ثمة إشكالية تواجه الحديث عن المصير العربي الواحد والدعوة إلى التزام إستراتيجية موحدة للحفاظ على الأمن العربي والدفاع عن الوجود العربي ومكوناته المتعددة في مواجهة كل عدوان من أي مصدر.. في كل مرة يثور حديث من هذا القبيل أو تطرح دعوة لتبني مثل تلك الإستراتيجية؛ تتصدى له فئات من أبناء البلاد العربية بالرفض والسخرية والتهكم والهجوم على العروبة. تنافح عن انتمائها الوطني – الإقليمي معتبرة إياه انتماء نهائيا يتعارض مع أي انتماء آخر.. مرة بحجة الواقع العملي ومرة بحجة التعارض المصلحي.. ومرة بدوافع عقائدية ترفض العروبة كهوية توحيدية جامعة فوق الوطنية.. أو رافضة لكل ما هو وطني وعربي معا ومعهما كل التزام بهوية جامعة أو مصير واحد أو أمن موحد..
لكل فئة منها منطلقات مختلفة ودوافع فكرية او مصلحية خاصة بها تبرر بها رفضها لذلك المنطق المسمى قوميا بمعنى أنه ينظر للعرب كأمة واحدة وبالتالي فإن مصيرها واحد ويجب أن تتصدى للمخاطر عليها بأيد متشابكة متعاونة..
بعضها يكتفي بالسلبية حيال مسألة الهوية وتوابعها. بعضها يحاول طمسها وإضعافها. وبعضها الآخر صار لها عدوا يحاربها ويعاديها ولا يكتفي بالتنكر لها فكريا أو ثقافيا..
١ – الفئة الأولى:
تلك التي ترفض الاعتراف بالأمة العربية أصلا. حجتها أنه لم توجد دولة عربية واحدة في كل مراحل التاريخ. وبالتالي ليس من الموضوعية المطالبة بدولة عربية واحدة الآن.. كما أنه لا وجود لأمة واحدة عربية تكونت تاريخيا وانصهرت شعوبها ومجموعاتها البشرية في مجتمع واحد موحد. بل بقيت شعوبا وقبائل وجماعات إثنية وعرقية مختلفة متعددة غير متجانسة فلا تشكل أمة واحدة..
على ضوء فهمها هذا، تسقط من اعتبارها الحاجة الى البحث في المصير العربي الواحد. حيث لا كيان عربيا موحدا.. إذن فهي ترفض العروبة من منطلق عقائدي لا يعترف بتكونها تاريخيا وراهنا.. هذه الفئة لا تتمسك حتى بهوية وطنية – إقليمية بل تكتفي غالبا بتفكيك مكونات الأمة إلى وحدات تجزيئية انعزالية متضاربة أو متصارعة مصلحيا متناحرة عرقيا وإيديولوجيا..
يلاحظ هنا توافق هذه النظرة لكيان الأمة مع نظرة قوى النفوذ الأجنبي التي تعمل للسيطرة على الأمة واستعمارها انطلاقا من تفكيك مكوناتها كما يحصل عند فصل جزيئات الهيدروجين عن ذرات الأوكسجين المكونة للماء. وحين فصلها عن بعض لا يعود هناك ماء وتختفي ذرات الماء من الوجود ويتبخر الأوكسجين والهيدروجين في الهواء. وتنتفي الفائدة منهما والحاجة إليهما، فهل هذا التوافق مجرد مصادفة عبثية أم أن وراءه مصالح وارتباطات وتدخلات ممتدة متنوعة؟؟
٢ – الفئة الثانية:
تلك التي تنظر للعروبة كانتماء عرقي يختص به العنصر العربي المنحدر من الجزيرة العربية وينتمي إلى قبائل العرب الأوائل. وبالتالي تسمي الفتوحات الإسلامية غزوا عربيا بل احتلالا عربيا لبقية البلاد المسماة عر بية حاليا وما هي كذلك. فالعرب الآتون من الجزيرة العربية حاملين معهم راية الإسلام؛ احتلوا بلاد الشام والمغرب الأقصى والجزائر واستعمروها فطمسوا هويات أبنائها الأصليين الأساسية طيلة قرون.. أما وقد آن أوان التحرر من ذلك الاحتلال العربي في هذا الزمن حيث الحريات والديمقراطية وحق تقرير المصير باتت من أساسيات الثقافة العالمية ومن ثوابت النظام العالمي الليبرالي.. فينبغي رفع الصوت عاليا للمطالبة بالتحرر من نير العروبة وطلب المساعدة من العالم الحر لتحقيق ذلك المطلب وإعادة الأمور إلى نصابها التاريخي الذي كانت عليه عشية الغزو الإسلامي. فهي أيضا ترفض العروبة من خلفية عقائدية شعوبية..
يلاحظ عند هذه الفئة توافق إستراتيجي مع المشروع الاستعماري الأمريكي الصهيوني ونظرته التفسيرية التجزيئية للتاريخ العربي..
لذا حصل توافق سياسي بينهما وتعاون ميداني تبلور في دعوات ثقافية وحركات سياسية وتنظيمات حزبية تشترك في عدائها للعروبة وتعاونها مع القوى الأجنبية الخارجية وسعيها لتشكيل كيانات انفصالية معادية حتى لمحيطها الوطني..
هذه الفئة ودعوتها الانفصالية شكلت الحاضنة الثقافية والقاعدة التبريرية لما سمي تحالف الأقليات التي أوقعت نفسها في براثن النفوذ الأجنبي واختارت سبيل التعاون معه والرضوخ لإستراتيجياته التقسيمية الانفصالية المعادية للوجود العربي..
٣ – الفئة الثالثة:
تلك التي تكون لديها خوف من الانتماء العربي (فوق الوطني) فبات يشكل بالنسبة إليها عالما غريبا غير مرغوب فيه.. وقد تشكل هذا الخوف عبر الممارسة الوظيفية الممتدة لأنظمة سايكس – بيكو بما تملكه من مؤسسات التثقيف والتوجيه والتربية عبر أنظمة التعليم والتدريس وتسويق السياسات. فقامت بتأسيس منظومة تثقيفية مترابطة متكاملة تبرر انسلاخها وتقوقعها إلى حدود الوطن – الإقليم بعيدا عن اي ارتباط أو التزام بما يعلوه ويضمه بالهوية الأشمل. وهكذا نشأت أجيال شبابية لا تعرف عن انتمائها العربي إلا ما درسته في مؤسسات ومدارس ومعاهد الإقليمية وأنظمتها التجزيئية.. وكان للإعلام الدولي المملوك لقوى النفوذ الأجنبي دور مكمل فعال في تكريس هذا الخوف وتثبيته وتجسيده في معطيات عملية حياتية مباشرة..
# الذوبان:
أول مقومات هذا الخوف تمثل في فكرة الذوبان…ذوبان الجزء في الكل.. مع ما يعنيه من إلغاء الخصوصيات الوطنية المحلية بكل ما فيها من ارتباط بالبيئة المحلية وتلازم بينها جميعا. وبكل ما فيها أيضا من ثراء واختلاف موضوعي سببه التاريخ أو الجغرافية أو كلاهما معا..
ومثلت هذه الفكرة معنى إلغائيًا للوطني لصالح الاندماج في الآخر إلزاميا.. فحمل الاندماج معاني الاستبداد والفرض وهو ما لم يكن صحيحا بأي شكل أو طرح عربي عام. ولم يقله أحد من العرب العاربة أو المستعربة أو المتعربة..
# السطو:
ترافق الخوف من الذوبان والإلغاء بفهم مغلوط آخر تمثل بفكرة السطو. بمعنى أن إلغاء الخصوصية الوطنية هو مقدمة لسطو الآخر العربي على المكتسبات الوطنية والثروة الوطنية حيث تتفاوت مستويات الدخل بين بلد وآخر.. وقد بلغت حرب التخويف هذه حدا أصبح معه شعار ” العمل العربي يعني تعميم الفقر ” متداولا إمعانا في تحريض المواطن العربي على رفض متطلبات العمل العربي المشترك تجسيدا لوحدة المصير العربي..
# التخلف:
إن اختلاف المستوى التعليمي أو الثقافي أو الفكري بين الأقاليم – الأوطان؛ شكل مادة إضافية في حرب التخويف. تخويف الوطني من العربي والفصل بينهما، فراح البعض يتبجح برفض الالتزام بالعربي المشتركة لأنه سيشكل هبوطا في مستواه الثقافي أو الفكري، متأثرا بحملات التحريض المستمرة المتواصلة المتصاعدة دوما لتخويف الوطني من القومي والفصل بينهما. مع ما يعنيه هذا من إلغاء فكرة المصير العربي الواحد أو تجسيدها في إستراتيجيات مرحلية موحدة لصون الأمن العربي المهدد والمستباح. أمن الأجزاء وأمن الكل..
وهكذا مثلت هذه الفئة شريحة مهمة من الرأي العام الوطني الذي بات متخوفا مما هو عربي أو متبرئا مما يتطلب التزاما عربيا فوق وطني. لم يكن دافعها عقائديا بل كان مصلحيا. فهي فئة لا تعادي العروبة ولا تتنكر لها أو ترفضها بل تتنصل من التزاماتها بدوافع مصلحية..
٤ – الفئة الرابعة:
انفعالية غاضبة: وهي ذلك القطاع الواسع من أبناء العروبة المؤمنين بها المتطلعين اليها لتحقيق مكتسبات نضالية شعبية واجتماعية ووطنية بفعل الالتزام بها. قسم كبير من هؤلاء كان منخرطا ميدانيا في حركات سياسية نضالية تناشد العروبة او تتبناها ولكنها لم تلق استجابات كافية أو لم تتحقق لها إنجازات وطنية معتبرة فراحت تحمل المسؤولية لنكوص مفترض موهوم للعروبة عن التزاماتها والبعض راح يتهم العروبة نفسها او يتهم الإنسان العربي ذاته بالتشوه أو النفاق أو الجبن أو التخلف والاستكانة للظلم والإذلال.. وكأنه يعاني من اختلال في التكوين النفسي أو التركيب الجيني العقلي – الثقافي بما يمنعه من التجاوب والتحرك والفعل والتأثير. وليس الأمر كذلك طبعا. إن استبعاد مقتضيات تجسيد العروبة فعلا وعملا، هو المسؤول عن أي تقصير أو نكوص.. وحين تكون الهوية الجامعة مترجمة في برامج عملية فإن انجازات ستتحقق ومكاسب كبيرة ستظهر وتبقى محمية مصانة..
ولعل قضية فلسطين العربية كانت ساحة واسعة لاختبار هذه المقولات الانفعالية حيال الهوية والانتماء. فصار كل تقصير رسمي إقليمي ينسب زورا إلى العروبية لدفع الشعب الفلسطيني العربي إلى اليأس من العروبة ومن إمكانية تفاعل العرب ومشاركتهم الإيجابية معه؛ مما يضعف مناعته وقوته ويجعله أكثر استعدادا للتراجع عن متطلبات النضال. ولو نفسيا في أقل تقدير..
وهكذا حيال كل بلد عربي تعرض لعدوان إقليمي أو خارجي أو حرب داخلية. بدءا من الحرب في لبنان إلى السودان ثم العراق فاليمن فسورية وليبيا..
ولقد كان للسياسة الإقليمية ذاتها الأثر الأكبر في هذا الانفعال الغاضب.. حيث أن تحميل مسؤولية الخيبات أو عدم الإنجاز للعروبة في الوقت الذي تسيطر فيه الإقليميات الوطنية على كل أسباب القوة والسلطة والسلطان؛ ولا تتجسد العروبة في مؤسسة تعبر عنها وتبرمج الالتزام بها؛ كان منهجا مبرمجا مشتركا بين القوى السلطوية الإقليمية وقوى النفوذ الأجنبي وكلاهما يعادي العروبة ولا يريد لها تجسيدا عمليا مؤثرا يشد أبناءها إلى بعضهم يقويهم في حين أن مطلب تلك القوى مجتمعة هو إضعافهم باستمرار..
وقد لعبت الصراعات الجغرافية الحدودية بين الكيانات الإقليمية؛ والصراعات السلطوية السياسية والاقتصادية والإجرائية والإعلامية بين الدول الأجزاء والأقاليم دورا حاسما في تأجيج مشاعر الانفعال الغاضب بين أبناء الأقاليم – الأوطان.. الأمر الذي شكل دفعة قوية لبلورة تلك المشاعر المبتعدة عن مقتضيات المشترك العربي والمتخوفة منه إلى أن صارت عوائق في طريقه تضاف إلى عوائق القوى السلطوية التجزيئية الحاكمة. وهي صراعات صنعتها سلطة الإقليمية الانعزالية ذاتها…فالقوى الإقليمية أساسا معارضة للمشترك العربي ومحاربة له بحكم تكوينها الوظيفي وفكرها القاصر العاجز عن فهم الانتماء تاريخيا وترجمته إستراتيجيا..
٥ – الفئة الخامسة:
فئة معادية للوطني وللعربي معا. ترفع لواء الدين وتتخذ من الإسلام عنوانا لخط رئيسي ومن المذهبية الانقسامية إستراتيجية تفصيلية سياسية وثقافية وعقائدية أيضا..
وهي فئة قديمة لكنها مستجدة حيث أعادت انطلاقتها بزخم منذ ثمانينات القرن العشرين بفعل ثلاثة عوامل أساسية:
# – الاول:
قيام الحكم الديني لولاية الفقيه في إيران وما صاحبه من نهج إستراتيجي يعتمد على التحريض المذهبي للشيعة العرب على انتمائهم الوطني والعربي بغرض خلق شعور الأقلية المضطهدة فيهم وتحويلهم إلى قاعدة متقدمة وجسر عبور لمشروعه الامبراطوري التوسعي المعادي للعرب وللعروبة معا. وقد نجح الى حد بعيد في خلق مثل هذا الشعور الانعزالي لدى قطاع منهم أصبح ولاؤه لولاية الفقيه وارتبط بها مصلحيا ووجوديا فبات منسلخا عن كل ولاء وطني أو عربي. وبالتالي أصبح أحد معوقات العمل العربي الذي يترجم المشترك العربي في مواجهة تحديات الأمن والحرب على الوجود والمستقبل..
# – الثاني:
تبني بعض النظم السلطوية العربية الملتزمة نهج العداء للعروبة؛ لحركات سياسية تنسب نفسها للإسلام بنهج مذهبي انقسامي متنكر لكل انتماء وطني أو التزام عربي؛ مشابه للمنهج الإيراني ومتكامل معه.. وصار معاديا لكل ما يترجم فكرة المصير العربي الواحد او ما يعبر عن الهوية الواحدة العربية حركيا وفكريا أيضا. وكان أنور السادات المتصهين أول من دشن هذا الفعل. تبعه الحسين والحسن الثاني..
# – الثالث:
تحول تركيا المفاجئ للإسلام بعد أن كانت سلطة علمانية تحكمها المؤسسة العسكرية. ومع هذا التحول للحديث عن الإسلام والهوية الإسلامية ثم ما ترافق معها وصاحبها من إشارات واضحة للإمبراطورية العثمانية وامتداداتها الجغرافية، ما جعلها تمد جسور الدعم والرعاية لأجنحة سياسية إسلامية ذات نهج مذهبي انفصالي رافض للعروبة متطلع نحو دولة خلافة إسلامية مقرها تركيا..
وهكذا صادرت من هؤلاء انتماءهم وهويتهم وجعلت منهم عائقا أمام أي مشترك عربي يترجم الهوية والمصير الواحد.. وهكذا صارت هذه الفئة من أكثر الفئات تنكرا لكل ما هو وطني وعربي أيضا وصار ولاؤها خارجيا بمسميات مذهبية دينية شعوبية..
فانضمت إلى الفئات الأربعة الأخرى المناهضة للهوية وإن كانت تبدو أشدها خطرا لأسباب عديدة..
ولقد شهدت تجربة الثورة السورية وما تلاها من حرب تدميرية لاحتلال سورية وتقسيمها واقتسامها؛ تطبيقا عمليا لكل مقولات تلك الفئات المعادية للهوية العربية ولكل ما هو مشترك عربي. وتجسدت في مساراتها كل تلك المبررات العدوانية الانفصالية المعادية لسورية العربية ولشعب سورية ولارتباط مصيره ووجوده بالمصير العربي الواحد..
من تحالف الأقليات إلى النوازع الانفصالية الكردية إلى تخريب الميليشيات الدينية والتدخلات الإقليمية الى فساد النظام الإقليمي وارتهانه للأجنبي وعجزه عن رؤية المصالح الوطنية للشعب إلى الاحتلالات الأجنبية ومطامعها المدمرة إلى ارتهان الجماعات المذهبية لولاءات خارجية غير وطنية …وهكذا كانت سورية مسرحا لاختبار جميع تلك الأطروحات المضللة حتى تغطي المشروع التدميري الأجنبي المعادي.. وحتى تجد مبررات لكل عدوان على الشعب السوري ومنعه من تحقيق حريته وحماية مصالحه الوطنية في إطار هويته العربية الموحدة..
القاسم المشترك لجميع تلك الأطروحات المعبرة عن القوى المحلية والإقليمية والدولية المعتدية على سورية كان ولا يزال منع الشعب السوري من التحرر والانتصار..
في حين يترك شعب فلسطين يواجه العدوان الصهيوني – الأمريكي عليه منفردا أعزل مجردا من أية قوة عربية تسنده وتحميه؛ وسط موجة عاتية شرسة جدا لاقتلاعه من أرضه لتكون فلسطين ساحة ومنطلقا لإهدار هوية المنطقة كلها وتفكيك مكوناتها التاريخية والحضارية واستئصال فكرة المصير العربي الواحد..
# – التطبيع:
وقد استجمعت قوى التطبيع مع العدو الصهيوني كل زخم العقل الإقليمي المتصادم مع الهوية الجامعة وما يحمله من خلفيات مصلحية وقصور فكري وعوج نفسي؛ في سبيل تدمير جدار المناعة الذي يستند إلى الهوية التاريخية المشتركة للمنطقة والأرض والإنسان؛ وصولا إلى ” إسرائيل ” الكبرى وحكم بني صهيون.. وهكذا تنهار مقولات الأمن العربي ووحدة المصير والمشترك العربي أمام ضربات التسلط الإقليمي – الانعزالي – المذهبي المعادي للهوية الموحدة والمتماهي مع النفوذ الأجنبي ومشاريعه التدميرية.. وليس ابلغ دلالة على هذا أن جميع تلك المقولات ومن يمثلها في حالة انسياب كامل مع المشروع الأمريكي الصهيوني الجاري تنفيذه للمنطقة العربية كلها. ليس فيها أي جزء بعيد عن تفاعلاته وأطماعه وأحقاده الزاحفة القادمة..
يتضح من هذا الالتقاء بين الدعوات المعادية للهوية الموحدة باسم المخاوف الوطنية أو تلك الدعوات المعادية للوطنية وللهوية معا؛ وبين مرتكزات المشروع الاستعماري للمنطقة كلها وتأويلاته التضليلية العدوانية؛ أنها دعوات مشبوهة ساقطة مهما تمتعت بالحماية الإقليمية والدولية لأنها مناقضة لوقائع التاريخ والتكوين وضرورات الجغرافية السياسية إستراتيجيا..
إن البعد العربي يشكل إضافة نوعية مصلحية لأية قضية وطنية أيا كان مجالها أو ميدانها..
إن حقائق التاريخ جميعا تؤكد وحدة المصير وغياب أي تناقض موضوعي او حتى مصلحي بين ما هو قومي وما هو وطني..
إن توزع القدرات والموارد والطاقات على امتداد الأرض العربية يجعل منها كتلة متكاملة تضامنية لا تعيش بغير اتحاد القوة بين الجزء والكل. وكأنه توزع علمي لا يترك جزءا بمفرده قادرا على الاستغناء عن الآخر.. وكأنه بستان تنوعت ثماره لتطعم جسدا واحدا..
إن أية مشاعر وطنية خائفة أو عاتبة أو انفعالية حيال المشترك العام؛ إنما هي مشاعر غير أصيلة وغير متأصلة في النفس العربية؛ بل استدعتها أحداث صنعتها وتتحمل مسؤوليتها قوى التسلط الإقليمية الحاكمة منذ قرن من الزمان. ولن تلبث أن تزول عند أول ظهور لرؤية عربية شاملة يجسدها مشروع عربي متكامل ببرامج بناء مرحلية متصاعدة..
إن وحدة الوجدان العربي ليست وليدة مصالح فئوية او أحداث عابرة لكنها نتيجة تفاعلات تاريخية حضارية ثقافية أخلاقية ممتدة في عمق التاريخ ولن تستطيع قوى البغي والعدوان اجتثاثها من النفس العربية مهما إدعى المنافقون والمستزلمون لقوى النفوذ الأجنبي..
إن عجز أي جزء من الكل عن حماية ذاته تكفي لتأكيد فعالية الهوية وأصالتها ومقدرتها على حماية الجميع..
إن العروبة إضافة لكل تفاصيل الحياة الجزئية وليست إغفالا لأية خصائص محلية لها أو إهدارا لأية مكتسبات وطنية أو موارد محلية بل العكس هو الصحيح علميا وموضوعيا حيث لا يتوفر في أي جزء ما يكفيه للحياة أو الاستمرار الذاتي دون أن يلتهمه اندفاع العولمة الرأسمالية المفترسة..
النفوذ الأجنبي لا تربطه أية قيم ثقافية أو سلوكية أخلاقية بالمنطقة وابنائها ودينها وتاريخها. فالمنطقة ليست بالنسبة إليه إلا موردا طبيعيا وسوقا استهلاكية.. وليس لديه ما يربطه بها غير مصالحه الاستعمارية وأطماعه اللامحدودة..
أما من يحمل الهوية الموحدة فإنما يعبر عن أصالتها ووحدة تاريخها ووجدانها ومصالحها أيضا.. ورغم هذا الكم الكبير من الحقائق النوعية عن ذلك الترابط المتين العريق العميق بين ما هو وطني يخص الإقليم؛ وما هو أوسع قاعدة يشمل الهوية الأعم؛ إلا أنه يلزم مزيدا من الحديث عن الهوية الواحدة وترجمتها إلى مواقف وأفكار وبرامج عملية فاعلة.. فهل هي قادرة في ظل الواقع الراهن على أن تجد لنفسها ترجمة ميدانية موحدة فعليا مؤثرة عمليا؟؟
كيف؟ وعلى من تقع مسؤولية ذلك؟؟