“لُغة عربية محكيّة واحدة حيّة فاعلة مُنتجة للحياة أفضل من عشر لغات فًصحى ميّتة ومهجورة لا يدخلها أحد ولا يخرج منها أحد” ـ هذا ما كتبته على صفحتي في الفيسبوك. فلم تتأخّر الردود والتعقيبات والإشارات. لم أتفاجأ لأنني كنتُ خُضتُ مرارًا في هذا المضمار وفي أكثر من حقل معرفيّ ومنبر، طالبا تحرير اللغة العربية من قممها، وبإقامة شرفتيْن على كلّ مفردة فيها ـ واحدة للشمس وواحدة لاستقبال اللغات الأخرى على فنجان قهوة بوصفها ثقافات. وقد أشرتُ بكثير من الأسف إلى ظاهرتيْن لغويتيْن ثقافيتيْن أفقرت الثقافة العربيّة بالذات منذ مطالع نهضتها وهما، أولا ـ قمع ومحاصرة الإنتاج الثقافي اللغات المحكية وعدم اعتباره. ثانيًا ـ قمع حدّ منع اللغات غير العربية التي تحدثت بها مجموعات قبل عربية إثنيّة وثقافية. وقد جرى هذا ـ وغيره ـ تحت غطاء بناء الهويّة القوميّة عبر متغيّر اللغة/الثقافة في مواجهة هيمنة اللغات الاستعمارية الغازية وفي تجاوز الاختلافات والتمايزات من قُطر عربي إلى آخر أو داخل الأقطار نفسها. كانت الفرضيّة أن اعتماد لغة معيارية واحدة من الخليج للمحيط سيعزّز فُرص الهويّة العربيّة في عالم من اللغات والثقافات المتصارعة. وهي فرضية لها ما يسندها في المنطق لكنها تُرجمت على أرض الواقع إلى سياسات غبنت اللهجات المحليّة ولغات غير عربية منتشرة هنا وهناك في الحيّز العربي.
إن اللغات المحليّة بالنسبة لي مصدر غنى خسرته الثقافة العربية لسنوات علمًا بأنني لا أعرف لغة محليّة واحدة انقرضت أو تلاشت في المئة سنة الأخيرة. لكن جرّبوا معي أن نتخيّل تخيّل المبُدعين المصريين بدون لغتهم اليومية ـ بيرم التونسي وفؤاد نجم ومليون أغنية أخرى بالّلهجة المصرية! أو تخيّلوا تونس بدون “مالوفها” ـ فن يُشبه القدود الحلبيّة ـ أو العراق بدون غنائها الشعبي وفولكلورها وسورية بدون غنائها من القامشلي شمالا إلى جوفيّات جبل العرب. أو لبنان بدون فنّ الزجل وميشيل طراد ـ بمعنى أن اللغات المحكية تتضمّن القصة الشعبيّة للجماعة وهي التي تُبقيها حيّة ـ ولا أقترح على أحد أن يحرم أصحابها منها. هناك واجب ردّ اعتبار للثقافات العربيّة الشعبيّة بوصفها رافدًا من روافد الثقافة العربية وجزء من نتاجها وإرثها.
وقد حصلَ الأمر ذاته مع لُغات غير عربية عاشت داخل الثقافة العربية ومعها في حركة حيّة من الأخذ والعطاء على مدار قرون طويلة إلى أن سمّتها الحركة القومية العربية ـ لغات عدوّة أو مُعيقة ينبغي تسويتها بالأرض في سبيل المشروع القومي العربي. هكذا حصل على سبيل التمثيل لا الحصر مع لُغتيْن واسعتيْن ـ لُغة الكورد في العراق (وفيها لهجات متعدّدة) ولُغة الأمازيغ في شمال أفريقيا (وفيها لهجات متعددة). تمّ تهميش و”قتل” اللغتيْن بحجّة تعزيز العربية المعياريّة في وجه الفرنَسَة في شمال أفريقيا، وبحجة “البعث العربي” في أرض العراق وسورية. وهكذا أيضا خسرت هذه المجتمعات رافدا من روافد ثقافتها وإنتاجها.
ومن المآخذ الأخرى على المشروع القومي العربي في هذا الباب ـ هو ذهابه شوطًا طويلًا في “تقديس” اللغة العربية المعيارية الفُصحى بوصفها وعاء الهوية وحافظة الماضي والتاريخ وباعثة الوعي القومي (شيء ما من هذا أُخذ عن القومجيين الألمان ومنظّرهم وليام هيردر). وبذلك أضافوا طبقة ثانية من “القدسية” كأن لا تكفينا تلك التي أسّسها الإسلامويون من قبل ومن بعد. تياران عربيّان قفلا الأبواب على اللغة العربية ورميا المفتاح في قاع البحر. وهكذا، تركا أثرًا مدمّرا على الثقافة العربية. فقد حرموها من مصدريْ إثراء وغنى تجسدّهما اللغات المحليّة واللغات غير العربية الساكنة في الحيّز العربي. والأخطر ـ أنهما منعا حصول أي حركة تجديد جدّية في اللغة ومساحتها بدعوى عدم المساس بـ”قداستها” بوصفها لغة القرآن الكريم وبوصفها نهائية تتضمن كل شيء وليست بحاجة لحرف أو نُقطة أخرى. فلا يجوز ـ وفق هذا المنطق ـ الإضافة عليها أو الحذف منها. وما ينطبق عليها كقاموس مفردات ينطبق عليها ـ وفق هذا المنطق ـ في مستوى النحو والصرف.
اللغة كائن حيّ والإنسان كائن لُغوي كما يقول الفرنسي ليفي شطراوس. مثل هذه الفرضيات لم تغِب عن المنظرين العرب للغة والثقافة. فالأدبيّات المتراكمة تُبت وعيًا عربيّا بذلك. إلا أن السياسات اللغوية العربية أجهضت هذا الوعي وحاصرته حيث هو في منطقة التفكير والأدبيات. الحركة المهيمنة في السياسات اللغوية العربية هي التغنّي بالحرص عليها لتبرير سجنها والتقليل مدى حركتها وتفاعلها (أشبه بما حصل للمرأة العربية عمومًا). فظلّت العلاقة بينها وبين ساكنها ـ متحدّثها ـ باتجاه واحد، هي التي تصنعه وتصمّم وعيه دون أن يكون له أي حقّ في أن يجاريها في الفعل فيعود هو إليها ليحفر ويهدم ويبني ويُنتج وينقد ويصحّح إلى آخر الأفعال المتعدّية.
ما لم تحدث ثورة في اللغة ضد المعيقات التي أشرت إليها لن تحدث في الفكر والثقافة والسلوك والحياة. اللغة هي وعاء الحياة والهوية والأفكار والتصوّرات والأحكام ـ إذا ظلّت محافظة جامدة مقدّسة معصومة محصّنة يمنعها “الحرّاس” و”سدنة الهيكل” من الحركة والتنقّل، من الاكتساب ومن الفقدان، من التفكيك والبناء، من النموّ بحريّة فلا بدّ أن تكون مُخرجاتها بما يتلاءم ـ لُغة بأفعال لازمة غير متعدّية في كلّ شيء. خلص الصديق المرحوم جورج طرابيشي في مؤلّفه الأخير التلخيصي لمشروعه التنويري، “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” إلى أن مصيبة الثقافة العربية هي في انغلاق النصّ (المدوّنة الحديثية) على العقل ومنعه من التأويل والحفر والتفكيك والتجريب ـ والأمر صحيح بالتطابق في أمر اللغة، أيضا. فالعقل الذي تشكّله اللغة ينبغي أن يتمتّع بحريّة الفعل والتأويل والخلق على أرضها وفيها. لقد أنتجت اللغة العربية، بوصفها خطابًا ونصوصًا وثقافة، “عقلية عربية” ذات أنساق وأنماط ومبانٍ تُجهض المعرفة. فالمعارف التي اكتسبها العرب وأنتجوها في المئة سنة الأخيرة مثلا، انكفأت عند “العقلية العربية” في حياة الدول والمجتمعات. فما حرّكه أحمد فارس الشدياق كمجدّد ثقافي لغوي مثلًا ـ توقّف عند مجامع لُغوية محافظة خائفة من ظلّها أو عند االإسلامويين والقومجيين العرب المرابطين على أسوار اللغة القلعة! يسرّني حركة التحرّر اللغوي التي تقودها اللغات المحليّة واللهجات واللغات غير العربية الساكنة بيننا، وتسرّني إنجازاتها التي لا تكتمل إلّا بتحرير اللغة العربية من “قدسيتها” المزدوجة، الدينية والقومية، وتحرير قاموسها من الألفاظ الميتة والمهجورة وقواعدها وصرفها من أحكام وظواهر بائسة. سنصير يومًا ما نريد عندما تصير العربية المتداولة في الراهن لغة ميسّرة لا تُحارب أحدا بقدر ما تصادق وتحاور وتقتبس وتبثّ وتتصالح مع نفسها ولهجاتها وجاراتها. كي يسعد ساكنو اللغة العربية لا بدّ من جعلها ميناء مفتوح يأتي العالم إليه استدلالًا بفناره وليس حصنًا مُغلقا على عتمة الأقبية والموبقات.
المصدر: المدار نت