
نتيجة للفظائع التي ارتكبها النظام بحق سوريا والسوريين في مواجهة الثورة السورية في عام 2011، شهدت البلاد واحدة من أكبر موجات التهجير الداخلي والخارجي في العصر الحديث، فانتشرت المخيمات على طول الحدود في الشمال، إضافة لعبور ممرات الموت نحو أوروبا وغيرها من الدول، حيث اضطر ملايين السوريين إلى مغادرة منازلهم هربًا من الاعتقال والقتل والدمار. نظر المهجرون إلى المخيمات كأماكن “مؤقتة”، لكنها تحوّلت في كثير من الأحيان إلى “محطات انتظار دائمة”، ورغم الظروف الإنسانية القاسية التي حاصرت قاطنيها التحديات العديد، إلا أنهم تمكنوا من بناء “مجتمعاتهم” الصغيرة في مخيماتهم وفي بلدان اللجوء.
اليوم، وبعد سبعة أشهر من الخلاص من الحكم الأسدي، وزوال السبب الذي دفع كثيراً من السوريين إلى النزوح، لا تزال العودة تعاني من صعوبات كبرى، حيث يصبح “المخيم” المكان المفضل على العودة، نتيجة لعوامل عدة، أهمها الدمار الهائل في البيوت، وللواقع المعيشي لقاطني المخيمات، بمعنى آخر غياب مقومات الحياة بحدوها الدنيا.
كان يعيش أكثر من مليوني نازح ومهجر في مخيمات الداخل السوري، (محافظة إدلب وأرياف حلب)، حيث تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة (المياه والصرف الصحي)، إضافة للمعاناة الناتجة عن تغير الطقس (حرارة الصيف وبرد الشتاء)، إضافة لتقلب الأحوال التعليمية وقلة الكوادر المختصة، أما في دول الجوار مثل تركيا، ولبنان، والأردن، حيث يقيم نحو (5) ملايين مهجَّر، فقد أقيمت في بعضها مخيمات ضخمة مثل مخيم الزعتري في الأردن، الذي تعرض سكانه لظروف خاصة قاسية جداً، فقد عانى هؤلاء المهجرون بنسب مختلفة بين تلك البلدان من قيود قانونية وصعوبات اقتصادية، إلى جانب تحديات الاندماج والتعليم والعمل.
كان العائق الرئيسي أمام عودة المهجرين متمثلاً بالنظام الأسدي، إلا أن هناك أسبابا أخرى أقل قسوة، لكنها تلعب دوراً مهماً في تحديد خيار المهجرين بالعودة، وتتمثل بالعوامل الاقتصادية الناتجة عن حالة الفقر الشديد الذي يعيشه المهجرون أولاً، وثانياً، مستوى الدمار الهائل الذي تعرّضت له أماكن سكنهم. بعد سقوط النظام مباشرة، زار كثير من المهجرين، وخصوصاً سكان الداخل، مدنهم وقراهم، فوجدوا الصورة صادمة جداً، فبعض البيوت لم تعد موجودة بالكامل، وتختلف نسب الدمار في بعضها الآخر، لكن جميعها بحاجة إلى إعادة بناء وترميم، ناهيك عن الدمار الهائل للبنية التحتية: المرافق بمختلف صنوفها، ما يجعل العودة شبه مستحيلة من دون إعادة إعمار حقيقي، أو مساعدة مالية متوافقة مع نسب الدمار، سواء من الدولة أو من المنظمات غير الحكومية.
بالطبع، هناك بعض المشاكل التي واجهها العائدون، تتمثل بالمعاملات القانونية، فالبعض وجد بيوتهم مباعة من قبل من استولى عليها من الشبيحة مستغلين ظروف الفساد وانتقاماً من المهجرين، كما أن الظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد نتيجة التركة الثقيلة التي خلّفها نظام الأسد، حيث ارتفاع معدلات البطالة، وقلة فرص العمل، وتراجع الخدمات الأساسية، والأمر الأكثر أهمية، وهو عدم البت حتى اليوم بمصير آلاف الموظفين من المهجرين بما يخص عودتهم إلى أماكن عملهم، وبالتالي غياب مصدر رزقهم، حيث لا يزال مصيرهم مجهولاً، وكلها عوامل تنفّر العائلات من العودة، وتجعلهم يتشبثون بمكان سكنهم (المخيم) الذي اعتادوا فيه على نمط معين من الحياة، ووجدوا فرص عمل في المدن حوله، حتى لو كانت بأجور متدنية تؤمن لهم الحدود الدنيا تحت خط الفقر من الحياة وفق التصنيف الدولي.
بعد سقوط الأسد مباشرة، كانت أولى خطوات هؤلاء المهجرين زيارة مدنهم قراهم، فكانت الصورة صادمة جداً، لدرجة أفقدتهم معنى النصر، حيث عادوا إلى المخيمات أو لأماكنهم خارج سوريا (تركيا) ينتظرون مصيرهم. لا شك أن جميع من غادر بيته مجبوراً سواء إلى المخيمات أو إلى دول الجوار كان ينتظر لحظة الخلاص من النظام الأسدي للعودة، ولكن فظاعة التدمير والنهب جعلا من هذا الحلم يتبخر، ودفعا المهجرين إلى التمسك حتى بالخيام، أو البقاء بعيداً عن الوطن، فالمخيم وفّر بشكل ما “مجتمعاً” صغيراً للمهجرين يكفل إلى حد ما حالة من الأمان الاجتماعي، وهو عنصر غائب عن كثير من مناطق سوريا اليوم، فغياب المرافق الأساسية من مياه وكهرباء ومدارس ومستوصفات يجعل من الحياة شبه مستحيلة، وبالتالي يؤجل حلم العودة، ويجعل منه حالة لا تقل صعوبة واضطراباً عن حالة التهجير نفسها.
لا يمكن فصل قضية المخيمات وعودة المهجرين في سوريا عن السياق السياسي العام، وخاصة مساري إعادة الإعمار والعدالة الانتقالية، فالعودة الآمنة والكريمة تتطلب أكثر من مجرد دعوات إعلامية؛ إنها تحتاج إلى دعم لإعادة الإعمار (دولي وداخلي)، التي تشمل تأمين المرافق الأساسية مثل الصحة والتعليم والمياه والكهرباء وغيرها من مستلزمات العيش، إضافة إلى مصالحة وطنية تقوم على العدالة والإنصاف، وأولى متطلبات العدالة الاعتراف والاعتذار والتعويض، أما إجبار هؤلاء المهجرين بأي طريقة كانت الذين لا حول لهم على العودة إلى مكان تنعدم فيه شروط الحياة، خاصة مع حالة الجفاف الذي عانته البلاد وما سببته من إفقار إضافي، فسيفتح الباب نحو مزيد من السخط تجاه الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى يدفع نحو أعمال انتقامية، وكلاهما غير مرغوبين، الأمر الذي يرتب على المجتمع الدولي والحكومة التعامل مع هذه القضية كأولوية إنسانية أولاً وسياسية ثانياً، أولوية تضمن أهم حقوق البشر الأساسية: حق الحياة.
المصدر: تلفزيون سوريا