تصب تصريحات ومواقف القيادات السياسية والعسكرية التركية كلها ومنذ أسابيع في مجرى واحد. عملية عسكرية برية جديدة في الشمال السوري قادمة لا محالة ضد مجموعات قسد ومسد وفلولها، لن تحول دونها الأصوات الرافضة أو المعارضة. القانون الدولي وقواعده والتفاهمات التركية الأميركية والتركية الروسية في العام 2019 واستهداف الداخل التركي في الآونة الأخيرة بقرار من المجموعات الإرهابية في شمال شرق سوريا، كلها مؤشرات وثوابت تعطي أنقرة هذا الحق. فلماذا لا تتحرك القوات؟ وما الذي تنتظره أنقرة لإعلان ساعة الصفر؟
طالبت الدول الضامنة الثلاث في منصة أستانا وفي أعقاب قمة طهران قبل 4 أشهر أميركا بمغادرة الأراضي السورية. هي كانت الحجر الأول الذي رماه الثلاثي في البئر الأميركي. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أشد قساوة في طريق العودة عندما رمى حجره الثاني “انسحاب القوات الأميركية من شرقي الفرات سيجعل مكافحة الإرهاب أسهل”. الحجر الثالث رماه ألكسندر تشايكو قائد القوات الروسية في سوريا في البئر نفسه، عندما عرض على “قسد” قبل أيام الانسحاب من الحدود السورية – التركية مسافة 30 كيلومترا، على أن يتم إحلال قوات النظام مكانها، لإبعاد احتمال العملية العسكرية التركية. تقبل “قسد” أو ترفض المعني في كل هذه الرسائل هو واشنطن وسياستها السورية.
المقايضة التركية الروسية هي تحريك ورقة “قسد” في شرق الفرات مقابل ورقة “النصرة” في غربه. لكن المساومات منفتحة على حسم ملف “داعش” في الحسكة وهي الضريبة الواجب على واشنطن تحملها لصالح الطرفين. فكيف وأين سترد؟
نجحت تركيا في لعب دور صلة الوصل الإيجابية المؤثرة بين موسكو وكييف. وهناك أيضا حاجة الغرب إلى ما تقدمه أنقرة من خدمات إنسانية واقتصادية وسياسية خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا.
احتمال تغاضي الغرب عن العملية العسكرية التركية قائم إذن بهدف تجاوز العقدة التركية في موضوع التوسعة الأطلسية. فلماذا التردد حتى اليوم؟ أم أن هدف تركيا هو أبعد من ذلك؟
يرى البعض أن العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمال سوريا هي بمثابة رهان تركي على استكمال أهداف سبق أن أعلنت عنها أنقرة مثل إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، وحزام أمني على طول حدودها الجنوبية مع كل من سوريا والعراق، وإبعاد مجموعات “قسد” إلى العمق السوري خصوصا أن المناطق التي يجري الحديث عنها كساحة عمليات تركية تشمل عين العرب وتل رفعت ومنبج بالدرجة الأولى. لكن هناك من يردد أيضا أنه بين الأسباب الكثيرة التي ما زالت تدفع أنقرة للتريث وعدم إعطاء إشارة الانطلاق، ليس الجاهزية العسكرية واللوجستية والميدانية بل:
– الوصول إلى ما تريده دون عملية عسكرية خامسة في شمال سوريا.
– دفع واشنطن وموسكو للتعامل بجدية مع ما تقوله وتريده في مناطق الحدود التركية السورية.
– حسم موضوع “قسد” ومشروعها الانفصالي ودعوة أميركا لمراجعة سياستها السورية.
– فتح الطريق أمام سياسة تركية جديدة في التعامل مع الملف السوري جرى الحديث عنها أكثر من مرة وحان وقت طرحها مع اللاعبين المحليين والإقليميين.
تكتفي واشنطن بتكرار رفضها للعملية العسكرية التركية تحت ذريعة عرقلتها لخطط محاربة داعش في سوريا. هي لا تعرض على أنقرة حتى الآن خيارات وبدائل سياسية وأمنية مقنعة تشجع الجانب التركي على الذهاب إلى طاولة محادثات أو مفاوضات تقود إلى تفاهمات ترضي الطرفين. فهل انكفأت أميركا في شمال شرق سوريا وهي تدعو مواطنيها إلى عدم التجول في تلك المناطق وحديثها عن تمسك تركيا بعمليتها وترك حليفها المحلي يناور منفردا على خط موسكو – دمشق؟
الواضح أن روسيا هي من يتولى زمام القيادة لإعداد طبخة ترضي الأطراف المحلية والإقليمية، وأن من بين أبرز عناصر خطتها تسهيل الوصول إلى صفقة مقايضات متعددة الأهداف والجوانب فيها الشق الأمني والسياسي والاقتصادي، وتتقدم على مراحل، ويواكبها رفع مستوى الحوار بين أنقرة والنظام في دمشق بعيدا عن آليات ومنصات إقليمية ودولية لم تنتج الكثير حتى الآن في التعامل مع الملف السوري. هل تدعم واشنطن تحركا روسيا من هذا النوع وتترك حليفها المحلي “قسد” أمانة بين يدي موسكو؟ وهل تقبل أنقرة بعروض موسكو بتسريع الحوار مع النظام وتفعيله ليكون مقدمة لتفاهمات أوسع؟ وهل يعني ذلك تراجع الطموح التركي بطاولة ثلاثية تجمع القيادات الأميركية والروسية والتركية وأن السيناريو البديل والأقرب للإنجاز هو طبخة روسية يساهم في إعدادها أكثر من طرف محلي وإقليمي؟ ما هي حصة إيران هنا ولماذا ستدعم تحركا روسيا قد ينعكس سلبا على مصالحها ونفوذها ويتبخر معه حلم جني ثمار ما تكبدته من خسائر وما بنته في العقد الأخير من شبكة تحالفات وتمدد في الجغرافيا السورية؟
تتطابق المواقف الروسية والأميركية في العلن لناحية ضرورات التهدئة والحؤول دون تفجير جديد في شمال سوريا. لكن في حسابات النفوذ والمصالح تتباعد المواقف بين البلدين حول أكثر من ملف أمني وسياسي هناك. طالما أن احتمال وجود تفاهمات روسية أميركية على حساب بقية اللاعبين تنتهي بتقاسم المصالح والنفوذ بينهما في سوريا هو ضرب من الوهم في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها علاقات البلدين، فاحتمال نجاح موسكو في تسجيل اختراق سياسي يرضي الأطراف المؤثرة في الملف السوري ويفتح الطريق أمام حلحلة هناك هو بين المستحيلات أيضا. تنصب الجهود الروسية إذاً على محاولة إقناع أنقرة بعدم توسيع رقعة عملياتها العسكرية، وتسريع الحوار بين أنقرة ودمشق ورفع مستواه إلى حوار سياسي مباشر.
هناك من يرى أن تركيا بدأت تغير في سياستها بشكل جدي تجاه النظام في دمشق. وأن تصريحات القيادات التركية حول تفعيل أبواب الحوار بين الجانبين لا بد منها لإزالة الانسداد الحاصل في الملف السوري. تريد القيادات السياسية التركية تجيير مصالحاتها مع دول المنطقة ومساهمتها في حلحلة أكثر من ملف سياسي وأمني واقتصادي بطابع إقليمي، إلى فرصة لدفع الملف السوري نحو الحلحلة وهذا من حقها. لكنها مسؤولة أيضا أمام حليفها وشريكها السوري الذي بنى الكثير من حساباته السياسية والأمنية على التنسيق معها منذ سنوات. الإجابة على سؤال كيف تستعد قوى المعارضة السورية لهذه المتغيرات التي قد تكون مقدمة لمسار جديد في الملف السوري مهم طبعا. لكن الإجابة على سؤال كيف ستنظم أنقرة علاقتها بحلفائها السوريين وهي تعلن عن سياستها السورية الجديدة مهم أيضا. ملف اللجوء والمنطقة الآمنة وإبعاد المجموعات الإرهابية عن الحدود الجنوبية لتركيا مسائل أساسية بالنسبة لأنقرة في سياستها السورية، وحكومة العدالة والتنمية تحملت الكثير من الأعباء في هذه المسائل. لكن الشق السياسي في مسار الثورة السورية وكل المواقف التي جمعت وقربت تركيا من الثورة والثوار لا يمكن إزالتها بين ليلة وضحاها وهذا ما لن يحدث.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا