ماذا بعد إلغاء عقوبات قيصر؟

رانيا مصطفى

في خطوة من المفترض أن تشكّل فرصةً ثمينةً، من المفترض أن يدخل السوريون العام الجديد (2026) وقد تخلّصوا من عقوبات قانون قيصر لحماية المدنيين لعام 2019، الذي يتيح معاقبة أفراد ومؤسّسات أجنبية تتعامل مع الكيانات السورية الخاضعة للعقوبات الأميركية؛ فبعد أن أقرَّ مجلس النواب الأميركي (10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري) قانون تفويض الدفاع الوطني، والمتضمّن إلغاء هذا القانون، من المتوقّع أن يصوّت عليه مجلس الشيوخ أيضاً بالإيجاب، وأن يوقِّعَه الرئيس دونالد ترامب قبل نهاية العام. وسيقود هذا الإلغاء إلى التخفيف من حالة عدم اليقين التي قيَّدت عمل المصارف والتجارة في سورية، ما سيسمح باندماج سورية دولياً، ويشجّع على الإقبال على الاستثمار في البلاد، ويسهّل حركة الأموال من وإلى سورية.
كانت عقوبات قيصر سياسيةً بامتياز لإحداث ضغوط على الأسد لتغيير سلوكه وفق المصالح الأميركية
ورغم دورها المهم في إضعاف نظام الأسد، لم تحمِ عقوبات قيصر المدنيين، كما ينصّ عنوانها، وقد جاءت على خلفية صور قيصر المسرّبة لتعذيب آلاف الضحايا في الأفرع الأمنية السورية، ولم يتأثّر بها الأسد والدائرة المحيطة به مباشرة، لكنّها ضيَّقت دائرة المستفيدين بسبب ضيق الموارد، وهذا يمكن ملاحظته في معظم المراسيم والقرارات التي صدرت في السنوات الخمس الأخيرة من حكمه، وكانت تصبّ في مزيد من تركيز النهب بيد بشّار الأسد وزوجته (أسماء الأخرس)، وقاد ذلك إلى انصراف رجالات النظام إلى الاعتماد على ما يعرف باقتصاد الكبتاغون مورداً أساسياً للنظام والعائلة. في حين أن العقوبات الأميركية شملت مؤسّسات حكومية، ومنها البنك المركزي، وشملت كل من يتعامل مع تلك المؤسّسات المُعاقَبة من أفراد وشركات خارجية، ومنعت استيراد وتصدير النفط ومواد البناء. هذه العقوبات، إلى جانب سياسات النهب والاحتكار وغياب دور الدولة والتضييق على الصناعيين والتجّار لنهب ما في جيوبهم، التي كان يمارسها نظام الأسد على السوريين في مناطق سيطرته، قادت إلى المزيد من الإفقار وتفشّي الفساد وانتشار الاقتصاد الأسود. بالتالي؛ فعقوبات قيصر وباقي العقوبات الأميركية، لم تكن عقاباً للأسد بقدر ما كانت لها تبعات مُدمِّرة لكل بنية الدولة السورية ومؤسّساتها، فيما لم يقدّم الأسد وفريقه الاقتصادي خطّةً استثنائيةً وطنيةً لتجاوز الآثار المُدمِّرة لهذه العقوبات.
كانت عقوبات قيصر سياسيةً بامتياز لإحداث ضغوط على الأسد لتغيير سلوكه وفق مقتضيات المصالح الأميركية، وجاء إلغاءُ القانون من دون أثر رجعي في ما يتعلّق بعودة العمل به، لكنّه يضع شروطاً على السلطة الجديدة، ويتيح للرئيس الأميركي فرض عقوبات جديدة. وبالتالي؛ هو يُخضِع الحكم الجديد أكثر للتبعية الأميركية. معظم الشروط، وإن تلاقى بعضها مع مطالب للسوريين، إلّا أنّها تصبّ في المصلحة الأميركية، وواشنطن غير معنية بشروط الديمقراطية والنظر إلى مطالب الشعب. فقد عاد الأميركيون عبر نصّ إلغاء قيصر إلى ثمانية شروط، تتعلّق بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإبعاد المقاتلين الأجانب من المناصب الأمنية، وحماية وحقوق الأقليات وتمثيلها العادل، والامتناع عن الأعمال العسكرية غير المبرّرة (أميركياً) ضدّ دول الجوار، ومنها إسرائيل، وتنفيذ اتفاق 10 مارس (2025) سياسياً وأمنياً، ومكافحة غسيل الأموال والأنشطة المتعلّقة بالإرهاب، ومحاكمة المتورّطين بالانتهاكات المرتكبة منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ومكافحة المخدّرات واتخاذ خطوات ملموسة لوقف الإنتاج والتهريب. وسيكون الرئيس الأميركي مُكلَّفاً متابعةَ مدى التزام حكومة دمشق بالشروط وإطلاع الكونغرس عليها دورياً. والشروط الأميركية تمسّ سيادة الدولة السورية في ما يتعلّق بفرض عدم مواجهة إسرائيل، خاصّةً أن الأخيرة تحتلّ أجزاء من الجنوب، وتتوغّل في الأراضي وتخرّب الممتلكات وتعتقل السوريين، عدا عن دعمها لمطالب الانفصال في السويداء.
في كل الأحوال، أُلغي القانون الذي لطالما استخدمه الأسد شمّاعةً لعدم تبنّيه خططاً تنموية للنهوض بالبلاد، ولتبرير عجزه عن تقديم دعم للسوريين، فيما كان مستمرّاً في سياسات النهب والاحتكار حتّى هروبه، الأمر الذي قاد إلى انفضاض ما تبقّى له من حاضنة شعبية كانت تؤيّده، وتجويف المؤسّسات العسكرية والأمنية التي تحمل هذا النظام، وكان لهذا العامل دورٌ كبير في سقوطه وانسحاب (واختفاء) جيشه خلال معركة ردع العدوان. السلطات الجديدة تكرّر سياسات الأسد النيوليبرالية، ولكن بطريقة أكثر فظاظة، وقد ألغت الدعم عن السلع الأساسية، ورفعت أسعار الكهرباء من دون قدرة السوريين على الدفع، فيما يجري تجاوز مؤسّسات الدولة ووزاراتها بهيئات تتبع للرئيس فوراً، ومستقلة مالياً، مع غياب أيّ شفافية. ولا تزال البلاد مقسّمةً اقتصادياً بين أربع مناطق نفوذ بموازنات منفصلة، إذ لم تُدمَج مناطق إدلب وشمالي حلب مع دمشق اقتصادياً، ولا مالياً، مع استمرار التعامل بالليرة التركية والدولار في تلك المناطق. وبالتالي؛ لم تقدّم السلطة الانتقالية خطّةً طوال السنة الفائتة لإعادة الهيكلة المالية والمصرفية، ولم تضع خطّةً اقتصاديةً واضحةَ المعالم للنهوض استعداداً لاقتناص فرصة رفع العقوبات.
سيصعب أن يستفيد الشعب السوري من رفع العقوبات مع تصاعد الفساد والكسب غير المشروع والتفكك المناطقي
السلطة الجديدة شديدة الهشاشة، وتحكمها عطالة تمنعها من إعادة هيكلة نفسها باتجاه العمل المؤسّسي والدولتي. فبنيتها الفصائلية لا تسمح بذلك، لأنها قائمة على التوازنات الهشّة، التي في أساسها كانت توازنات الحكم في إدلب مع ضمّ فاعلين جُدد. والرئيس أحمد الشرع مضطر لإدارة هذه التوازنات حتى لا ينفجر الوضع الداخلي، فيمسك بالسلطة ويمركزها في يده، ويحاول الإمساك بالموارد كلّها عبر الاعتماد على قيادات ضمن هيئة تحرير الشام، وفي غالبيتهم تربطهم به صلات قرابة، ومنهم إخوته، فيما وزّع موارد الدولة بين قياداته العسكرية الذين أصبحوا مدراء في مؤسّسات الدولة، ويشترون الولاءات، ولكل منهم جهازُه الأمني الخاص، وما زالت تحكمهم العقلية المليشياوية.
في ظلّ هذا الوضع الهشّ، من الصعب أن يكون هناك جذب للاستثمارات، لكن إن سمح إلغاء عقوبات قيصر بتنفيذ بعض المشاريع، فسيكون تقاسمها غنيمةً بين الفاعلين هو الأساس، وضمن توازنات القوى ذاتها، مع البحث عن موارد جديدة، وقد يكون بعضها مرتبطاً بالفساد والتحكّم الأمني وغسيل الأموال. هذا سيجعل من الصعب أن يكون الشعب مستفيداً من رفع العقوبات، مع استمرار تصاعد الفساد والكسب غير المشروع، والتفكّك المناطقي في ظلّ محاولة كل منطقة، وليس السويداء فقط، إدارة شؤونها بسبب غياب دور الدولة وقدرتها على التخطيط المركزي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى