
في تحوّل بموقفها بشأن أحد أقدم النزاعات الإقليمية في أفريقيا، أعلنت بريطانيا دعمها القوي مقترح الحكم الذاتي المغربي للصحراء الغربية، لتصبح بذلك ثالث دولة دائمة العضوية داخل مجلس الأمن، بالإضافة إلى أميركا وفرنسا، تعتبر المقترح الذي تقدّم به المغرب قبل 18 سنة “الأساس الأكثر مصداقيةً وواقعيةً وقابليةً للتطبيق” لحل هذا النزاع المستمر منذ نصف قرن. وثمّة اليوم أكثر من 115 دولة تؤيد المقترح المغربي بديلاً عن استفتاء تقرير المصير الذي تطالب به جبهة بوليساريو والجزائر التي تدعمها عسكريا وماليا وسياسيا ودبلوماسيا. ولذلك كان انتظار رد فعل الجزائر على هذا التحول مهما، وخصوصاً أنها لم تبادر إلى استدعاء سفيرها في لندن أو تجمد علاقاتها معها كما سبق أن فعلت عندما أقدمت إسبانيا وفرنسا على الخطوة نفسها. لكن الملفت في بيان وزارة الخارجية الجزائرية ليس فقط نبرته المعتدلة في التعاطي مع الموقف البريطاني الجديد من هذه القضية التي يعتبر دعمها من بين التوجّهات الكبيرة للدبلوماسية الجزائرية والثوابت الأساسية في سياستها الخارجية، بل أيضاً الإشارة إلى أن “المقترح المغربي لم يتم عرضه على الصحراويين كأساس للتفاوض”. وإذا علمنا أن هذا المقترح يطرحه المغرب على طاولة التفاوض، ونصه موجود على الإنترنت ومتوفر لوسائل الإعلام، فإن الإشارة الجزائرية هنا قد تحمل قراءة أخرى تُلمح إلى بداية تقبلها مناقشة المقترح المغربي أساساً للتفاوض، فهل يتعلق الأمر بالتمهيد لتحول مقبل في الموقف الجزائري من هذه القضية؟
تدفع عدة مؤشرات إلى مثل هذه القراءة، فقد صدرت أخيراً عدة تصريحات تؤكد أن المقترح المغربي بات يفرض نفسه حلاً وحيداً لهذا النزاع، منها تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي جاء في بيان صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، في إبريل/ نيسان الماضي، يحثّ فيه الأطراف على “الانخراط في مناقشاتٍ من دون تأخير باستخدام مقترح الحكم الذاتي المغربي إطاراً وحيداً للتفاوض على حل مقبول للطرفين”. ويؤكد البيان نفسه أن الولايات المتحدة “لا تزال تعتقد أن الحكم الذاتي الحقيقي في ظل السيادة المغربية هو الحل الوحيد الممكن”. ولأول مرّة، تستعمل الخارجية الأميركية كلمة “حقيقي” مرادفة للحكم الذاتي، في إشارة إلى طبيعة (ونمط) الحكم الذاتي الذي تسعى الإدارة الأميركية لدعمه في المنطقة. وسوف نجد تقاطعاً كبيراً بين هذا التصريح وما جاء في الورقة التي قدّمها مبعوث الأمين العام للصحراء الغربية ستيفان دي ميستورا، في منتصف إبريل الماضي، أمام مجلس الأمن، وفيها أنه تلقّى ثلاث رسائل من السلطات الأميركية، الأولى مفادها أن الحكم الذاتي يجب أن يكون “جادّاً”، ولذلك طالب المغرب بأن يَشرح بمزيد من التفصيل مبادرته، ويوضح الصلاحيات التي سيتم تفويضها لكيان يتمتّع بالحكم الذاتي “الحقيقي” في الإقليم المتنازع عليه. والثانية تتعلق بضرورة أن يكون “الحلّ مقبولاً للطرفين”. والثالثة أن تنخرط واشنطن مباشرة في تسهيل التوصل إلى حل متفق عليه.
المقترح المغربي بات يفرض نفسه حلاً وحيداً لهذا النزاع
هذا التناص بين التصريح الأميركي وورقة المبعوث الأممي، واستعمال الكلمات نفسها، أمر جديد ويحمل عدة مؤشرات تدعو السلطات المغربية إلى أخذ الكثير من الحيطة والحذر في التعاطي مع الاستحقاقات المقبلة التي تنتظر هذه القضية، لأن مطالبة واشنطن، التي تعتبر “صاحبة القلم” بخصوص هذا النزاع داخل مجلس الأمن، والمبعوث الأممي الذي يقدم قراراته النهائية إلى المجلس نفسه للمصادقة عليها، بأن يكون الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب “حقيقيا” و”جادّا”، ودعوة الرباط إلى تقديم تفاصيل أكثر حول مبادرتها، قد يعني أن ما هو مطروح حالياً للنقاش “غير جاد” و”ليس حقيقيا”، كما قد يعني مزيدا من الضغط على الرباط لتقديم تنازلاتٍ أكبر بذريعة “تجويد” الحكم الذاتي المقترح إقامته في إقليم الصحراء، وربما إقامة “كردستان” جديدة في جنوب المغرب، على غرار كردستان في شمال العراق وشقيقتها التي تسعى واشنطن إلى إقامتها في شمال شرقي سورية، بما أن هذه هي التجارب “الناجحة” التي قد تدعي الإدارة الأميركية أنها أشرفت على إقامتها في المنطقة العربية بهدف الحفاظ على استمرار مصالحها داخلها.
هل تقبل بنية الدولة المغربية المركزية كما هي عليه اليوم استيعاب بنية مستقلة، حتى لو كانت تحت سيادتها وداخل حدودها الترابية؟
وبالعودة إلى المقترح المغربي الموجود على الإنترنت، تقترح الرباط منح إقليم الصحراء حكماً ذاتياً في إطار السيادة والوحدة الوطنية والترابية المغربية. ويكفل المقترح لسكان الإقليم أن يتولّوا تدبير شؤونهم بأنفسهم بشكل ديمقراطي، من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية تتمتع باختصاصات حصرية. وفي المقابل، تحتفظ الدولة المغربية باختصاصاتها في مجالات السيادة، ولا سيما العلم والنشيد الوطني والعملة، لكن أيضا الدفاع والعلاقات الخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية للملك بوصفه “أمير المؤمنين”، كما ينصّ على ذلك الدستور المغربي. وفي نص المشروع المغربي للحكم الذاتي نقرأ أنه “مستلهم من مقترحات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومن الأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافيا وثقافيا”، وأنه “مشروع يقوم على ضوابط ومعايير متعارف عليها عالميا”.
من يقرأ المشروع المغربي للحكم الذاتي يجد أن “السلطة الصحراوية” التي ستتولى إدارة الإقليم المتنازع عليه سوف تتوفّر على صلاحيات واختصاصات لا تتوفر عليها السلطة الفلسطينية في رام الله. وبالنسبة للرباط، مشروعها مطروح على طاولة المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة، ما يعني أن ثمة إمكانية لمناقشته ومراجعته مع أطراف النزاع الأخرى التي سوف تكون لها مطالبها الخاصة. فهل تقبل بنية الدولة المغربية المركزية كما هي عليه اليوم استيعاب بنية مستقلة، حتى لو كانت تحت سيادتها وداخل حدودها الترابية؟ وكيف ستنظر المناطق الأخرى المغربية إلى الصلاحيات والاختصاصات الاستثنائية للبنية الجديدة؟ إن الفرحة التي يبديها بعضهم بخصوص ارتفاع وتيرة الاعتراف بالمقترح المغربي، واعتباره الحل الوحيد الأكثر قابلية للتطبيق، وبالتالي، التفاؤل المعبّر عنه أن هذه القضية قد تجد حلّا لها في غضون أشهر فقط، ليست فقط غير واقعية، وإنما تبدو مبالغاً فيها بطريقة دعائية لا تأخذ بالاعتبار المخاطر الكبرى التي قد يحملها حل من هذا النوع، ليس فقط لأقدم نزاع في القارّة السمراء وإنما لمنطقة شمال غربي أفريقيا برمتها المهدّدة بالتشظّي، إذا لم تبادر إلى حل مشكلاتها داخل حدودها وبين دولها، وبما يراعي مصالح شعوبها أولاً وأخيراً.
المصدر: العربي الجديد