قبل أن يبادر فلاديمير بوتين إلى حشد قواته، قليلون توقعوا أن يغزو أوكرانيا، وحتى عندما وقعت الواقعة وحدث الغزو، قليلون توقعوا أن يتصرف الزعيم الروسي على النحو الذي تصرف به ويتورط في أعمال عدوانية صادمة، كأن يرسل قوات لقصف مدن مثل خاركيف وماريوبول، والاعتداء على المدارس والمستشفيات والمباني السكنية في طول البلاد وعرضها، ويتسبب في إزهاق أرواح المئات – إن لم يكن الآلاف – من المدنيين، هذا عدا عن مطالبة المتطرفة، على غرار دعوة أوكرانيا إلى نزع سلاحها والاعتراف رسمياً بخسارتها شبه جزيرة القرم والتخلي عن مساحات شاسعة من أراضيها الشرقية والعدول عن نيتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، التي صعقت العالم على نحو ما فعلت أحاديثه المتكررة عن الترسانة النووية الروسية. ولم يحاول بوتين أبداً كسب الأوكرانيين في صفه، وكل تحرك قام به كان يبعدهم عنه أكثر وبصورة قطعية لا رجوع فيها. ولما كان قد بالغ في تقدير قوة جيشه وسرعته، تعثر تعثراً بالغاً في الأسابيع الأولى من الحرب. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لقائد يشاد بمهارته التكتيكية، أو بالأحرى بعبقريته الاستراتيجية، أن يتخذ هذا القدر من الخطوات المتهورة والعقيمة؟
إن نظرنا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا من منظور السياسة الخارجية البحتة، سنلحظ أنه غير واقعي ولا يمت إلى المنطق بصلة. فمن جهة، لم تكن أوكرانيا ستنضم إلى حلف “الناتو” في أي وقت قريب، ومن جهة أخرى، لطالما كان المجال مفتوحاً أمام بوتين لتحقيق أهدافه الأخرى، على غرار منح الاستقلال لجمهوريتي دونباس المعلنتين ذاتياً، عن طريق تدخلات أكثر محدودية وأقل تكلفة. وحتى لو افترضنا أن الجيش الروسي أكثر فاعلية مما هو عليه في الحقيقة، فسيظل ينقصه عديد ضروري لاحتلال دولة تضم أكثر من 40 مليون نسمة والسيطرة عليها. باختصار، كل المؤشرات تدل على أن بوتين أساء التخطيط للغزو ولم يحدد له نتيجة حاسمة وواضحة، وهذا ما زاد من خطورة عملياته وحكم عليها بالعدمية.
أما لو نظرنا إلى الغزو على ضوء أسلوب بوتين المتغير في حكم روسيا، فسنجد أنه يتلاءم مع نمط ناشئ – يتسم بالقومية المعادية للغرب، ويزخر بالخطابات الغاضبة المبررة للذات، وينفتح بشكل متزايد على استخدام القوة. فقبل أربع سنوات تقريباً، بدأ بوتين بإعادة صياغة النظام الذي يمارس من خلاله نفوذه السياسي، لكن الحرب على أوكرانيا زادته إصراراً على إنهاء الاستبدادية الناعمة التي ميزت سنوات حكمه الأولى وتولاها جزئياً فريق كامل من الاقتصاديين الليبراليين والتكنوقراط الذين فضلوا اندماج روسيا مع الغرب وسعوا إلى استقطاب المستثمرين عن طريق إظهار مدى التزام موسكو بسيادة القانون، واستبدالها بدولة بوليسية قمعية وحشية تديرها مجموعة صغيرة من المتشددين الذين فرضوا سياسات أكثر صرامةً في الداخل والخارج على السواء.
ويعكس لجوء بوتين إلى القوة في أوكرانيا التحول الشامل والكامل لدائرته الداخلية – ومعها، نظرته للعالم. وهو كان قد تخلى عن جزء كبير من نهجه القديم في الحكم جراء خيبة أمله الكبيرة إزاء الولايات المتحدة وأوروبا، واضطراره إلى التعامل مع رأي عام أكثر اضطراباً داخل روسيا. فمن شدة اقتناعه بأن القادة الغربيين يسعون إلى إطاحته وقلقه من الاحتجاجات التي اندلعت في روسيا والدول المجاورة، قلت ثقته بقدرته على السيطرة على المجتمع الروسي بأساليب متطورة. وكانت النتيجة أن عاد أدراجه إلى الثوابت المطمئنة المتمثلة في مجموعة “سيلوفيكي” وهي عبارة عن نخبة من الرجال المتملقين والأمنيين الرجعيين الذين يعتبرون أن روسيا محاصرة من قبل القوات الأجنبية وأن القوة الصارمة والضوابط الاجتماعية القاسية هي السبيل الوحيد لحماية نظام بوتين. وصحيح أن القمع في الداخل الروسي لم يدفع بالكرملين إلى الموافقة على الحرب الخاطفة في أوكرانيا، لكن الواحد منهما يسند الآخر. وفي بيئة العزلة وانعدام الأمن هذه، الحرب تبرر القمع المحلي والخوف المحلي من النفوذ الغربي يبرر الحرب.
مناخ من الخوف
مع دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا في أواخر فبراير (شباط) كان الكرملين يشن بالفعل هجوماً آخر على الشريحة الرؤيوية والمتحررة من المجتمع الروسي بذريعة رفضها الالتفاف حول الموقف الرسمي للدولة. وقد اتخذ هذا الهجوم أشكالاً مختلفة تتراوح بين إقفال معظم وسائل الإعلام الليبرالية – وعلى رأسها، “صدى موسكو” (Ekho Moskvy) و”تي في راين” (Dozhd) – وفرض قيود على إمكانية الوصول إلى منصات الوسائط الاجتماعية، من قبيل “فيسبوك” و”تويتر”، وإصدار قانون جديد يهدد منتقدي الحرب بالسجن لمدة 15 عاماً في معسكرات الأعمال الشاقة، واعتقال الشرطة أكثر من 13 ألف متظاهر مناهض للحرب في غضون الأسبوعين الأولين من الغزو فقط.
وقد بدا كل هذا وكأنه اقتلاع جذري للأساليب الاستبدادية الناعمة الخاصة ببوتين، مع أنه في الحقيقة نقطة تحول في نهج تشديد القمع الذي تعتمده السلطات الروسية منذ أربع سنوات. فحتى قبل حدوث الغزو، كان السياسيون المستقلون حقاً إما يؤسرون خلف القضبان أو يجبرون على العيش في المنفى. وفي 2020، وصلت الأمور إلى حد محاولة تسميم زعيم المعارضة الصريح أليكسي نافالني. ولما نجا هذا الأخير بأعجوبة رموه في السجن بتهم ملفقة وأدرجوا “مؤسسة مكافحة الفساد” التي أسسها في قائمة “الجماعات المتطرفة”، كما حظروها ولاحقوا أعضاءها أو طردوهم إلى خارج البلاد. ووفقاً لـ”مركز ميموريال لحقوق الإنسان”، فقد ارتفع عدد السجناء السياسيين في روسيا من 36 إلى 81 سجيناً بين 2015 و2022، كذلك ارتفع عدد السجناء –من أفراد شهود يهوه والجماعات الإسلامية المحظورة– الذين اعتقلوا بسبب معتقداتهم الدينية.
وكاد المجتمع المدني يدمر بالكامل، ففي أواخر عام 2021 أمرت المحكمة العليا لروسيا بإقفال “ميموريال”، المنظمة الحقوقية التي أسسها المنشق السوفياتي الحائز على جائزة نوبل للسلام أندريه ساخاروف، وذلك على خلفية اتهامها علناً من قبل بوتين بالدفاع عن الإرهابيين الدوليين وإدراج المتعاونين النازيين في لائحتها لضحايا ستالين. وبعد “ميموريال”، صدر قرار بإغلاق منظمة “روسيا المفتوحة” التي أنشأها قطب النفط السابق ميخائيل خودوركوفسكي لتعزيز سيادة القانون وحرية الصحافة، إلى جانب جماعات أخرى عديدة وصفها الكرملين بأنها متطرفة أو غير مرغوب فيها. أما بالنسبة إلى ما تبقى من المنظمات الليبرالية غير الربحية، مثال “مركز ليفادا”، شركة الاستطلاعات المستقلة والمرموقة، والفرع الروسي لـ”منظمة الشفافية الدولية لمكافحة الفساد”، فباتت تصنف في خانة “العملاء الأجانب”.
وتحت عباءة الإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية ضد فيروس كورونا، حظر المسؤولون بشكل فعال جميع التظاهرات السياسية – بما فيها الاعتصامات الفردية، ونفذوا اعتقالات جماعية بحق كل الذين تحدوا القيود وحاولوا كسرها. وبحسب الأرقام الرسمية، فقد ألقي القبض على 17 ألف متظاهر من نحو 200 مدينة في غضون عشرة أيام فقط من اعتقال نافالني في مطلع 2021، كما دين أكثر من 14 ألف شخص بتهمة انتهاك القواعد المتعلقة بالمناسبات العامة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2021، وهو ما يزيد بواقع ستة أضعاف المتوسط السنوي على مدى الأعوام الخمسة عشر الماضية. بالتزامن مع ذلك، بدأت الأجهزة الأمنية في التصرف على نحو استباقي، حيث كان يقوم ضباط من الشرطة بزيارات تحذيرية لمئات من أنصار نافالني، أحياناً كثيرة في ساعة متأخرة من الليل. ومن أجل تمويل هذا النهج الأكثر تشدداً، زادت الحكومة تمويل وكالات الأمن الداخلي الرئيسة الثلاث في روسيا –”جهاز الأمن الفيدرالي” (FSB) ووزارة الداخلية والحرس الوطني (المعروف أيضاً بـ”روسغفارديا”)- بنسبة 23 في المئة بين عامي 2018 و2021 .
ولمن يتساءل عن حرية الرأي والتعبير على شبكة الإنترنت، فهي جد محدودة في روسيا، وكثيراً ما كان المحتوى المناهض للحكومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي سبباً في دخول ناشريه أو حتى مشاركيه السجن. وفي الفترة الممتدة بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) 2021، طلبت السلطات الروسية من “غوغل” سحب 833 ألف بند من منصاتها – متفوقةً بذلك على أي دولة رقابية أخرى. وفي 2016، زادت مطالباتها لـ”يوتيوب” بحذف فيديوهات وقنوات محددة، وهي على هذه الحال مذاك، لكن في السنوات الأخيرة سعت مجموعة الإعلام “غازبروم ميديا” المملوكة لأحد المقربين من بوتين إلى تحويل اهتمام المدونين نحو منصة الفيديو “روتيوب” التي يسهل التحكم بها وتطبيق “يابي” المأخوذ عن “تيك توك”.
من قبل 2018 والقمع يسير في منحى تصاعدي. وكان هذا المنحى قد انطلق بعد عودة بوتين إلى سدة الرئاسة في 2012، لكنه اشتد وتعاظمت وطأته بعد غزو روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وبلغ ذروته في فبراير 2015 على خلفية اغتيال زعيم المعارضة بوريس نيمتسوف على جسر يطل على مبنى الكرملين، ليكون عبرةً لكل من سيحاول تحدي أهل السلطة. وإن كانت فرقة العملاء الخاصة بـ”جهاز الأمن الفيدرالي” قد اعترفت عن طريق الخطأ بدسها غاز الأعصاب “نوفيشوك” في ملابس نافالني الداخلية عام 2020، أولاً يدعو ذلك إلى التساؤل عما إذا كانت قد اعتمدت الطريقة نفسها للتخلص من معارضين آخرين من قبله، لا سيما أن الأبحاث الصادمة التي أجرتها مجموعة الاستقصاء “بيلنجكات” لا تنفي احتمال ضلوعها في حادثتي التسمم اللتين تعرض لهما فلاديمير كارا مورزا، الناشط المعارض لبوتين، بين 2015 و2017؟
طبعاً أكيد، لكن القمع الذي مارسه الكرملين على مدى السنوات القليلة الماضية يبقى الأكثر وقاحة والأشد ضراوة. وهذا يتضح بجلاء في استطلاعات الرأي التي أجراها “مركز ليفادا” وحذرت من ازدياد الشعب الروسي تشاؤماً وخوفاً، آخرها استطلاع 2021 الذي أظهر أن 50 في المئة تقريباً من الروس العالمين بوجود قانون يفرض على منظمات غير ربحية التعريف عن نفسها بصفة “عملاء أجانب”، يعتقدون أن مثل هذا القانون قد وجد للضغط على المنظمات المستقلة أكثر منه حماية السكان – مقارنةً بـ26 في المئة في 2016. وعلى نحو مماثل، بين استطلاع الرأي إياه أن نحو 50 في المئة من المستجيبين الذين سمعوا بتصفية “ميموريال” في ديسمبر (كانون الأول) 2021، يظنون أن وراء هذا التدبير دواعي سياسية. وبين 2017 وأواخر 2021 ارتفعت نسبة المستجيبين الذين يخشون “عودة القمع الجماعي” من 21 في المئة إلى 47 في المئة. وبحلول 2021، أعرب 84 في المئة من الروس الذين شملهم الاستطلاع عن نيتهم عدم الإفصاح عن آرائهم في شأن الانتخابات البرلمانية المقبلة في الأماكن العامة، وذلك في ظل اشتداد مخاوف الشباب الروسي من التحدث عن نافالني في مجموعات التركيز.
طاغية التلفيق
ما الذي يفسر استراتيجية الأرض المحروقة التي ينتهجها الكرملين؟ قد يتراءى للمرء أن الترهيب العنيف هو بالضبط ما تفعله الأنظمة الاستبدادية وأن جوهر الديكتاتورية هو ردع المعارضة ومعاقبتها. والأمثلة على الزعماء المتجبرين كثيرة في القرن العشرين، منهم المستبد التقليدي أو “طاغية التخويف” الذي يفرض هيمنته وجبروته على رعيته بشتى أشكال القمع القاسية وغالباً ما يبرر نفسه بأيديولوجية رسمية. وهذا النموذج من الطغاة لا يزال موجوداً في الحكم إلى اليوم، نذكر من بينهم على سبيل المثال: بشار الأسد في سوريا وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
لكن في العقود الأخيرة عرف العالم نموذجاً آخر من الطغاة، أمثال خلفاء لي كوان يو في سنغافورة، وهوغو شافيز في فنزويلا، ورافائيل كوريا في الإكوادور، ونور سلطان نزارباييف في كازاخستان، وفيكتور أوربان في المجر. وقد اشتهر هذا النموذج من الطغاة في استبداله البزة العسكرية ببزة مدنية رسمية وترسيخه في الأذهان صورة القائد العقلاني والكفء، وتمتعه بتأييد جماهيري عظيم مدعوم جزئياً بتغطية ودية لوسائط إعلامية سواء تابعة للدولة أو مختارة، وحرصه الشديد على خوض انتخابات مدارة بعناية يخرج منها منتصراً. وبدلاً من أن يعدم خصومه ينكل بهم ويضايقهم بدعاوى تشهير وتهم أخرى وغرامات، ويتعمد تدمير سمعتهم عبر التلفزيون وشبكة الإنترنت. وعلى غرار من يطلقون على أنفسهم لقب أطباء التلفيق في الديمقراطيات، يتلاعب هذا النموذج من الطغاة بالمعلومات والبيانات بقصد بناء الدعم والتشهير بالخصوم – ولهذا السبب، اعتمدنا (أنا وزميلي في الكتابة سيرغي غورييف) تسمية “طغاة التلفيق” في كتابنا الأخير.
ومع الاستعاضة عن التخويف بالتلفيق، بات القمع العلني أكثر ندرة. إبان الثمانينيات، كان ثلثا الحكام المستبدين يجندون موظفين تابعين للدولة من أجل تنفيذ عمليات اغتيال ذات دوافع سياسية، بمعدل عشر عمليات في السنة الواحدة. في المقابل، 28 في المئة فقط من طغاة العقد الأول من القرن الحالي قاموا بالمثل، وعدد أقل بقليل منهم سجن أعداداً كبيرة من السياسيين. الحقيقة أن أحدث مجموعة من الحكام المستبدين ليست أقل عنفاً في العلن فحسب، بل أكثر نزوعاً إلى تصوير خصومها الليبراليين على أنهم أنفسهم ثوريون خطيرون أو حتى إرهابيون.
وكان بوتين، خلال السنوات الأولى من توليه مهام منصبه خير من احتذى بهذا النهج. فباستثناء الشيشان التي لجأ فيها إلى القوة لسحق نظام أمراء الحرب المجرمين، اعتمد بوتين أساليب غير عنيفة عموماً لتوطيد سلطته مع الحفاظ على مظاهر الديمقراطية. وبعيداً من كونه السبب في حظر “ميموريال”، فقد خصها في البداية بمنح مالية شأنها شأن غيرها من منظمات حقوق الإنسان. وحتى عام 2017، شجب “مآسي القمع في عهد [ستالين]” ووافق على تشييد نصب تذكاري يكرم ضحاياه. وعوضاً من سجن نافالني بعد إدانته بتهمة الاختلاس في 2013 -وهي إدانة وصفتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأنها ذات دوافع سياسية- تدخل المدعي العام المناوئ لبوتين من أجل إطلاق سراحه بكفالة مع وقف تنفيذ العقوبة (فيما ترك شقيقه أوليغ خلف القضبان بالتهمة ذاتها). وفي فترة لاحقة من ذلك العام، سمح الكرملين لنافالني بالترشح لمنصب عمدة موسكو، الأرجح أنه لم يكن يتوقع نجاحه (أو حتى حصوله على 27 في المئة من الأصوات)، لكن المضايقات بعدها لم تعتقه، حيث زج في السجن مرات عدة لفترات قصيرة، وفي كل مرة كان النظام يبذل ما في وسعه لتمويه دوافعه السياسية.
وحيثما كان الطغاة قديمو الطراز يشددون قبضتهم ويفرضون رقابة شاملة، كان بوتين أكثر ليونة وأكثر مرونة. في البدء، فرض الكرملين سيطرته المباشرة أو غير المباشرة على جميع شبكات التلفزيون الرئيسة في البلاد، فيما ترك المجال مفتوحاً أمام الصحافة المستقلة لتعبر عن نفسها ما دام جمهورها صغيراً. وفي أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير، صدر أمر بحظر قناة “تي في راين” التلفزيونية الليبرالية. أما صحيفة “نوفايا غازيتا” اليومية، فلا تزال إلى اليوم غير ممنوعة من النشر لكن ربما ليس لفترة طويلة. يبدو أن هذه المنافذ لا تمثل خطراً داهماً على وسائط الإعلام التي ينسقها الكرملين وتروج لرؤى مشوهة عن الواقع داخل روسيا وخارجها. وكان بوتين قد اعترف بصراحة غير معهودة في أكتوبر (تشرين الأول) 2014 بأن الإعلام الإلكتروني حول “التقارير الإخبارية… إلى سلاح فتاك للتلاعب بالرأي العام”. وإزاء هذا التاريخ الطويل من التساهلات المكرهة جاء انعطاف الكرملين نحو الرقابة الشاملة منذ غزو أوكرانيا بمثابة تطور صادم.
أما بالنسبة إلى الإنترنت فلم يعرها بوتين في البداية أهمية تذكر: في أول ولايتين له، عارض الجهود التي بذلها أتباعه من أجل صياغة لوائح تداخلية ذات صلة بالنشاط الإلكتروني. وحتى عام 2010، كان لا يزال يرفض الحديث عن المواقع الإلكترونية، بوصفها “50 في المئة مواقع إباحية”، على حد تعبيره. ولم يتغير حاله إلا في السنوات الأخيرة لما سعى النظام إلى تحقيق مستوى من الرقابة يكافئ المستوى المعمول به في الصين وتجريم المنشورات المناهضة للكرملين. ومنذ عام 2019، بدأ مزودو خدمات الإنترنت بتركيب معدات خاصة لحجب أو مراقبة أو إبطاء المواقع الإلكترونية بأمر من الكرملين.
وقد حققت نسخة بوتين من ديكتاتورية التلفيق نجاحاً استثنائياً. فبين سبتمبر (أيلول) 1999 ومارس (آذار) 2020، لم تنخفض نسبة التأييد للقيصر عن 60 في المئة، وهذا ما ضمن له انتصارات انتخابية متتالية وتهميش المعارضة (إشارة إلى أن هذه الاستطلاعات -وأكثرية الاستطلاعات المذكورة في سياق هذا المقال– أجريت من قبل “مركز ليفادا” الذي ثبتت استقلاليته عبر مضايقات السلطات المتكررة له وإدراجها له في قائمة “العملاء الأجانب”). وكانت شعبية بوتين قد تعززت مبدئياً بسنوات من النمو الاقتصادي السريع، لكن نسبة تأييده ظلت إلى ارتفاع حتى بعد تدهور الأداء الاقتصادي لموسكو في ظل الأزمة المالية العالمية 2008-2009. وبعد ضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية عام 2014، لعبت وسائل الإعلام الحكومية دوراً مهماً في إطالة أمد الحماس الذي أثارته هذه المسألة، حتى مع بدء العقوبات الغربية والعزلة الدولية في فرض أعبائها. وبناءً على الأدلة والأبحاث المستقاة من مصادر متعددة، فإن عدداً قليلاً من الروس ظل حتى نحو عام 2018 يخشى إبداء انتقاداته في استطلاعات الرأي. آنذاك، كان النظام يتبع سياسة التضليل بدلاً من التخويف.
ولم يكن حكم بوتين أبداً نموذجاً مثالياً للاستبدادية الناعمة الحديثة في كل جوانبها. صحيح أن المستوى العام للقمع في عهده لم يتفوق على مستوى القمع في عهد طغاة تلفيق آخرين، لكن حتى نهاية 2015 في الأقل، كان عدد الصحافيين الذين قتلوا على يد عملاء الدولة في روسيا أعلى بكثير من أي حقبة استبدادية مضت، وفق ما أوردته “لجنة حماية الصحافيين”. وحتى قبل اتخاذه قرار غزو أوكرانيا، كثيراً ما تصرف بوتين بعدائية تجاه جيرانه وكثيراً ما ناقض سياسة التقويض الخفي المفضلة لدى الطغاة أمثاله. ومع ذلك، ظل حتى العام الحالي حريصاً على إبقاء الخسائر الروسية منخفضة في العمليات الخارجية، إما بحشد قوات وكيلة ومرتزقة كلما أمكن أو بالتستر على عدد القتلى العسكريين على غرار ما فعل أثناء التدخل الروسي في سوريا، لكن بكل الطرق الأخرى تقريباً، اتبع بوتين بالحذافير قواعد اللعبة الاستبدادية كما هي واردة في دليل طغاة التلفيق.
من القفاز المخملي إلى القبضة الحديدية
إذن، لمَ تحول بوتين من التلفيق إلى التخويف بعد مضي قرابة 20 عاماً على توليه الحكم للمرة الأولى؟ ربما لأن بعض الديكتاتوريين يصبحون أكثر قمعاً وتشدداً في مواجهة أزمة اقتصادية: فأكثر ما يخشاه هذا الصنف من الحكام هو نيران الاحتجاجات أو الثورات السياسية التي يمكن أن تشتعل بفتيل سخط جماهيري واسع، وعدم قدرتهم على استمالة المعارضين في ظل تراجع عائدات الحكومة جراء الأداء الاقتصادي الضعيف، بيد أن التدهور الاقتصادي وحده لا يفسر هذه النقلة النوعية في حكم بوتين. فالاقتصاد الروسي يشهد ركوداً منذ العقد الماضي، لكن ركوده لم يقوض يوماً قدرة الكرملين على شراء الصفوة المحلية والتلاعب بوسائل الإعلام، والدليل على ذلك، تسجيل متوسط العائدات الحكومية ارتفاعاً طفيفاً إلى 36 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الروسي بين 2018 و2020، مقابل 33 في المئة بين 2012 و2017، وتحقيق احتياطي بنك روسيا من الذهب والعملات أعلى مستوى له على الإطلاق عند أكثر من 630 مليار دولار في يناير 2022. إلى ذلك ولما هزت الصدمات الاقتصادية الأخيرة العالم لم تكثف روسيا إجراءاتها القمعية: خلال الأزمة المالية العالمية التي شهدت انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنحو ثمانية في المئة في 2009، واصل الرئيس الروسي آنذاك، ديمتري مدفيديف، المطالبة بالدعم العام عبر رسالة تحديث وخبرة. وإن كان على موجات الاحتجاجات المناهضة للحكومة -في 2011 و2012 و2017– فلم تأت في إطار أزمة اقتصادية بل في إطار انتعاش اقتصادي، والأصح قولاً إنها نجمت من تزوير وفساد انتخابيين لا عن مظالم اقتصادية.
والاحتمال الآخر هو أن التحول إلى القمع كان مدفوعاً بالتقدم المحرز على مستوى الأجهزة التقنية المصممة خصيصاً لمراقبة المواطنين وإدارتهم. فبقيادة الصين تمكن الحكام الديكتاتوريون حول العالم من استحداث أدوات مراقبة متطورة، بين كاميرات مراقبة في الشوارع مزودة ببرنامج التعرف على الوجه وأجهزة تعقب تعمل بتقنية تحديد المواقع وأجهزة مراقبة حركة المرور عبر الإنترنت. وتحتل روسيا اليوم المركز الثالث بعد الصين والولايات المتحدة من حيث عدد كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة لكل فرد. واعتباراً من عام 2020 بات أكثر من نصف كاميرات المراقبة في موسكو مزوداً بتقنية التعرف إلى الوجه وباتت الشرطة الروسية تستخدم برمجيات خاصة لرصد الأشخاص والتعرف إليهم من خلال طريقة المشي والوشوم وغيرها من الميزات. وهذا بالتالي ما سمح بتقفي أثر مئات المواطنين الذين شاركوا في الاحتجاجات المؤيدة لنافالني في أبريل (نيسان) 2021. وإلى جانب أجهزة القمع المتطورة، ثمة أساليب قمع من نوع آخر، من قبيل التضييق على الشبكات الاجتماعية –كما حدث عندما قامت “روسكومنادزور”، الجهة المنظمة لوسائل الإعلام الفيدرالية في روسيا، بـ”خنق” موقع “تويتر” في ربيع 2021 بذريعة عدم إزالته المحتويات المحظورة من صفحاته- ومسح المنشورات بحثاً عن معلومات تساعد الشرطة على وأد الاحتجاجات قبل أن تبدأ.
غير أن توافر هذا الكم المذهل من الأجهزة المتطورة لا يكفي بدوره لتفسير سبب تحول بوتين إلى التخويف والترهيب. كان بإمكان الكرملين أن يستخدم ما وصل إليه من تقدم تقني لعرقلة المعارضة بكل هدوء ومن دون المساس بالواجهة الديمقراطية، كأن تغلق الشرطة، بعد تجسسها على اتصالات النشطاء ومعرفتها بخططهم مواقع الاحتجاج المزمعة بحجة تنفيذها بعض “أعمال الطرقات” أو أن تحتجز المنظمين لأسباب غير مترابطة. صدقوا أو لا تصدقوا، لو أراد الكرملين استخدام الأجهزة الجديدة بذكاء، لفعل ولحلت محل الاعتقالات الجماعية والضرب والترهيب.
لكن الحقيقة أن الكرملين لا يريد استخدام أجهزة الرقابة العالية الدقة على هذا النحو، قل بديلاً من القمع الوحشي، إنما يريد استخدامها كجزء من توليفة مشابهة لتلك التي تعتمد في الصين، بحيث تكون له القدرة على احتجاز النشطاء وضرب المتظاهرين واعتقال الآلاف منهم على سبيل الوقاية، مع التهديد بالتعقب بواسطة تقنية التعرف إلى الوجه وتوجيه رسائل إلكترونية مخيفة إلى مئات المانحين والداعمين لنافالني، بحسب ما جاء على لسان الناشط المعارض فلاديمير ميلوف.
وإذا كانت الأزمة الاقتصادية والمعدات الجديدة لا تفسر قرار بوتين تشديد القمع، فما الذي يفسره؟ تتوقف الإجابة جزئياً على تزايد صعوبة التعويل على أساليب متطورة لكبح جماح المعارضة السياسية في موسكو. فالمجتمع الروسي في حالة تحديث مستمرة، وحتى لما كان اقتصاد البلاد يتخبط طيلة العقد الماضي لم يتوقف الروس عن نهل العلم وتطوير ذواتهم وقدراتهم على الاتصال. واليوم، يتصل معظمهم بالإنترنت عبر شبكات الاتصالات الخلوية من الجيل الثالث، وهذه الشبكات سريعة بما يكفي لتتيح للمستخدمين تشغيل مقاطع فيديو على هواتفهم. وتعتبر روسيا خامس أكبر سوق لـ”يوتيوب” في العالم، حيث أفاد 39 في المئة من رواد الإنترنت الروس أنهم يستخدمون التطبيق بصورة يومية. وهذا كله يهدد بشكل أو بآخر الهيمنة الساحقة للتلفزيون الحكومي على الأخبار. فبحلول 2021، أكد 42 في المئة فقط من الروس الذين شملهم الاستطلاع -وأقل من 20 في المئة ممن تقل أعمارهم عن 35 عاماً- أن التلفزيون هو مصدر معلوماتهم الرئيس في شأن ما يجري في البلاد من أحداث، فيما أشار 45 في المئة إلى أنهم يستقون معلوماتهم من الإنترنت، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو المدونات أو قنوات المراسلة أو المواقع الإخبارية. وصحيح أن شبكة الإنترنت لا تستثني التلفزيون الحكومي لكن من الواضح أن بيئة المعلومات قد تغيرت في السنوات الأخيرة.
وفي تلك الأثناء، اتسع دعم المجتمع الروسي للقيم الليبرالية ومعه، تغيرت نتائج استطلاعات “مركز ليفادا”. فلدى سؤال المستجيبين عن تحديد الحقوق والحريات الأهم في روسيا، ذكر 61 في المئة منهم “حرية التعبير” مقابل 34 في المئة في 2017، و39 في المئة “الحق في تلقي المعلومات” مقابل 25 في المئة في 2017، و26 في المئة “حرية تنظيم التظاهرات السلمية” مقابل 13 في المئة في 2017. ووسط استياء الرأي العام المتزايد حيال الممارسات العنيفة للشرطة في الاحتجاجات، سئل الروس عن رأيهم في رد فعل سلطات إنفاذ القانون على التظاهرات التي اندلعت في موسكو في يوليو (تموز) 2019، لما هاجمت عناصر الشرطة المحتجين واعتقلت المئات من المعترضين على استبعاد مرشحي المعارضة من انتخابات المدينة، فأجاب 41 في المئة منهم أن الشرطة “استخدمت القوة والقسوة من غير وجه حق” في حين عبر 32 في المئة منهم عن اعتقاده بأنها تصرفت “على نحو ملائم”. تزامناً، تراخت قدرة الكرملين على الحفاظ على العداء الشعبي تجاه الغرب. فقبل غزو أوكرانيا كانت المشاعر الإيجابية تجاه أوروبا إلى ارتفاع، وقد ظلت على هذه الحال سبع سنوات حتى تفوقت على المواقف السلبية بحلول أواخر 2021.
وكل هذه التطورات مجتمعة زادت من صعوبة التلاعب بالمعلومات ومهدت لبروز نافالني كواجهة للمعارضة الروسية، بعد أن اتسع عدد المشتركين في قناته على “يوتيوب” من مليون مشترك في ربيع 2017 إلى 3.5 مليون في صيف 2020، فإلى 6.4 مليون بحلول مطلع 2022. وبحسب استطلاع صادر عن “مركز ليفادا”، فإن عدداً من مقاطع الفيديو التي نشرها نافالني وكشف فيها عن الفساد المستشري في الطبقة الروسية الحاكمة، حصد أكثر من عشرة ملايين مشاهدة. وبالنسبة إلى الفيديو الذي يستعرض قصراً باذخاً على ضفاف البحر الأسود يقول نافالني إنه ملك لبوتين، فقد حصل وحده على أكثر من 122 مليون مشاهدة ومصادقة 55 في المئة من المتابعين. وفي سبتمبر 2020، كشف استطلاع آخر ذو صلة عن أن أكثر من 80 في المئة من المستجيبين يعرفون بوجود نافالني و20 في المئة يوافقون على أقواله – وهذه النسبة هي الأعلى على الإطلاق لكنها لم تستمر طويلاً وسرعان ما انخفضت إلى 14 في المئة. وبطبيعة الحال، كان عدد المعترضين على شخص نافالني أكثر بكثير، وكذلك عدد اللا مبالين أو الرافضين الإجابة، لكن بيت القصيد الحقيقي هنا ليس شعبية نافالني بل مساهمات نافالني في تآكل شعبية بوتين.
فتأييد الروس لبوتين تراجع بشكل ملحوظ بعد إصلاحات 2018 المثيرة للجدل التي نتج عنها رفع سن التقاعد من 60 إلى 65 سنة للرجال ومن 55 إلى 63 سنة للنساء وانتهت معها حقبة المشاعر الطيبة التي تمخضت عن ضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية في 2014. بالأرقام، انخفض تأييد الرئيس من نحو 80 في المئة بعد قرار الضم إلى 59 في المئة فقط في ربيع 2020 –وهو أدنى مستوى له على مدى الولايات الرئاسية الأربع– ليعود ويستقر عند نحو 65 في المئة. وقد يبدو لكم أن شعبية بوتين لا تزال مرتفعة نسبياً، ولكن مع اتساع نطاق الرقابة السياسية، لا شك سيتردد المزيد من المستطلعين في شأن الإجابة بالسلب على سؤال مباشر حول بوتين. وفي ما يتعلق بالأسئلة الأخرى الأقل حساسية، فأكدت وستظل تؤكد تآكل مستويات الدعم الجماهيري للقيصر. ففي استطلاع لـ”مركز ليفادا” في يناير 2022، سئل المستجيبون تسمية سياسيين يثقون بهم، ذكرت نسبة 33 في المئة اسم بوتين، في انخفاض عن 59 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، لا سيما في صفوف الشباب. وفي استطلاع آخر في نوفمبر 2021، طلب من المستجيبين تسمية المرشح الذي سيصوتون له في الانتخابات الرئاسية، أشارت نسبة 32 في المئة إلى بوتين مقابل 57 في المئة في يناير 2018.
بالتوازي، تعززت احتمالات اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة. فبين 2018 و2021، أعرب متوسط 18 في المئة من المستطلعين عن استعدادهم للمشاركة في تظاهرات سياسية جماهيرية مقابل متوسط 11 في المئة بين 2009 و2017. وكانت روسيا قد دخلت موجات احتجاجية عاتية في الأعوام 2017 و2019 و2021، وقد عرفت كل موجة منها بوسع انتشارها مقارنة بتظاهرات 2011-2012 التي تركزت في أغلبها في موسكو وسان بطرسبورغ. وعلى الرغم من انقسام الروس عموماً بين مؤيدين ومعارضين لهذا النوع من التحركات، تزايدت نسبة المستجيبين الذين يلومون الشرطة على رد فعلها القاسي إزاء المحتجين – 41 في المئة عام 2019 مقابل 27 في المئة عام 2017. ولعل أكثر ما كان يخشاه الكرملين عند هذا الحد هو انقسام جديد بين الشباب وكبار السن في روسيا، مع ازدياد نزعة الشباب إلى العزلة وتأييد الغرب ودعم الاحتجاجات.
صعود المتشددين
من الواضح أن هذا التحول في توجهات الرأي العام الروسي هو تحد كبير بالنسبة إلى بوتين، لكنه ليس نهاية الطريق وكان بإمكان الكرملين أن يتصدى له بأساليب أخرى. ومن أجل فهم حقيقة تفضيل بوتين القمع العلني على التلاعب والتضليل، لا بد من فهم الكيفية التي تغيرت بها التركيبة الداخلية لنظامه بمرور الزمن.
في البداية، كانت حاشية بوتين عبارة عن ثلاث مجموعات: خبراء اقتصاديون يؤمنون بالأسواق والتكامل مع الغرب، ووسطاء سياسيون ساخرون، وعملاء سابقون وحاليون في أجهزة الأمن وإنفاذ القانون أو “سيلوفيكي”. في أول الأمر، حرص بوتين على تحقيق التوازن بين هذه المجموعات وطلب المشورة من كل واحدة منها بالتساوي، مع إعطاء الأولوية للمتخصصين في قضية معينة، لكن مع مضي الوقت وعلى مدى العقدين الماضيين، ظللت المجموعة الثالثة على المجموعتين الأوليين وغيبت دورهما بشكل كامل.
وكل ما حصل قد حصل لأسباب عدة، أولها: فقدان بوتين ثقته بالرؤية التي روج لها الاقتصاديون الليبراليون. ففي بداية مشواره الرئاسي، أولى بوتين اهتماماً خاصاً بالخبراء الليبراليين، حتى إنه عين أحدهم، وهو أندريه إيلاريونوف مستشاراً اقتصادياً له، لكن سرعان ما تبين أن تحذيرات هؤلاء في شأن إمكانية أن تؤول مصادرة الشركات والتساهل مع الفساد إلى عرقلة النمو وإثارة الأزمات، غير دقيقة ومبالغ فيها، وأن الأسواق متسامحة بشكل ملحوظ تجاه الدول الغنية بالنفط. وفي عام 2003، حاول رئيس وزراء بوتين آنذاك، ميخائيل كاسيانوف، إقناعه بأن القبض على رجال الأعمال، أمثال الملياردير ميخائيل خودوركوفسكي سيزعزع ثقة المستثمرين بروسيا، لكن في السنوات الثلاث التي تلت اعتقال خودوركوفسكي والاستيلاء على شركته علت قيمة الأسهم الروسية بواقع ثلاثة أضعاف، وازدادت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر مقدار أربعة أضعاف. وفي هذا الخصوص، يستذكر غليب بافلوفسكي، وهو مستشار سياسي أسبق لبوتين، قائلاً، “تهيأ لنا أن بعض الأمور كالمقدسات لا يجوز تدنيسها، ولكن عندما أزيلت عن الوجود لم يسأل فيها أحد وكأنها لم تكن موجودة أساساً.”
مع مرور الأيام، لم يتوقف بوتين عن الإصغاء إلى المستشارين الاقتصاديين الموثوق بهم، مثل أناتولي تشوبايس وهيرمان جريف وأليكسي كودرين فحسب، بل توقف عن حمايتهم من أتباعه المجرمين كذلك. ففي 2007، ألقي القبض على أحد نواب كودرين في وزارة المالية. وبحلول 2016، أوعز بوتين إلى “سيلوفيكي” باعتقال مسؤولين رفيعي المستوى، وعلى رأسهم وزير الاقتصاد آنذاك، أليكسي أوليوكاييف الذي يقضي حالياً عقوبة ثماني سنوات سجناً في معسكر للأعمال الشاقة بتهمة الرشوة (وكان أوليوكاييف قد ادعى بأن حليفاً وثيقاً لبوتين يدعى إيغور سيتشين هو الذي أوقع به). بالنسبة إلى “سيلوفيكي” المعركة ليست مجرد معركة فكر بل معركة مال وسلطة أيضاً مع توسع إمبراطورياتها التجارية المختلفة. ومن أفرادها التكنوقراط لا يزال موجوداً في الحكم إلى اليوم، مثل وزير المالية أنطون سيلوانوف ورئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، فإنه لا يحاضر بوتين عن قوى السوق، إنما ينفذ المطلوب منه بكل بساطة.
وبالمثل، فقد بوتين الثقة تدريجياً بمؤيديه السياسيين. والتظاهرات التي تفجرت في موسكو وسان بطرسبورغ في 2011 و2012، رسمت نهاية فلاديسلاف سوركوف، كبير مساعدي بوتين السياسيين وصاحب فكرة “الديمقراطية الموجهة”. وفي وقت لاحق من عام 2019، وبعد أن فشل عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين والنائب الأول لرئيس أركان بوتين، سيرغي كيرينكو في إخماد التظاهرات الكبرى التي غصت بها شوارع العاصمة في شأن انتخابات مجلس المدينة، ترك بوتين الفريق السياسي في مكانه لكنه نقل الكلمة الأخيرة في إدارة الاحتجاج من الخبراء المدنيين إلى الأجهزة الأمنية. والمدهش بهذا الأمر، من وجهة نظر ميلوف الذي شارك في التظاهرات السرعة التي تحركت بها الوكالات المختلفة بشكل متناغم، وأثبتت أن قرار سلوك اتجاه جديد يأتي من رأس الهرم. وتبعاً للمحللة تاتيانا ستانوفايا، فإن زميلي بوتين الأكثر رجعية، أي نيكولاي باتروشيف، أمين مجلس الأمن، وألكسندر بورتنيكوف، مدير “مكتب الأمن الفيدرالي”، هما من أقنع الرئيس بأن قوات أجنبية نظمت التظاهرات السلمية. ومذاك، لم تعد السلطات تدير المعارضة بل تجرمها.
ومع تهميش مديري بوتين الاقتصاديين والسياسيين سعى أعضاء “سيلوفيكي” خلف مناصبهم وتنافسوا مع بعضهم بعضاً بنية إظهار الصلابة والولاء في سحق المعارضة وإثبات شكوك بوتين بتعرض روسيا لأعمال تخريبية موجهة من الغرب. وقد كان لدى أكثر المتشددين في الدفاع عن عنف الدولة مصلحة شخصية في دفع بوتين نحو إجراءات قمعية أكثر قسوة وعلنية لا رجعة فيها إلى نهوج أكثر تطوراً من الناحية السياسية. وإضافة إلى “سيلوفيكي” تضم هذه المجموعة من المتشددين زعيم الشيشان رمضان قديروف، الذي أرسل قواته الأمنية للقبض على منتقديه أو أفراد عائلاتهم في نواحٍ أخرى من روسيا، ووجه تهديدات تقشعر لها الأبدان ضد خصومه وخصوم بوتين. وفي أكثر من مناسبة، بدا قديروف وكأنه يتعمد تجاوز حدوده من أجل تحدي بوتين أو كسر بعض المحرمات – كل هذا بينما يصنف نفسه “جندي مشاة” مخلص للرئيس. ومثل هذه التصرفات نتيجة طبيعية جداً في ظل عدم تحرك بوتين لضبط مرؤوسيه أو التقليل من رتبهم كلما تجاوزوا الحدود.
ولعبت أحداث العالم الخارجي بدورها لصالح مناصري بوتين المتشددين. فقمع الاحتجاجات الأخيرة في بيلاروس وهونغ كونغ وكازاخستان وسوريا وفنزويلا أكد الفكرة القائلة إن الحكام المستبدين الذين يستخدمون القمع الوحشي لسحق المعارضة هم الأقدر على الحفاظ على وجودهم في السلطة. ولربما استجاب الغرب بشكل مبتكر لانتهاكات حقوق الإنسان في الداخل الروسي لما وضع قوائم بأسماء من عوقبوا لارتكابهم جرائم بحق الإنسانية، لكن “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة لم يغير سياسته تجاه روسيا في 2021 ولم يحرمها من عضويتها حتى بعد محاولتها تسميم نافالني وزجها له في معسكر للأعمال الشاقة، وأصدقاء بوتين من النخبة الغربيين لم يحركوا ساكناً إزاء غزو القوات الروسية شبه جزيرة القرم في 2014 واعتقالها العشرات من السياسيين. فبعد شهر من قرار الضم، احتفل المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر بعيد ميلاده السبعين مع بوتين في سان بطرسبورغ. وفي العام التالي، انضم رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني إلى الرئيس الروسي في شبه جزيرة القرم لتذوق نبيذ المنطقة. وهذه أمور لم تغب يوماً عن بال بوتين.
رهان بوتين
بعد تهميشه لقدامى مستشاريه الاقتصاديين والسياسيين، أحاط بوتين نفسه بأفراد مجموعة “سيلوفيكي” لا سيما المتطرفين منهم، على شاكلة باتروشيف الذي يعتقد أن الغرب متواطئ في حياكة مؤامرات معقدة لتقويض روسيا. وفي عام 2021، واستناداً إلى الموقع الإلكتروني الرسمي للكرملين، التقى بوتين بأعضاء مجلس الأمن بمعدل مرتين أكثر من أعضاء الحكومة، بين رئيس وزراء ووزراء. ومع تراجع اهتمامه بالدفاع عن سمعته في الخارج وإعجابه بالنجاح القصير المدى الذي حققته له الممارسات القمعية في الداخل، فتح بوتين المجال أمام هيئات الإنفاذ للتنافس على موافقته والتحكم بالمؤسسات التجارية بكل الوسائل التي تضعها الدولة في متناولها.
وبالطبع، هذا التحول النوعي في نهج الحكم داخل روسيا لم ينه بوتين عن ممارسة عدائيته تجاه العالم الخارجي، لا بل مهد الساحة لمزيد ومزيد من الصراعات. بتعبير آخر، استعاضة بوتين عن التلاعب السياسي بتكتيكات قاسية تقدم التخويف على التلفيق في المعترك المحلي، عززت إمكانات اللجوء إلى العنف في المعترك الدولي. وكما وثقتُ مع غورييف في كتابنا، طغاة التخويف أكثر ميلاً إلى إثارة الحروب والنعرات العسكرية من طغاة التلفيق، لكن بالنسبة إلى بوتين الوضع مختلف، فهو حتى عندما كان واحداً من طغاة التلفيق كان تواقاً للمواجهة والقتال على نحو غير عادي. وما شجعه على ذلك ربما امتلاك روسيا ترسانة نووية هائلة من جهة والاضطرابات السياسية بمحاذاة حدود بلاده من جهة أخرى. وبتحوله اليوم إلى سياسة التخويف تجاه مواطنيه قضى بوتين على أي موانع متبقية في شأن استخدام القوة ضد جيرانه. فلما كان يتظاهر بأنه زعيم ديمقراطي مسالم كان يخشى خسارة دعم الروس له مع كل انتهاك للقانون الدولي وكل ضربة عسكرية ضد مدنيين في بلد آخر، لكن بمجرد توقفه عن التظاهر واعتناقه القمع نهجاً رسمياً انتفت حاجته إلى تمثيل دور الدبلوماسي.
وبرأي البعض، غزو بوتين أوكرانيا ليس سوى مناورة لتعزيز شعبيته ومحاولة إذكاء النشوة القومية التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم، لكن برأيي، هذا التفسير مستبعد كلياً، إذ لو كان الدعم المحلي هو الهدف الأسمى لبوتين لكان وافق على الاعتراف بـ-وربما ضم- جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتين أعلنتا استقلالهما عن إقليم دونباس، ولحظيت خطوته برواج معقول، بخاصة أن استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الغزو أظهرت بوضوح عدم تحمس الشعب الروسي لخوض حرب أوسع. ولو كان بوتين يعتقد حقاً أن غزواً واسع النطاق سيعزز تأييد الروس له لما تظاهر لفترة طويلة أن “قوات حفظ السلام” الروسية موجودة في دونباس لدرء خطر الإبادة الجماعية لا أكثر ولا أقل. على الأرجح أن إحساس بوتين بأهمية قمع المعارضة الداخلية وفعاليتها هو ما حرره من الانغماس في مشاريع دولية أكبر.
وفي الوقت الحاضر، تمارس السياسة في روسيا تحت ظلال الحرب في أوكرانيا. والحروب عموماً تحشد المواطنين خلف زعيمهم أقله في بدايتها، لكنها تزلزل أيضاً استقرار الشؤون الداخلية والرأي العام والسلطة بطرق لا يمكن التنبؤ بها. وطبقاً لاستطلاعات الرأي التي أعدتها شركات مرتبطة بالكرملين في مرحلة مبكرة من الحرب، فإن عديداً من الروس مقتنعون بالرواية الرسمية بأن تهديدات حلف “الناتو” أو الفظائع الأوكرانية أرغمت بوتين على المضي قدماً في العملية العسكرية، وذلك على الرغم من أن استطلاعات الرأي هذه أجريت في سياق ديكتاتوري قاسٍ ومن قبل منظمين تربطهم علاقات وثيقة بالحكومة –وفي زمن الحرب، لا أقل من ذلك– كان لا بد من التشكيك في مصداقيتها لكنه لم يحصل. ومع وصول أخبار المعارك إلى موسكو، تبدل اتجاه الرأي العام الروسي. وعلم الروس أن قواتهم قتلت الآلاف من الأوكرانيين -ليس فقط في الشرق من أجل وقف الإبادة الجماعية المزعومة، إنما في جميع أنحاء البلاد– لكنها منيت في المقابل بخسائر فادحة في العديد والعتاد. وبعد سنوات من العيش تحت وطأة عقوبات خفيفة بات الروس يواجهون اليوم اضطرابات اقتصادية موجعة. وبمرور الوقت، سيشهدون على تحول زعيمهم من صاحب الوعد بالاستقرار والذي وفا به فترة طويلة- إلى مهندس عدم الاستقرار. ومن كان مقتنعاً بينهم بضرورة التصدي للتهديدات التي يمثلها “الناتو” سيرى أن الحلف سينشط وينشر مزيداً من الأسلحة على طول الحدود الغربية لروسيا، وسيصاب بالإحباط جراء العزلة العالمية الجديدة – مع مقاطعة العالم الفنانين والفرق الرياضية الروسية. وفي مواجهة العواقب الفوضوية والدموية غير الحاسمة للحرب، قد تنسحب المشاعر السلبية هذه على القوميين المتطرفين الذين كانوا من أشد المؤيدين لتدخل عسكري في المنطقة.
ومع انتقاص الموارد والأدوات الأخرى سيميل بوتين إلى تصعيد وتيرة الترهيب والتنكيل، ولكن في المجتمعات المعقدة والمتطورة اقتصادياً كالمجتمع الروسي، حيث يتمتع الرأي العام بإمكانية الوصول إلى تكنولوجيا الاتصالات ويخيم الاستياء على نطاق واسع، يمكن لتشديد سياسات القمع والاستبداد أن يفضي إلى نتائج عكسية، فإلى مقاومة أكبر. والحقيقة أن بوتين اليوم في موقع أكثر ضعفاً من أي وقت مضى بسبب المسؤولية الشخصية العالية التي يتحملها عن الغزو وتبريره له بمقال تاريخي عن العلاقة بين الروس والأوكرانيين نشر في صيف 2021 وبخطاب حماسي ألقاه قبل ثلاثة أيام من بدء الغزو. حينها وقبل ساعات قليلة من بث الخطاب على شاشة التلفزيون الحكومي، عقد بوتين اجتماعاً مسجلاً بالفيديو مع مجلس الأمن التابع له، ربما بقصد توزيع المسؤولية على جميع أعضائه الذين لم يترددوا لحظة واحدة في دعم قراره بالاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين. وفي الفيديو، ظهر بوتين بمظهر الديكتاتوري الصارم، حيث جلس بمفرده على طاولة طويلة مستجوباً كل عضو على حدة.
إلى ذلك وفيما يتحضر بوتين لرفع وتيرة القمع وحدته، سيتزايد اعتماده على “سيلوفيكي”. وإذا ما أراد الاستمرار في تضييق الخناق على مختلف أجهزة دولة الأمن الروسية وفصائلها، فسيكون عليه أن يحقق التوازن بينها ويحرضها على بعضها بعضاً من دون توقف، وسيحتاج إلى أن يحرك الأفراد الأقوياء عبر مختلف المناصب والمهام ويتعامل بمهارة مع أي تلميحات بعدم الولاء. ومع كل هذه التطورات ستصبح عمليات تطهير النخبة، التي كانت في تصاعد بالفعل، أكثر وضوحاً.
يمكن القول إن بوتين راهن على مستقبله لما وجه سهامه الملتوية ونصاله إلى النظام الدولي بعد الحرب وانتهج استراتيجية سياسية مختلفة تجاه مواطنيه. فخوض حرب لا تسير طبق الخطة هو الخطأ الكلاسيكي الذي أسقط عديداً من الأنظمة الاستبدادية عبر التاريخ، كما أن كذبة وقحة بقدر كذبة بوتين -إرسال قوات لمهاجمة كييف تحت غطاء إنقاذ ضحايا الإبادة الجماعية في دونباس– هي قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في وجهه في أي لحظة. وإن كان على التناقض الواضح بين هدف بوتين المعلن لتوحيد الشعوب السلافية وأسلوبه المعتمد في قصف الأحياء السكنية، فهو أفظع من أن تستصوبه آلة دعائية ماهرة. ولا شك أن شريحة كبيرةً من الروس ستسعى غريزياً إلى تجنب التنافر المعرفي من خلال الاحتشاد خلف زعيمها، لكن تنافراً بهذا الحجم لا يمكن إلا أن تنتج عنه نقلة نوعية. وفي إطار بيروقراطية القمع المجهزة والممارسة بشكل جيد كما هو الحال في روسيا اليوم، قد يشعر بوتين بالأمان بدرجة معقولة، لكن مهمته في البقاء السياسي ستكون أصعب بكثير.
دانييل تريزمان هو أستاذ العلوم السياسية في “جامعة كاليفورنيا” في لوس أنجلس وزميل في “مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية” (CASBS) في “جامعة ستانفورد”، شارك سيرغي غورييف في وضع كتاب “طغاة التلفيق: الوجه المتغير للاستبداد في القرن الحادي والعشرين” Spin Dictators: The Changing Face of Tyranny in the 21st Century).
مترجم من فورين أفيرز، مايو/ يونيو 2022
المصدر: اندبندنت عربية