تُكْتَبُ هذه السطور صباح الخميس الباكر، وقد بدأ ما يبدو أنه اجتياح روسيٌّ لأوكرانيا، لا يُعْرَفُ حجمه وطبيعته بعد. بغض النظر عن المدى الذي ستذهب إليه موسكو، سواء اكتفت باحتلال الجزء الشرقي من أوكرانيا، أم مضت في التوغل وصولاً إلى العاصمة الأوكرانية، كييف، وما وراءها، فإننا أمام إرهاصات تشكل نظاما عالميّا جديدا. ما يجري ليس إعادة ترسيم للخرائط الجيوستراتيجية أوروبياً، فحسب، ومحاولة العودة بها إلى الحدود التي كانت قائمةً في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، زمن الاتحاد السوفييتي البائد، بل تذهب إلى أبعد من ذلك إلى حد محاولة فرض توازنات جيوسياسية عالمية جديدة. لقد اختارت روسيا تحدّي الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، على الرغم من أنها تعلم أن العقوبات الاقتصادية التي بدأ الغرب بفرضها عليها، قبل بدء الاجتياح، ستكون صعبة، إن لم تكن كارثية ووخيمة، كما حذّر الرئيس الأميركي، جو بايدن، غير مرة.
مبدئياً، من حق أوكرانيا، كدولة مستقلة وذات سيادة، أن تقرّر ما إذا كانت تريد أن تكون عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك في الاتحاد الأوروبي، أم لا. لكن، هذا الحق يصطدم بحقيقةٍ لا يمكن القفز عنها، وهي أن “الناتو” يشكل تهديداً عسكرياً حقيقياً لروسيا التي وجدت نفسها محاصرة منه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ودخول الجمهوريات التي كانت جزءا منه، في البلطيق والدول التي كانت تدور في فلكه في شرق أوروبا ووسطها، في الحلف على دفعات. ولأن روسيا دولة هشّة اقتصادياً، على الرغم من مساحتها الشاسعة وثرواتها الهائلة من النفط والغاز والمعادن والزراعة، بسبب الأعطاب في بناها وهياكلها الاقتصادية وضعف قدراتها التكنولوجية مقارنة بالدول الغربية والصين ودول أخرى، فإنها بحاجة إلى الفضاء الاقتصادي الأوروآسيوي الذي أقامته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ويشمل بالإضافة إلى روسيا دولاً في شرق أوروبا وغرب آسيا ووسطها.
تدرك واشنطن، والعواصم الأوروبية الأخرى، الحساسيات الروسية، كما أنهم يدركون أن فلاديمير بوتين ليس ضعيفاً كسلفه، بوريس يلتسين. إنه يتطلّع إلى الزعامة العالمية والندّية مع الرئيس الأميركي، وهو يعتبر أن أفول الاتحاد السوفييتي كارثة ما كان ينبغي أن تقع. عندما نعت الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، روسيا بـ”القوة الإقليمية” بعد احتلالها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، عام 2014، ردَّ بوتين في سورية، ليثبت أن بلاده قوة عالمية. يستند بوتين في ذلك إلى أن بلاده من أكبر مصدّري النفط والغاز في العالم، وأي عقوبات عليها ستعني مسّاً بأسعار الطاقة عالمياً، بما يشمل الولايات المتحدة نفسها، وليس فقط أوروبا التي تعتمد بنسبة 40% على الغاز الروسي. وعلى الرغم من اعتراف بوتين بأن روسيا غير قادرة على مجاراة “الناتو” في حرب تقليدية، إلا أنه يعلم أيضاً أنه يملك ثاني أكبر ترسانة نووية، قادرة على أن تدمر الأرض مرات عدة.
ما سبق لا يعني أن واشنطن، وعواصم غربية أخرى، لن تفرض عقوباتٍ كاسحةً ضد موسكو، بما في ذلك عزلها عن النظام المصرفي الدولي، ومنعها من التعامل بالدولار واليورو والجنيه الإسترليني. هذه أمور كلها واردة، رغم تداعياتها الكارثية على الاقتصاد العالمي، وتحديداً الأوروبي، وهو ما لن تنجو أميركا منه أيضاً. ولكن، مرّة أخرى، نحن أمام صراع إرادات وقوى لإعادة تشكيل الموازين الجيوسياسية عالمياً، وهو الأمر الذي لن تقبل به واشنطن بسهولة، خصوصاً وأنها تتربّع على رأس هرم النظام العالمي، وإن كانت مكانتها تتعرّض لتقويض وإضعاف مستمر.
ضمن تلك المعطيات، نشهد في السنوات القليلة الماضية تشكّلاً لمحاور وأقطاب جديدة تسعى إلى تحدّي الهيمنة الأميركية وضعضعتها، خصوصاً في ظل تصاعد حدّة الاستقطاب السياسي والثقافي في الولايات المتحدة. أهم تلك المحاور على الإطلاق هو المحور الصيني – الروسي، والذي يجتذب إليه دولاً أخرى ساخطة على السياسات الأميركية، كإيران وكوريا الشمالية. في المقابل، فإن المحور الغربي، متمثلاً في “الناتو” تحديداً، يعاني من تصدّعات فيه، بعضها بسبب تراجع مستوى الموثوقية بعموده الفقري، أي الولايات المتحدة، وبعضها الآخر يتعلق بحسابات أطرافه المتعارضة، كما نرى الآن في حسابات ألمانيا الاقتصادية مع روسيا، وحسابات فرنسا التي تريد اعتماداً أوروبياً أمنياً أكبر على الذات بعيداً عن أميركا، أو تركيا، التي كثيراً ما تتعارض حساباتها في الشرق الأوسط مع حسابات واشنطن وأطراف أوروبية أخرى.
لكن، وكما أن للحلف الأطلسي معضلاته، فإن للمحور الصيني – الروسي معضلاته أيضاً، التي تمنعه من التحول إلى حلف حقيقي متكامل. عقد الرئيس الصيني، شي جين بينغ، والروسي، بوتين، قمة في بكين، مطلع شهر فبراير/ شباط الجاري، أصدرا بعدها بياناً غير مسبوق من 5000 كلمة يندّد بالهيمنة الأميركية، ومساعي واشنطن إلى فرض نموذجها للديمقراطية، فضلاً عن محاولات توسع حلف الناتو في شرق أوروبا، ودوره المتزايد في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ. ومعلوم أن بكين ترى في الولايات المتحدة العقبة الأساس في وجهها لبسط سيادتها على تايوان، كما أنها تمثل التحدّي المركزي لجهودها للسيطرة على بحر الصين الجنوبي، الذي تعتبره فضاء اقتصادياً خالصاً لها. بمعنى، أنه كما أن روسيا تشتكي من أميركا و”الناتو” في أوكرانيا، وفي فضائها الجيوستراتيجي عموماً، فإن للصين مرارتها كذلك في تايوان وشرق آسيا، خصوصاً بعد تشكيل واشنطن ما يعرف بـ”الحوار الأمني الرباعي” مع أستراليا والهند واليابان للتصدّي لمحاولات الهيمنة الصينية في المحيطين الهندي والهادئ. ولذلك، أعلن بيان قمة بكين، بين جين بينغ وبوتين، أنه لا توجد سقوف لمستوى علاقات بلادهما، ولا توجد مجالات محظورة في التعاون بينهما، في تلميح للتعاون العسكري وتبادل تكنولوجيا التسلح، بما في ذلك النووي، وهو ما يفيد الصين تحديداً، في حين تستفيد روسيا من قوة الاقتصاد الروسي، وتخفيف حدّة العقوبات الغربية عليها.
وعلى الرغم من ذلك، ثمّة معوقات موضوعية تحول دون الوصول إلى صيغة تحالف روسي – صيني على غرار حلف الناتو، وهذه المعوقات روسية كما هي صينية. مثلاً، تشترك الدولتان بحدود تمتد آلاف الأميال، وفي حقبة الاتحاد السوفييتي، عام 1969، اصطدما عسكرياً بسبب خلافات حدودية. وما زال هناك تنافس بينهما على مناطق النفوذ في القطب الشمالي، فضلاً عن قلق روسيا من تمدّد الصين في مناطق نفوذها التقليدية، كما في آسيا الوسطى، والتي تعد اليوم جزءاً أساسياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار. أضف إلى ذلك أن حجم الاقتصاد الصيني يتجاوز 16 تريليون دولار سنوياً، ما يجعلها القوة الاقتصادية الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، في حين أن حجم الاقتصاد الروسي أقل من تريليوني دولار سنوياً، ويحتل المرتبة الحادية عشرة عالمياً، وهو ما يجعل روسيا تبدو في أي تحالفٍ مع الصين، مجرد شريك صغير وتابع، وهذا يتعارض مع طموحات بوتين بإعادة أمجاد العظمة الروسية.
في المقابل، الصين متردّدة في أن تورّط نفسها في تحالف عضوي مع قوة عظمى عسكرية، ولكن تعاني هشاشة اقتصادية، مقارنة بخصومها الغربيين، فمستوى علاقات بكين الاقتصادية مع الولايات المتحدة وأوروبا لا يقاس أبداً بمستوى علاقاتها مع روسيا. وتدرك الصين أن حجم الاقتصادين، الأميركي والأوروبي، مجتمعين يبلغان ضعف حجم اقتصادها. ومن ثمَّ، هي لا تريد أن تجد نفسها مشمولة بعقوبات اقتصادية، إن وجد الغرب نفسه مضطراً لذلك، رغم تداعياتها السلبية على الطرفين. ولكن، هذا لا يعني استحالة تحقق التحالف بين روسيا والصين تحت وطأة الضرورة والحسابات الجيوسياسية في حال ما وجدا نفسيهما أمام مساع غربية لاحتوائهما وإضعافهما معاً.
باختصار، ما يجري في أوكرانيا اليوم هو مقدّمات مخاض عسير لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد، لا نعرف أين سينتهي، فكل السيناريوهات مفتوحة، بما فيها حرب بين القوى العظمى، وإن كانت غير مرجحة. وفي كل الأحوال، فإن العالم مقبل على حقبةٍ جديدة من الاستقطاب، لا نعرف ملامحها بعد، وهل ستكون حرباً باردة بين أقطاب متعدّدة، إن بقيت ذات التحالفات قائمة، أم أنها ستكون حروباً تجارية، أو حروباً بالوكالة.
المصدر: العربي الجديد