لجوء سوري… “أنا يوسف يا أبي  ”   

ديمة ونوس 

لتصل إلى حلب قادماً من دمشق، لا بدّ لك من أن تمرّ بإدلب وقبلها بدير عطية وحمص، أو أنّ هذا ما تلتقطه ذاكرتي عن الطرقات الطويلة والمعتمة التي تصل المدن السورية بعضها ببعض. لكنّ الجغرافيا السورية تغيّرت في خلال السنوات العشر الماضية، والذاكرة الجمعية تبدّلت ملامحها إن لم تكن قد ألغيت وتحطّمت. هذا ما دفعني لأطلب من يوسف أن يعيد حكايته مرّة بعد أخرى وسط ارتباكي في التقاط الحبكة ورسم مشهد الرحيل.
يوسف، الشاب الدمشقي الذي اختبر “الحياة السورية” مبكراً ولم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد، نزح مع عائلته الصغيرة من بيتهم في حرستا، في بداية الثورة، ليسكنوا في بيت أقرباء كان حظّهم من الدنيا أوفر فاستطاعوا الاستقرار في بلد أوروبي. يوسف الوحيد والمعفى من الخدمة العسكرية لم يحاول السفر مع قوافل السوريين في السنوات الأولى من الثورة. لم يشأ أن يبتعد عن عائلته ولا أن يتعرّض لخطر الغرق. أكمل عمله كمصوّر في محطات إخبارية عديدة متوفّرة في العاصمة السورية، تلك التي تنقل “الحقيقة”. ثمّ شيئاً فشيئاً، ألغت السلطات السورية اعتماد كثير من المحطات الإخبارية العربية والأجنبية، وباتت فرص يوسف محصورة بالتلفزيون الرسمي ومحدودة جداً. لم يستسلم، هو العشريني، الوحيد لأهله والمدلّل. تخلّى عن عمله كمصوّر تلفزيوني، ودلف إلى عالم الأعراس التي تقيمها العائلات متوسّطة الدخل أو الثرية بعض الشيء. لم يكن يعلم أنّ الطبقة الوسطى سوف تتلاشى وأنّ الأثرياء القدامى سوف يفكّرون لأيام قبل الإقدام على شراء اللحوم بالكميات التي اعتادوا على شرائها سابقاً. “لم أعد قادراً على تأمين مصروفي الشخصي، فماذا عن مصروف عائلتي؟!”. اتّسعت عينا يوسف دهشة لما وصلت إليه حياتهم اليومية. والده أقلع عن التدخين، “المتعة الوحيدة المتبقية له”، ورائحة القهوة كلّ صباح لم تعد طقساً عادياً بل حدث استثنائي مع الارتفاع الهائل في ثمن كيلوغرام البنّ. ثمّ لم يعد تغميس الخبز في الشاي أو في السوائل الساخنة خياراً متاحاً لملء المعدة وإسكات الجوع، بعد أن حدّدت الدولة استهلاك العائلات للخبز بعدد معيّن من الأرغفة أسبوعياً. الحياة تضيق أحياناً وتضمحلّ وتنكمش فيصبح الباب إليها موارباً يحاذي الموت. لم يسهب يوسف في التفكير. لو فكّر وتأمّل لأصابه التردّد وشلّه الخوف. ولم تعد عيناه المتّسعتَان على الدهشة تلمحان سوى ألمانيا. “سبعة آلاف يورو، خمسة أشهر، أكثر من عشرة مهرّبين بين سورية وتركيا واليونان والدنمارك، وكثير من الخوف”، هذه عدّة الدخول من ذلك الباب الموارب بين الحياة والموت. وأيضاً دموع سخيّة ذرفها يوسف وهو يودّع والده وداعاً “أخيراً” على الأرجح! تصعب كتابة هذه الجملة ويحدث أن تكون الحياة قاسية إلى حدّ بعيد إلى جانب اضمحلالها وانكماشها. إذا غرق القارب، فسيكون ذلك هو الوداع الأخير. وإذا وصل سالماً، فسيكون أيضاً ذلك هو الوداع الأخير. لا أمل في عودته قريباً ولا أمل في انضمام عائلته إليه لا قريباً ولا بعيداً.

غرفة باطون في حلب المهجورة
بعد أحد عشر عاماً على انطلاق الثورة، تغيّرت الجغرافيا والذاكرة الجمعية تبدلّت ملامحها، ودخول إدلب بات يتطلّب عبور حلب! ويوسف يشرح لي كيف أنّه وصل إلى حلب بطريقة نظامية عبر شركة النقل الداخلي ليعبر بعدها إلى إدلب. وأنا أقاطع سرده وأصحّح له وفي ذهني أنّ التسلسل المنطقي هو دمشق إدلب حلب تركيا. فيعيد رواية قصّته دمشق حلب إدلب تركيا. “الدخول إلى إدلب صعب جداً. إدلب دولة مستقلة، بحدود ومؤسسات وضباط وأمن وعملة تركية”. في دمشق، يتجنّب كثيرون ممّن تصل إليهم حوالات من أقرباء لهم في الخارج، أن ينطقوا بكلمة “دولار” عبر الهاتف. تُستبدل أسماء العملات الأجنبية بكلمة “غرض”: “كيف ممكن نلتقي لآخد منك الغرض اللي بعته لفلان؟”. يعرفون أنّ من يتنصّت على مكالماتهم أدرك مع الوقت أنّ “الغرض” يعني “الدولار”، إلا أنّ تجنّب الكلمة يكفي لتجنّب بعض الشرّ.
أمّا عمليات التهريب، فيجري التنسيق لها عبر الهاتف بلا أدنى تردّد! وعبر الهاتف، تواصل يوسف بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل 2021 مع مهرّب تقتصر مهمّته على تأمين عبور السوريين إلى قلب مدينة إدلب عبر الحدود الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، بمبلغ ألف دولار (نحو 920 يورو). يصعب على من يحمل مبالغ مالية كبيرة، خصوصاً بالعملة الأجنبية، التجوّل بين المدن السورية والمناطق الخاضعة لسيطرة قوى عديدة وبالتالي حواجز عديدة. كلّ المبالغ التي يطلبها المهرّبون تصل عبر وسطاء من الخارج إلى مكاتب غير مرخّصة في إدلب. ينتظر المهرّب اتصالاً يؤكد حصول الوسيط على المبلغ المتّفق عليه من قبل أقرباء أو أصدقاء مَن يريد العبور بطريقة غير نظامية ثمّ ينجز مهمّته. طلب المهرّب من يوسف التوجّه إلى حلب والانتظار عند أحد جوامع المدينة في حيّ خاضع لسيطرة النظام. بعد نصف ساعة، جاء شاب بسيارة “سوزوكي” واصطحب يوسف وشاباً آخر إلى بيت صغير في زقاق مدمّر، وكانت مجموعة أخرى من الشباب الراغبين في العبور في انتظارهم هناك. طلب منهم الشاب طمأنة أهاليهم قبل أن يحتجز هواتفهم حتى مساء اليوم التالي.
“حشرونا مساء اليوم التالي في سيارة كبيرة راحت تتجوّل بنا في أزقّة ريف حلب المهجورة والمعتمة، إلى أن وصلنا إلى آخر نقطة تفصل مناطق النظام عن مناطق الأكراد في دير حافر”. قضى يوسف تلك الليلة في غرفة من الباطون بصحبة مجموعة من الشباب وسيّدة ستّينية لا تريد سوى الوصول إلى مدينة إدلب. سيّدة فقدت زوجها وأولادها، بين القصف والاعتقال والتهجير، ولم يبقَ لها سوى أمل العبور إلى مدينة إدلب حيث يعيش أقرباء لها. كانت تجرجر خلفها ستّ حقائب محشوّة بكل ما تبقّى من مونة الغذاء في بيتها في حلب. في اليوم التالي، مع حلول الليل، جاءت جماعة أخرى لتقلّهم إلى النقطة الأخيرة التي تسيطر عليها الفرقة الرابعة. “كنّا نتنقّل من جماعة إلى أخرى، كلّ جماعة تنتهي مهمّتها في نقطة معيّنة حيث تبدأ مهمّة الجماعة الأخرى”. لا مكان للسياسة. لا يتّسع الوقت للحديث عن الأوضاع السياسية ولا عن التوجّهات والانتماءات. تتضاءل الهموم الفردية وتلك الجماعية وتنحصر بتفاصيل مغادرة منطقة ما والوصول إلى أخرى، والزمن الذي يتطلّبه استلام المبالغ المخصّصة لتلك المهمّات الصعبة.

الفرقة الرابعة
“انطلقنا من دير حافر بسيارة شحن كبيرة. لا نعرف إلى أين ستتّجه بنا. وصلنا إلى بستان صغير. راح المهرّب يحدّثنا همساً. قال إنّ الطريق أمامنا الآن هو الأصعب والأخطر. ثلاثون دقيقة من المسير تفصلنا عن النقطة الأخيرة للفرقة الرابعة. علينا أن نجتازها ببطء وهدوء، على رؤوس أصابعنا، كمن يمشي على الغيم. إمّا أن ننجو وإمّا يمسكون بنا ونُعتقل”. سبق لعناصر من الفرقة الرابعة أن أوقفوا متسلّلين عبر ذلك الطريق. يوسف ورفاق تلك الرحلة المجنونة نَجوا هذه المرّة. “الأكراد سلّمونا عند نقطة معيّنة إلى جماعة تابعة للجيش الحرّ لترافقنا إلى إدلب. نمنا ليلة واحدة في عفرين ثم انطلقنا من جديد”. قبل مغادرة عفرين، طلب أحد عناصر الجيش الحرّ من يوسف أن يرتدي بذلة عسكرية وأن يحفظ المعلومات الموجودة على بطاقة هوية مقاتل في “الجيش الحرّ”، وأن يتخلّى عن حقيبة الظهر كي لا يثير الشبهات. “طلب منّا الشاب أن نتوخّى الحذر وأن نحفظ معلومات هوياتنا الجديدة، كي لا نثير الشبهات أمام حواجز الجيش الحر. في مناطق الجيش الحرّ، التهريب ممنوع”. عبروا حواجز كثيرة ونجوا هذه المرّة أيضاً. وصلوا إلى معبر إدلب. إنّها حدود نظامية، كمن يعبر من دولة إلى أخرى. مكتب أمن عام تابع لـ”هيئة تحرير الشام”؛ تفتيش، تحقيق، كومبيوتر، ربّما للتأكد من المعلومات وهوية الأشخاص، لكن بالتأكيد لتسجيل الأسماء والـ”اعترافات”.
“اسمك، عنوانك، عائلتك، هل تعرف أي ضابط في جيش النظام؟ مع من قاتلت؟ ما هي مهنتك؟ أين دفتر الجيش؟ هذه بعض الأمور التي سُئلت عنها. وأنا لم يخطر في بالي أن أحمل دفتر الجيش معي. فأنا وحيد ومُعفى. طلب منّي الضابط التواصل مع عائلتي ليرسلوا لي صورة عن دفتر الجيش ويتأكّد من أنّني بالفعل لم أؤدّ الخدمة العسكرية ولم أقاتل. فجأة أوقف الضابط التحقيق وطلب منّي ومن كل المجموعة اللحاق به إلى غرفة جانبية لأداء صلاة العصر وقد حان موعدها. أنهينا الصلاة واكتملت لديه المعلومات الخاصة بي، فمنحني قسيمة دخول إلى مدينة إدلب يتوجّب عليّ الاحتفاظ بها في أثناء تجوّلي في المدينة”.

قسيمتان في يدي
اختلطت الأمور على يوسف. أضاع الزمن. اعتقد أنّ مع الوصول إلى مدينة إدلب، كان قد مرّ على مغادرته دمشق شهر ونصف الشهر. لست واثقة من دقّة هذه المعلومة إلا أنّ المدة الإجمالية التي استغرقتها تلك الرحلة بلغت خمسة أشهر بكلّ تأكيد. وسوف يحزنني أن أصدّق أنّ الطريق الذي أحفظ تضاريسه عن ظهر قلب، ذلك الذي يفصل ما بين دمشق وإدلب، يستغرق اليوم شهراً ونصف الشهر.
“أرسل المهرّب شاباً ليصطحبني إلى مدينة حارم الحدودية، حيث سأتسلّل بصحبة آخرين إلى تركيا ومنها إلى إيطاليا. في يدي قسيمتان، أضنّ بهما كمن يُمسك بقدره ومصيره، كأنّ الورقتَين خريطتان، واحدة لدمشق وأخرى لإيطاليا. قسيمة لدخول إدلب، وأخرى تصلح لثلاثة أيام فقط، إن لم أستطع العبور في خلالها عليّ استصدار واحدة جديدة. وصلنا إلى نهر صغير. ركبنا قارباً بالكاد يتّسع لأربعة أشخاص. اجتزنا على دفعات تلك المسافة القصيرة وصولاً إلى الضفة الأخرى”. ذلك النهر الصغير اسمه العاصي، وهو أحد ممرات العبور والتهريب إلى جانب طريق حارم الذي يتطلّب اجتياز الجدار الفاصل، وطريق “العيَل” أي العائلات ويتطلّب المشي مسافة ساعتَين تقريباً وطريق “الإذن” الذي يقتضي اتفاقاً مشتركاً بين المهرّب وعناصر الجندرمة… طرقات أخرى كثيرة بالتأكيد اخترعتها الحاجة إلى الهروب من الجحيم السوري. العبور عبر نهر العاصي ليس هيّناً، مثله كمثل الطرقات الأخرى، إلا أنّ العابرين يصلون إلى أرض زراعية شاسعة تفصلهم عن الضباط الأتراك أو الجندرمة. تقترب أصوات الجانب التركي أكثر فأكثر من مجموعات الهاربين، الخائفين، المتعبين. يقطعون تلك المسافة التي ستنقذهم من انتباه عناصر الجندرمة، زحفاً. “رحنا نزحف ونزحف. عطش شديد وخوف… وملابسنا تتمزّق والدماء تسيل من الركب والأكواع. وصلنا إلى حقل قطن. طلب منّا المهرّب النوم على ظهورنا. استلقينا هناك، البرد قارس والتربة رطبة تحت أجسامنا، نكتم أنفاسنا، نحصيها، نعدّ الأيام التي تفصلنا عن الحياة. تمرّ ستّ ساعات. ثم تأتي الجندرمة لتلقي القبض علينا. جرجرونا إلى قطعة عسكرية. أدركنا أنّ محاولة العبور فشلت. أمضينا أياماً من الجوع والعطش والبرد. تعرّضنا للضرب والاضطهاد وبعضنا انهار من التعذيب فاستدعيت سيارات الإسعاف لنقله إلى المشفى”. بعد أيام من التعذيب النفسي والجسدي، اقتادهم عناصر الجندرمة وهو يركضون في اتّجاه بوابة كبيرة فُتحت مع وصولهم. “عندها أدركت أن باباً فقط يفصل الأتراك عن الهيئة”.

دخلوا إلى إدلب. عثر يوسف بمساعدة أقربائه في دمشق على مهرّب آخر عاد به من إدلب إلى جنديرس التابعة إلى منطقة عفرين في حلب. استضافه المهرّب في بيته خمسة أيام ريثما يرتاح ويستعيد طاقته التي تلاشت زحفاً. “خيّرني المهرّب بين طريقَين: طريق صعب بكلفة 1400 دولار (نحو 1285 يورو) وطريق مضمون بكلفة 3500 دولار (نحو 3210 يورو). اخترت الطريق المضمون. رافقني أحد أفراد الجيش الحرّ وأوصلني إلى منطقة الباب، ومن الباب إلى عفرين، ومن عفرين اصطحبنا الأكراد إلى بستان زيتون يعتلي واديا تخيّلته في العتمة سحيقاً. هبطنا في الوادي ومشينا ساعتَين، فوصلنا إلى بستان زيتون يملكه رجل تركي ينال الجزء الأكبر من المبالغ التي دفعناها ليتكتّم علينا. انتظرت رفقة آخرين مجيء سيارة “فان” كبيرة مغلقة، تمدّدنا في داخلها كي لا يلمحنا أحد من الشبابيك. في مدينة كلّس انتظرنا لساعات حتى يتأكّد المهرّبون من وصول المبالغ عبر الوسطاء”.

يصعب الاعتياد على الخوف
الخروج من العاصمة دمشق إذاً يعني الخروج من سورية بشكل أو بآخر. وزيارة المناطق المحرّرة الخاضعة لسلطات “الأمر الواقع” أو تلك الخاضعة للنظام، هي زيارة لكيانات سورية متعدّدة. عشر ساعات استغرقت الرحلة بين كلّس وإسطنبول. هناك بدأت مهمّة مهرّب جديد سوف يضمن وصول يوسف إلى إزمير ومنها إلى مرمريس ثمّ إلى جزيرة رودس اليونانية. ولا يكاد يوسف يستفيق من حالة الفزع التي عاشها، حتى يسقط في فزع جديد. الطريق الجبلي الملتوي والضيّق إلى حدّ كبير بين إزمير ومرمريس أفزعه كما لم يفزع يوماً. وفي كلّ مرّة، يظنّ يوسف أنّ أقصى مشاعر الخوف والهلع قد مرّت، إلا أنّه يكتشف خوفاً جديداً، أكبر وأقسى. “يصعب الاعتياد على الخوف. يتجدّد في كلّ مرة كأنّها المرّة الأولى”. مشوا على حافة الهاوية، ونجوا من ذلك الوادي السحيق. وصلوا إلى مرمريس وتوجّهوا إلى فندق بعينه اتّفقوا مسبقاً مع صاحبه ومديره على استقبالهم وعدم تسليمهم للشرطة. كانوا في شهر ديسمبر/ كانون الأوّل. يوسف يبدو متأكّداً هذه المرّة من التاريخ. مرّ على اجتيازه عتبة بيته في دمشق شهران. أمضوا في الفندق أكثر من عشرين يوماً، والطقس العاصف في هذا الوقت من السنة لم يسعفهم على العبور. “عدنا إلى إسطنبول وتواصلنا أنا ومجموعتي وقد نبتت بين معظمنا صداقة متينة، مع مهرّب آخر. غيّرنا خطّ الرحلة. جمّعنا المهرّب وكنّا ثمانين شخصاً، ووزّعنا على سيارات عديدة توجّهت بنا إلى نقطة معيّنة في إزمير، هي نقطة العبور. شاطئ صغير تعلوه غابات وأشجار باسقة وطريق عام تعبره السيارات نلمح أنوارها من بعيد. بعد ساعات عدّة، لمحنا قارباً يبحر في اتجاهنا. وقفنا في رتل طويل ودخلنا بهدوء شديد كي لا نلفت انتباه السيارات التي تعبر الطريق العام. القارب كان عبّارة مغلقة ومسقوفة تتّسع لثمانين شخصًا، وكنّا ثمانين. ارتدينا سترات النجاة الموزّعة على كلّ المقاعد. خمسة أيام تفصلنا عن اليابسة. والعبّارة كانت سريعة، حركتها في الماء سلسة ونحن استعدنا هدوءنا، رحنا نلقي النكات، نضحك، نغنّي ونتسامر.

مرّت عشر ساعات بسلاسة واطمئنان. كنّا نتخيّل بسيناريوهات كثيرة لحظة وصولنا إلى الحياة بعد بضعة أيام”. العبّارة تبحر في اتّجاه جزيرة رودس، إلا أنّ تمثال أبولو رودس لن يكون في انتظارها ولن يتمكّن أهالي الجزيرة من اعتلائه لإشعال النار في عينَيه حتى تهتدي السفن. بعد عشر ساعات، تعطّل أحد المحرّكَين. حاول القبطان أن يصلحه من دون جدوى. ثم بدأوا يشعرون بتلكّؤ المحرك الثاني. لم يكن قد تعطّل تماماً بعد، إلا أنّه على وشك. العتمة تلفّ المكان. والخوف “عربش” على تلك الطمأنينة التي كانت قبل لحظات. حركة العبّارة باتت بطيئة ومتمهّلة، راحت تميل إلى جهة اليسار. تعطّل المحرّك الثاني، والموج كان قوياً يرتطم بجسم العبّارة أكثر فأكثر مع بطء حركتها. ثمّ راح يتسرّب إلى داخل القارب متسلّلاً من بابها الصغير. القبطان لم يبدِ قلقاً كبيراً حتى اللحظة. راح يطمئنهم ويومئ إليهم حتى يتحرّكوا بأجسادهم إلى اليمين ثمّ إلى اليسار، في محاولة لاستعادة توازن العبّارة. “رحنا نتكتّل في جهة واحدة ثم يتوزّع بعضنا على الجهة الأخرى. أجسادنا كأنّها انصهرت بحديد العبّارة، نحرّكها لتتوازن بنا. ثمّ مالت بشدّة، فشعرنا بأنّ غرقنا وشيك. فوضى عارمة، خوف، ابتهالات وتكبير. الوقت صار يمر بسرعة، وتفرّقت الجماعات ولم يعد ثمّة مكان للمزاح ولا لتلك الصداقة التي ظنّناها متينة. كل “هارب” من بيننا يريد إنقاذ نفسه. تلاشت إمكانيّة البقاء في داخل العبّارة. ثمّة فتحة صغيرة في السقف تفضي إلى ظهر العبّارة. واحداً تلو الآخر، رحنا نتسلّل منها. لن أنسى الصبيّة وطفلتها الرضيعة. تنادي وتتوسّل أن نحمل طفلتها إلى خارج العبّارة. لم يتجرّأ أحد على تحمّل هذه المسؤولية. معظمنا صار جالساً في مكانه، إنّما على ظهر العبارة وليس في داخلها. بالكاد نستطيع التماسك والحفاظ على أجسادنا في خارج المياه الباردة إلى حدّ الخدر. ظلّت الصبيّة مع طفلتها الرضيعة في داخل العبّارة. العبّارة التي كانت تحضننا قبل لحظات ولا تتّسع لضحكاتنا ومزاحنا وقصصنا، ابتلعتها هي وطفلتها ووالدتها المسنّة وطبيب الأسنان المصاب بالسكّري فلا يحتمل البرد ولا يعرف السباحة، ومعهم خمسة عشر آخرون، ابتلعتهم كلّهم”.
“خدوا بنتي.. مشان الله خدوا بنتي”، يتردّد صدى هذه الجملة في رأس يوسف حتى هذا اليوم. لم يجرؤ على انتشالها. خاف من أن تموت بين يدَيه. لن يحتمل مشهداً كهذا. فالمياه متجمّدة ومن الصعب تخيّل أن تنجو الرضيعة في ظروف كهذه. “لم أجرؤ. أحد لم يجرؤ. ولم يعد يكترث أحد لأحد”.

غزّاوي وأفغاني
يوسف كان السوري الوحيد في هذه الرحلة! رفاقه الذين نجوا كانوا من فلسطينيّي اليرموك المقيمين في لبنان، وغزّاويين لجأوا إلى لبنان في وقت قريب ولم يحتملوا الأوضاع المتردية والمأساوية فيه، بالإضافة إلى أفغان لا يعرفون الإنكليزية وكان التواصل معهم لإنقاذهم صعباً وبطيئاً. قفز يوسف في الماء هو وصديقه الفلسطيني ووالده. راحوا يسبحون بعيداً من القارب لأنّ من نجا تناقل مع غيره مفاتيح النجاة. عندما يغرق القارب يُحدث دوّامة في البحر ويجذب المحيطين به ويُغرقهم. ابتعدوا عن القارب قدر الإمكان ثمّ استلقوا على ظهورهم. المياه باردة إلى حدّ لا يوصف. هذه المرّة الوحيدة التي يشعر فيها يوسف بهذا الكمّ من البرد في حياته. وسوف تكون المرّة الأخيرة ربّما. “البحر يجرّنا ويسحبنا. أصوات الاستغاثة تعلو وتؤنس العتمة والصمت المطبق، بالإضافة إلى صوت ارتطام المياه بأجسادنا. كنت واثقاً أنّني سوف أموت. خمس ساعات مرّت ثمّ لمحنا أضواء تقترب في اتجاهنا. ارتدّت لي الروح، وصرت قادراً على استخدام الصفّارة المعلّقة بالسترة على الرغم من البرد. مَن لا يموت غرقاً، يمت برداً. الآن بتّ أعرف. “جايلك جايلك يا عمّ…”، سمعنا هذه الجملة الدافئة باللهجة المصرية. حاولنا السباحة في اتّجاه الصوت والضوء، إلا أنّنا لم ندرك إن كانت أطرافنا تتحرك بالفعل. الخدر يسري في كلّ خلايانا. رمى الصيادون المصريون لنا حبالاً، وتسلّقنا قارب الصيد الكبير. ما إن وقفنا على أقدامنا حتى سقطنا أرضاً. خدر فظيع. رشّونا بالماء الساخنة. اهتمّوا بنا كمن يهتمّ بقريب أو عزيز. ثمّ جاءت سفينة يونانية وأبحرت بنا إلى جزيرة باروس التي لم يصل إليها بحسب ما أعتقد أيّ مهاجر قبل الآن. استقبال أهالي الجزيرة كان سخياً. خوري المدينة هو من بادر لضيافتنا. حقّقت الشرطة معنا ثمّ اقتادتنا إلى مركز لاحتجاز المهاجرين في أثينا”.

دوماني ألماني
أمضى يوسف في اليونان شهراً كاملاً بين الحجر الذي تفرضه الإجراءات الخاصة بمكافحة كورونا، وبين خطوات طلب اللجوء. الحفاوة التي حظوا بها في جزيرة باروس السياحية تبدّدت بالطبع في مركز الاحتجاز سيّئ الصيت في أثينا. لكنّ تلك المعاناة لم تُثقل روح يوسف الذي نجا من الغرق والبرد وقبلها من القصف والاعتقال والتعذيب. لم يكن العثور على مهرّب جديد أمراً صعباً على الإطلاق. منحه المهرّب جواز سفر لشخص سويدي من أصول عربية. استقلّ الطائرة هذه المرّة إلى كوبنهاغن الدنماركية، متمّماً بذلك كلّ التجارب التي على المهاجر أن يمرّ بها أرضاً؛ مشياً وركضاً وزحفاً مع خوف، وكذلك سباحة (في المياه) وجوّاً.

لم يكن ثمّة شبه ما بين يوسف وصاحب الجواز. رجل الأمن في المطار لاحظ ذلك بكلّ تأكيد. ابتسم له وسمح له بالعبور إلى الطائرة. “كأنّه متواطئ مع المهرّب، أو أنّه يفضّل أن أرحل عن بلدهم وأن ألجأ إلى بلد آخر”. وصل يوسف إلى كوبنهاغن والتقى بمهرّب جديد. سوف يكون آخر مهرّب في هذه الرحلة. يأكلان معاً على عجل ويتحدّثان في أمور عادية كأيّ مواطنَين غربيَّين تشغلهما أحوال الطقس وآخر أخبار الطرقات والزحمة… كأيّ مواطنَين غريبَين أيضاً.
يركب يوسف القطار. لا تغمض عيناه طوال الساعات الأربع التي تفصله عن هامبورغ الألمانية. رجل الأمن في القطار يمسك بوثيقة السفر تلك، يتأمّل صورة الشاب الذي لا يشبه يوسف لا من قريب ولا من بعيد، لا بل هو يصغره في السنّ بعشر سنوات، ثمّ ينظر إلى عينَي يوسف الخائفتَين، يبتسم ويرحل.
يوسف الآن في ألمانيا. غادر دمشق في عام 2021 ووصل في عام 2022. عليه أن يتعلّم الألمانية ليخوض حياته الجديدة. أحد المدرّسين المكلّفين بمهمّة تعليم اللاجئين الجدد، وكان من نصيب يوسف أن يلتقي به، سوري من مدينة دوما في الغوطة الشرقية.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى