
منذ سقوط نظام بن علي عام 2011، ظلّ المشهد السياسي التونسي يتأرجح بين حلم الانتقال الديمقراطي وكوابيس الارتداد إلى مربّع الدولة السلطوية. في هذا المناخ المُعلَّق بين ذاكرة الماضي وضبابية المستقبل، برز الحزب الدستوري الحر (2016) بقيادة نائبة الأمين العام للمرأة في التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ، المحامية عبير موسى، وبدا الحزب ظاهرةً سياسيةً صاخبةً، ولافتة، وقدّم نفسه وريثاً للبورقيبية وخصماً شرساً للثورة وقواها، واستثمر في إرث الحزب الدستوري القديم، ورمزية الزعيم الحبيب بورقيبة، ومناهضة الإسلام السياسي. ورغم ما حقّقه من حضور إعلامي، خصوصاً في فترة صعوده إلى البرلمان (16 نائباً) بين 2019 و2021، اعترتْ مساره السياسي، بحسب مراقبين، جملةٌ من الحسابات الخاطئة التي أثّرت في فاعليته، وأضعفت قدرته على التحوّل بديلاً حقيقياً من النّخب الحاكمة والمعارضة في المشهد السياسي التونسي العليل.
صاغ الحزب الدستوري الحرّ هُويَّته على أساس القطيعة التامّة مع الثورة ومخرجاتها، والتشكيك في شرعيتها
منذ نشأته، صاغ الحزب هُويَّته على أساس القطيعة التامّة مع الثورة ومُخرجاتها، والتشكيك في شرعيتها، وهاجم الإسلاميين عموماً، وحركة النهضة خصوصاً، واعتبر العشرية التي تلت الثورة مرحلة “فوضى” و”خراب”، وروّج صورة الدولة القوية الضابطة كما عرفها التونسيون زمن بورقيبة وبن علي. واعتمد الحزب خلال مدّته النيابية في البرلمان سياسةَ الاعتراض الاحتجاجي المستمرّ على جُلِّ مشاريع القوانين التي كانت تهدف إلى دعم المؤسّسات الديمقراطية. وكان رفض الحزب أيّ إصلاح تشريعي يظهر غالباً في جلسات التصويت، وبلغ الأمر درجة الاعتصام تحت قُبّة المجلس النيابي وتعطيل الجلسات البرلمانية، على نحو حرم المجلس من الحسم في ملفّات جوهرية تتعلّق بالانتقال الديمقراطي. وكان القصد تقويض المنجز السياسي للثورة، وإرباك النظام السياسي البرلماني، والتمهيد لتصعيد الحزب الحرّ الدستوري إلى دوائر صناعة القرار في قصر قرطاج. لكنّ ذلك لم يتحقّق. فمع قيام حركة 25 يوليو/تموز (2021)، أمسك قيس سعيّد بزمام السلطات الثلاث، ووسّع صلاحياته، وأرسى دعائم نظام رئاسوي أحادي مطلق.
شعبياً، حصد الحزب الدستوري الحرّ كتلةً انتخابيةً معتبرةً في انتخابات 2019، وصار القوة المعارضة الأبرز داخل البرلمان المُنحلّ. وقد استند في صعوده إلى قاعدة اجتماعية تتكوّن أساساً من الفئات الوسطى والمدينية التي ضاقت ذرعاً بتعثّر الحكم الائتلافي، ومن شريحة ترى في البورقيبية رمزاً لهيبة الدولة وصرامتها. لكن لم ينجح الحزب في الامتداد إلى داخل الأحياء المُهمَّشة والجهات الداخلية التي تعاني بطالةً وفقراً وتهميشاً تاريخياً، كما لم يستطع استقطاب الشباب الذين يبحثون عن خطاب جديد يتجاوز ثنائية “الإسلاميين – الدستوريين”. ففي زمن الأزمة الاقتصادية، لا يكترث الناس بالحسابات الأيديولوجية والمعارك الهُويَّاتية، بل يسأل المواطن عن الأسعار، عن الخبز، عن الخدمات العمومية، عن ارتفاع معدّلات البطالة التي تجاوزت 15%، وهنا ظهر تقصير الحزب. فبينما تراه يصرخ عالياً ضدّ “النهضة” وضدّ الثورة، وأخيراً ضدّ قيس سعيّد، تجده لا يقدّم حلولاً إجرائيةً مفصّلةً للأزمة الاجتماعية، فالخطاب الحزبي الشعبوي قد يلفت انتباه بعض الناس، وقد يجذب بعض وسائل الإعلام، لكنّه لا يبني ثقةً طويلةَ المدى، لذلك ظلّ الحزب كياناً سياسياً لافتاً. لكنّه غير قادر على تحشيد الشارع ضدّ المنظومة الحاكمة، والتحوّل إلى “حزب الشعب” بالمعنى العميق للكلمة.
ويكاد الحزب يُختزَل في شخصية عبير موسى، المرأة التي تحوّلت من محامية تجمّعية إلى أبرز وجوه المعارضة البرلمانية، ثم إلى رمز للقطيعة مع الثورة. وقد منح حضورها القيادي المُكثَّف وصداميّتها في البرلمان الحزبَ هالةً إعلاميةً، وغدا يتصدّر نشرات الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي. لكنّها في الوقت نفسه هيمنت على التنظيم بحسب ملاحظين، إذ أصبح كل قرار يمرّ عبرها، وكل خطاب يصاغ بلسانها، حتى صار الحزب أشبه بامتداد شخصي لها أكثر منه مؤسّسة حزبية قادرةً على الاستمرار والانتشار. وقد وضعت هذه المركزية الذاتية في حسابها منح الحزب انضباطاً منع الانشقاقات المتكرّرة التي أنهكت أحزاباً أخرى في تونس، لكنّها زرعت، من جهة أخرى، هشاشةً عميقةً، مدارها: ماذا لو غابت موسى لأيّ سبب؟ هل يملك الحزب كوادر بديلة؟ هل يملك آليات تداول داخلي؟… يبدو الجواب سلبياً، فالحزب لم يبنِ مؤسّسةً، بل بنى زعامة، وهذا من أعراض أزمة أوسع في السياسة التونسية بعد الثورة، فصارت الأحزاب تتماهى مع الأشخاص، بدءاً من نداء تونس والباجي قائد السبسي، مروراً بحركة النهضة وراشد الغنّوشي، وصولاً إلى قلب تونس ونبيل القروي.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وجد الحزب نفسه في مواجهة ملاحقات قضائية على خلفية اتهامات بمخالفات انتخابية، وتجاوزات إدارية ومالية، وتمّ اعتقال رئيسته عبير موسى، وهو ما قلّص من حضور الحزب إعلامياً وميدانياً. والمفارقة هنا أنّ الحزب الذي مجّد الدولة القوية طويلاً، يجد نفسه ضحية الدولة نفسها، حتى بدا أنّ الخطاب الذي رفعه لسنوات ارتدّ عليه، بحسب مراقبين. ورأى أنصار الحزب في الأمر استهدافاً سياسياً لكينونته، بينما اعتبر خصومه ما آل إليه واقع الحزب من ضمور دليلاً على هشاشة بنيته التنظيمية وسوء تقديره لتحوّلات المشهد السياسي في تونس.
ركّز الحزب في خطابه السياسي على استعادة “الدولة البورقيبية”، وعلى مناهضة الإسلام السياسي، وعلى الدفاع عن “النمط المجتمعي التونسي”. ورغم أهمية هذه القضايا، لم ينجح الحزب في تقديم رؤية اقتصادية واجتماعية واضحة للمستقبل، تتجاوز منطق الاحتجاج إلى منطق البناء، ولم يواكب التحوّلات الثقافية التي يشهدها المجتمع التونسي، خاصّةً ما تعلّق بالقيم، وأنماط العيش، وتطلّعات الشباب، والعلاقة مع الدين والهُويَّة والعالم الرقمي. فقد ظلّ خطابه محافظاً، تقليدياً، يركّز على”النمط المجتمعي” من دون أن يُحدّد مفهومه، ومن دون أن يقدّم قراءةً نقديةً لأدائه السياسي. كما لم يقدّم مواقفَ واضحةً من قضايا مثل الحريات الفردية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم أو الحقوق الرقمية والبيئية. وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس، وتراجع الخدمات العمومية، لم يقدّم الحزب برامج تفصيلية في مجالات مثل التشغيل، والإصلاح الإداري، ومكافحة البيروقراطية والتفاوت الجهوي، وركّز في خلافات الماضي مع الإسلاميين واليساريين وغيرهم على نحو جعله مسكوناً بهواجس زمن مضى، بدلاً من أن يكون عنوان مشروع تحديثي قادر على الاستجابة لتحديات الحاضر والمستقبل.
ويغلب عليه خطاب “ضدّ”: ضدّ النهضة، والثورة، ومخرجات 25 يوليو، لكن”مع مَن؟”… هنا يلوح الفراغ، ويظهر عجز الحزب عن تشكيل تحالفات سياسية وازنة، سواء داخل المعارضة أو خارجها. فرغم محاولاته المتكرّرة إطلاق مبادرات لتوحيد المعارضة، لم ينجح في كسر الحواجز الأيديولوجية التي تفصله عن بقية الأحزاب، فقد ظلّ يرفض أيَّ تقارب مع حركة النهضة، وهو موقف مفهوم بالنظر إلى النزاع التاريخي بين الطرفَيْن على الحكم، لكنّ رفض التحالف الاستراتيجي مع الآخر السياسي امتدّ ليشمل أحزاباً تنتمي إلى العائلة الديمقراطية أو اليسارية مثل الحزب الجمهوري، أو حزب العمال، أو حتى بعض الشخصيات المستقلّة. وبلزوم هذا التوجّه السياسي، بدا الحزب الدستوري الحرّ بحسب مراقبين مسكوناً بهاجس الهيمنة على المعارضة، بدلاً من بناء تحالفات تقوم على الحدّ الأدنى المشترك، ويخشى من أن تنافس أيُّ شخصية حزبية عبير موسى على الظهور والزعامة.
بدا الحزب مسكوناً بهاجس الهيمنة على المعارضة، بدلاً من بناء تحالفات تقوم على الحدّ الأدنى المشترك
والواقع أنّ حالة الحزب ليست استثناءً، بل هي تكثيف لظاهرة أشمل تعيشها الحياة الحزبية في تونس، فقد ولدت معظم الأحزاب بعد الثورة بلا بنية تنظيمية متينة، وبلا رؤية فكرية عميقة، وبلا قدرة على الاستمرار، فقد اختفى نداء تونس مثلاً سريعاً بعد صعوده، وتلاشت أحزاب كثيرة، وتزايدت محنة الأحزاب المعارضة بعد 25 يوليو بفعل ما تواجهه من تهميش، ومضايقات وملاحقات قضائية. والثابت أنّ المنظومة الحاكمة والمعارضة (على السواء) تعانيان غيبة النقد الذاتي، والاعتراف المتبادل، ومن صعود الشخصنة والخطاب الشعبوي، والاستقطاب الهُويَّاتي، والبحث عن الخلاص الذاتي، وكلّها أعراض أزمة النظام السياسي في تونس بعد الثورة.
ختاماً، يمكن القول إن الحزب الدستوري الحرّ، رغم ما يمتلكه من رمزية تاريخية، ومن قاعدة شعبية معتبرة، ومن قدرة على التعبئة، لم ينجح في تحويل هذه العناصر قوةً سياسيةً مؤثّرةً، بسبب جملة من الحسابات والخيارات التي تتعلّق بالخطاب، والتنظيم، وإدارة التحالفات، والقدرة على الانفتاح على الآخر. وإذا أراد الحزب الدستوري الحرّ أن يؤسّس لنفسه دوراً محورياً في مستقبل تونس السياسي، فأحرى به أن يعيد النظر جذرياً في استراتيجياته وخياراته. فلا يكفي أن يراهن على رمزية الماضي أو على الزعامة الفردية، بل يجب أن ينفتح على التحالفات، ويطوّر خطابه ليشمل قضايا الشباب، والاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، ويعيد بناء تنظيمه الداخلي على أسس مؤسّساتية تضمن الاستمرارية والتداول. ومن المهمّ أن يخرج من منطق المواجهة الدائمة، ويتحوّل فاعلاً سياسياً عقلانياً قادراً على تقديم البدائل، ومحاورة الآخرين، والتأثير في السياسات العمومية. وحدها المراجعة النقدية الذاتية العميقة يمكن أن تفتح أمامه أفقاً جديداً، وتمنحه فرصةً حقيقيةً للمساهمة في بناء تونس المستقبل.
المصدر: العربي الجديد






