بعد مجموعته القصصية “نص لص” الصادرة عام 2003 عن دار الجندي للتوزيع والنشر، يقرر الممثل السوري بسام كوسا أن يكتب روايته الأولى “أكثر بكثير” وهي إصدار حديث عن دار نينوى للدراسات والتوزيع والنشر، وتقع في 140 صفحة.
وهي تجيز لنا تصنيفها على أنها سرد ركيك التشكيل يمسك بحبكة مفلسة القيمة منذ البداية، لكن كوسا أراد استدراج اسمه كواحد من أكثر الممثلين السوريين موهبةً إلى ما كتب، غير أن هذا لم يسعف مساعيه، فسرديته “أكثر بكثير” أبطلت سحر الممثل على الشاشة، وقدمته كاتباً فقير الموهبة، قليل الحيلة في التمكّن من أدوات العمل الروائي أكثر بكثير مما كان يتوقعه.
حبكة الثغرات لمجتمع القاع
يبدأ الكاتب سرده مع “مبروك” الذي يروي بلسانه كيف قَدِمَ إلى الدنيا كابن زنا، والده الحقيقي “صبحي” صبي النجار في حارتهم، لكن وفي بضع صفحات يموت والده غير الحقيقي العقيم، مثلما مات جميع أشقائه، وهم أبناء زنا أيضاً تباعاً، فلم ينجُ من تلك التهلكة سوى مبروك الذي صار أجيراً عند معلم نول. لم يتعلق كوسا كثيراً في مدخل سرده ذلك، ولم يجعل أصل مبروك غير الشرعي أحد أعمدة الحبكة مثلاً، بل عبر منه كتفصيل ضئيل الأثر، لم يُرَ لاحقاً في بناء الحبكة والسرد، وهذا تكرر عندما جعل بطله مبروك يتعرف إلى إيليا المنحدر من أسرة يهودية تمتهنُ النقش على النحاس، تلك المهنة التي مرَّ عليها مبروك كما مرَّ على سواها من مهن، وسرعان ما يهاجر إيليا إلى الولايات المتحدة، وكأنه بأصله اليهودي ذاك بدا تفصيلاً صغيراً لم يحسن الكاتب استثماره روائياً داخل نسيج حبكته.
تمضي الحبكة عاجزة عن بلوغ ذرًى صغرى أو ذروةٍ كبرى، كما لو أنها مقعدةٌ لا تتقدم، فارتسمت ملامحها من تتابعٍ مضجر لشخصية هامشية اسمها مبروك تجتمع حولها باقي الشخصيات، وهي بمعظمها شخصيات قاعٍ هامشية، كل ذلك بدا هلاماً ركيك الصناعة الأدبية، فلا حبكةَ مقنعة تسترد تلك الشخصيات إلى فضائها وإحالاته الممكنة، ولا سرد متقن مكّن كوسا من إدراك عمقٍ روائي فصيح المعنى، فبدا ما كتبه أقرب إلى السرد القصصي حيث يكون حاملا الزمان والمكان موجزين للغاية في الامتداد والدلالة.
سرد بمرجعية مشاهدَ تلفزيونية!
تأثرُ كوسا بأساسه كممثل جعله مهتماً ببناء سرديته هذه على شاكلةٍ تشبه بناء السيناريو التلفزيوني لجهة فهم الحبكة على أنها تتالٍ للمشاهد ذات التفسير البصري المستند إلى الشخصية في بعدها السينوغرافي المدمج مع الديكور والأكسسوار والإضاءة وأحياناً قليلة المؤثرات الصوتية، لذا كنّا أمام سرد تقدّم في وحدة الزمان باستطالتها التقليدية من لحظة بداية تشكل الحدث الدرامي وهنا ولادة مبروك، إلى لحظة نهايته المتمثلة بتمكن مبروك من الكتابة.
كما يتطرق السرد الكفيف إلى تساؤلات يُكثر منها كوسا محيلاً إياها إلى غلوٍ مزمن في اللا يقين المتصل بسرده، مثل: كي لا أدري صفحة 14، لِمَ..لا أدري صفحة 15 و 17 وكيف…لا أدري صفحة 19، كم هو الضعف لطيفٌ صفحة 24، لِمَ…لا أحدَ يدري صفحة 47، لا أعرف، أخشى أنني لم، ولن أعرف صفحة 49، لا أدري إلى أين صفحة 115، والليل يعبق برائحة الزنبق، أو الياسمين لا أدري صفحة 133.
ثمَّ يختار تراكيبَ وصفية قليلة البلاغة، وركيكة الدلالة مثل: فوق الحجارة السوداء التي تزين الشارع صفحة 18، أماط اللثام عنه صفحة 21، كنت فقط أسمع طرقات قلبي الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الانفجار والتلاشي صفحة 24، وغير ذلك من قبيل: ثمار يانعة، حديقة غنّاء، لؤلؤ مكنون، كعيني سنونوة بريئة، اشرأبت له رقبتي، كماضينا التليد، طموحاً خلاباً زاهياً.
وعموماً فإن بنية الوصف لدى كوسا هي بنيةٌ ركيكة، مُنشأةٌ فوق المعنى العام للمكان، لا المعنى الروائي للمكان داخل السرد، وهذا طال أماكن عدّة شكلت أغلب الفضاء المكاني للسرد في الغرفة الرديئة التي يسكنها مبروك، وداخل الخمارة التي يرتاد، والشوارع التي تتقاذفها خطاه بلا معنًى.
الكارثة السورية وصفةٌ من مشهد واحد!
في الصفحة 75 يقدّم الراوي وجهة نظره للمرّة الأولى والأخيرة بالكارثة السورية التي رتبتها يدا النظام، وهي رؤيةٌ مكلّلة بالتورية والمحاباة، تستنطق الرمزية أكثر من اعتمادها الإنشاد المباشر للمعنى، نقرأ عن لسان معلم النول، مخاطباً مبروك: انظر ماذا يجري في البلاد؟ هل الأديان والطوائف والأحزاب والغرباء هم من فعلوا ذلك؟ نعم قد يكون، لكن صدقني يا بني إذا قلت لك، إن البساط كان مهترئاً ويأكله العثُّ، والعثُّ يأكل نفسه، عندها ستكون السدّة واللحمة إحداهما أسوأ من الأخرى، لذلك وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه…
فبنية السرد هي بنيةٌ تصويرية جافة، لا تخالطها المخيلة بشيء، وتفتقر إلى تقنيات السرد الروائي، مثلها في ذلك مثل الحبكة التي لم تزد عن تصوير المحنة الوجودية للبطل، وعدم كفّه عن طرح الأسئلة. إذ لا شيء تطور داخل الحبكة، لا الأحداث على حاملها الزماني والمكاني، ولا الشخصيات كذلك بما فيها شخصية البطل، باستثناء برهان أجير الفرن الذي تزوج سماح ابنة أبي سماح جار مبروك في البيت الذي يستأجر غرفةً فيه، والذي صار جشعاً يبحث عن المال والسلطة بلا كلل بعد فقدان زوجته وطفله قبل أن يولد.
يرتمي السرد في آخره إلى تصوير مجازي اتقد داخل حلم رآه مبروك، حيث الفراغ المترعُ من حوله، وقطيع الأغنام الذي يحوي الإناث والحملان والأكباش، في كناية رمزية للشعب السوري وصفات القطيع التي ينعم بها، حتى إن صوت مبروك صار ثغاءً في الحلم. ثم ينهي كوسا سرده بتمكين مبروك من الكتابة، ذلك الفعل الذي كان يراوده ويعجز عن تنفيذه، فيبدأ كتابته بتحوير لعنوان رواية ماركيز الشهيرة مئة عام من العزلة، لتصير: مئة عزلة في العام وأكثر، أكثر بكثير.
المصدر: أورينت نت