ساقها لافروف لرفض الفاتيكان، ومن ثم سويسرا مكاناً للمفاوضات، كانت تلتف على حقائق لا تريد روسيا التحدث بها، وكأنها أسرار يجهلها العالم. فقد تجاهل لافروف أن الجميع يعرف أن بوتين يتفادى التواجد في أي بلد يمكن أن يتقيد بأحكام محكمة العدل الدولية التي أصدرت منذ سنوات مذكرة بتوقيفه، بتهمة الترحيل القسري للأطفال الأوكران إلى روسيا. كما يعرف الجميع أن اوكرانيا حصلت منذ سنوات من البطريرك المسكوني في اسطنبول على السماح للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بالانفصال عن الكنيسة الروسية، وتشكيل كنيسة مستقلة.
النقاش بشأن المكان أصبح خلف المفاوضات التي انطلقت جولتها الثانية أمس الإثنين في اسطنبول عينها، وثارت شكوك بإمكانية حضور روسيا هذه الجولة بعد الضربات التي وجهتها أوكرانيا ليل السبت- الأحد لقواعد الطيران الاستراتيجي الروسي، تقع إحداها في شرق روسيا على مسافة تبعد أكثر من 4000 كلم عن الحدود الأوكرانية. وأسفرت العملية التي أطلقت عليها أوكرانيا تسمية “شبكة العنكبوت” عن تدمير 41 طائرة من سلاح الجو الروسي الاستراتيجي، قدرت المراجع الأوكرانية قيمتها بما يفوق 7 مليارات دولار. وتؤكد أوكرانيا أن الإعداد لهذه العملية جرى على مدى سنة ونصف السنة. ولم تنطلق المسيّرات من الأراضي الأوكرانية، بل من شاحنات نقل كبيرة كانت تنتظر قرب القواعد العسكرية الروسية المستهدفة، والتي قيل إن بعضها انفجر تلقائياً بعد تنفيذ المهمة.
عملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية ضد القواعد العسكرية الروسية، لم تكن رداً على الغارات الروسية في 25 المنصرم على العاصمة والمدن الأوكرانية الأخرى. وتشير إلى ذلك مدة الإعداد لها التي أعلنتها كييف، وامتدت سنة ونصف السنة. وتتباهى أوكرانيا بهذه “العملية” الخاصة، ويشير إعلامها إلى أن بعض المراسلين العسكريين الروس يطلق عليها تسمية “بيرل هاربور الروسية”، لكن ليس لدى روسيا إمكانيات الرد الأميركي على بيرل هابور. وبعض هذا الإعلام يرى أنها عملية غير مسبوقة في سنوات الحرب الروسية على أوكرانيا، ويقول إنها، وعلى غرار عملية البيجر الإسرائيلية، سوف تدخل في برامج التدريس في الأكاديميات العسكرية.
الشكوك حول إمكانية مشاركة روسيا في الجولة الثانية من مفاوضات اسطنبول، لم تقتصر على عملية “شبكة العنكبوت” فقط.. فقد تم عشية هذه الجولة تفجير جسرين على السكك الحديدية الروسية في المناطق المحاذية لأوكرانيا، وانزلق بنتيجتهما قطاران عن مسارهما، مما تسبب بمقتل عدد من الأشخاص. سارع بعض البرلمانيين والكتاب السياسيين الروس إلى إتهام أوكرانيا بالتفجيرين، لكن أوكرانيا لم تنف أو تؤكد الاتهام.
الملفت أن ترامب، وحتى مساء الإثنين، لم يكن قد علق على عملية “شبكة العنكبوت” أو عملية تفجير الجسور الروسية. وكان قد وجه انتقادات لاذعة للرئيس الروسي بعد الهجمات التي شنتها روسيا في 25 الشهر المنصرم بواسطة 300 مسيّرة على كييف والمدن الأوكرانية الأخرى. بل ونشر الإعلام الأميركي ما يراه بأن ترامب، وبعد الاتصال الهاتفي مع بوتين في 19 الشهر المنصرم، أدرك أن بوتين لا يريد إنهاء الحرب على أوكرانيا، لأنه يعتقد بأنه سيخرج منها منتصراً. ونقلت دويتشه فيله DW في 27 المنصرم عن مصادر صحيفة وول ستريت جورنال، أن ترامب يدرس تشديد العقوبات على روسيا، بعد أن شعر بخيبة أمل من تصرفات بوتين في أوكرانيا وبطء مفاوضات التسوية السلمية. ونقلت لصحيفة الأميركية عن مصادر في محيط ترامب قولها إن ترامب، وبعد المحاولات الفاشلة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في أوكرانيا، يدرس إمكانية فرض عقوبات جديدة على روسيا.
وفي تعليقات ترامب على قصف روسيا للمدن الأوكرانية، قال إن بوتين “قد جن نهائياً”. وفي تعليق آخر قال ترامب إن بوتين يلعب بالنار، وإنه من دونه (ترامب) ستشهد روسيا أشياء سيئة للغاية. وحذر بوتين من المراوغة وإطالة وقت المفاوضات، ووعد بأن رد فعل واشنطن سيكون مختلفاً، وسيُطلع بوتين بعد أسبوعين ما إن كان ماطل في المفاوضات أم لا.
البعض يرى أن تعليقات ترامب وتحذيراته، كانت أحد أسباب تغاضي روسيا عن هجمات أوكرانيا على قواعدها الجوية في عمق روسيا، وانضمامها إلى الجولة الثانية من مفاوضات اسطنبول. وقد جاءت أوكرانيا إلى المفاوضات ممسكة بورقة هذه الهجمات غير المسبوقة، وأثبتت لترامب أنها تملك أوراقاً رابحة، على عكس ما يكرره دائماً بأنها تفاوض من دون أوراق رابحة لديها، وعليها أن تخضع لإملاءات روسيا.
موقع TCN الأوكراني نشر في 2 الجاري نصاً عنونه بالقول “لدى أوكرانيا أوراق رابحة: ماذا نتوقع من محادثات اسطنبول بعد الضربة على الثالوث النووي الروسي (الرؤوس النووية، الصوايخ الحاملة والطيران الاستراتيجي الناقل)؟”.
استهل الموقع نصه بالتباهي بالضربة الأوكرانية غير المسبوفة للطيران الاستراتيجي الروسي، وقال، قبل أن يصعد إلى الطائرة أعضاء الوفد الروسي إلى المفاوضات، شهدوا بأم عينهم أنه في وقت قريب جدًا لن يكون لديهم ما يستقلونه للطيران، ولن يتمكنوا من تهديد العالم بالرماد النووي.
ويرى الموقع أن عملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية ستترك بالضرورة تأثيرها على المفاوضات مع روسيا في اسطنبول، وتظهر لترامب أن لدى أوكرانيا أوراق رابحة في المفاوضات مع روسيا.
نقل الموقع عن Axios قولها إن أوكرانيا أطلعت إدراة ترامب مسبقاً على تنفيذ عملية “شبكة العنكبوت”. لكن مواقع روسية ذكرت أن المطبوعة الأميركية عادت وبدلت نصها بأن أوكرانيا لم تطلع الإدراة الأميركية مسبقاً على العملية.
أشار الموقع إلى أن ترامب والناطقين بإسم البيت الأبيض والخارجية لم يعلقوا رسمياً بعد على العملية الأوكرانية وكيف تم تنفيذها. ويذكّر بأن ترامب يردد دائماً أن أوكرانيا لا تملك أوراقاً رابحة في مفاوضاتها مع روسيا، ولولاه لكانت أوكرانيا قد خسرت هذه الحرب منذ زمن طويل. ومنذ مدة طويلة يوحي ترامب لأوكرانيا والعواصم الأوروبية أن أوكرانيا تخسر هذه الحرب، ولذلك فلتوافق حتى على الشروط غير المواتية لتعليقها، والتي تُعرض عليها الآن بمساعدة الإدارة الأميركية الحالية.
قال الموقع إن إعلام الكرملين لم يأت على ذكر عملية “شبكة العنكبوت” طيلة يوم الأحد في مطلع الشهر الجاري. وبحلول مساء الأحد أعلنت وزارة الدفاع الروسية بشكل مقتضب عن صد هجمات إرهابية على المطارات العسكرية الروسية في مناطق متباعدة في البلاد.
وعن أثر العملية على المفاوضات في اسطنبول، رأى الموقع أن عملية “شبكة العنكبوت” الخاطفة، بينت أن اوكرانيا بوسعها توجيه الضربات للمواقع العسكرية الروسية في أعماق روسيا. وذكرّ بأن القاعدة العسكرية في سيبيريا تقع على بعد 4.3 ألف كلم عن الحدود الأوكرنية.
المصدر: المدن