هل اللغة العربية الفصحى شأن نخبوي؟ هذا رأي المفكر المغربي عبد الله العروي
استغرب بعض المثقفين الانخراط القوي للعروي في قضايا السياسة من موقع المثقف أو المؤرخ، فقد اعتاد منذ فترة طويلة أن يصرف مواقفه من خلال مشاريعه الفكرية، ونظراته النقدية، وفضل أن ينأى عن بذل مواقف صريحة في قضايا آنية، لكنه، وابتداء من سنة 2008، آثر أن يقتحم القضايا الهوياتية والمرجعية واللغوية، التي ثار فيها الجدل في المغرب، فصدر له ما بين 2008 و2009، كتابان مهمان، تناول الأول إشكالية الإصلاح (السنة والإصلاح) فيما فضل في الثاني، أي “من ديوان السياسة” أن يطرق عددا من الإشكالات التي أثير حولها الجدل، لاسيما ما يتعلق بالمسألة اللغوية، والفصحى، والدارجة والأمازيغية.
يعتبر العروي أن كتاب “من ديوان السياسة” يوازي كتابه الأول، سوى أن مجال الأول العقيدة، ومجال الثاني السياسة، ثم إن الكتابين معا يلتزمان نفس المنهج، أي، عرض الأسئلة وفحص مقدماتها ومرجعياتها قبل الجواب عنها وفق التسلسل الذي يمليه المنطق والتاريخ.
مركزية الفطام عن “تربية الأم” في فكر عبد الله العروي
ارتبط المشروع المركزي للعروي الذي لخصته كتبه الثلاثة الأولى: “العرب والفكر التاريخي”، و”الإيديولوجيا العربية المعاصرة” و”أزمة المثقفين العرب” بفكرة القطيعة مع التراث والتقليد، وينتقد على التوجهات القومية والتقدمية، أنها في سعيها إلى إحداث هذه القطيعة بقيت هي الأخرى وفية للمنهج التقليدي، ان ذلك كان وراء سبب إخفاق مشاريعها.
والذي يلاحظ، أنه بقي متشبثا بهذا المشروع، حتى وهو يكتب آراءه في العقيدة والسياسة، أي في كتابيه اللذان صدرا سنة 2008 و2009.
بيد أن ما يميز كتاب “من ديوان السياسة” الذي سنخصصه لاستقراء نظراته في المسألة اللغوية، أنه جاء في سياق جدلي حاد حول عدد من القضايا اللغوية، وأن بعض النخب استقبلت الكتاب بتقدير خاص، لتضمنه أفكارا “ملهمة” يهتدي بها البعض ـ نخبة سياسية أو حزبية أو مدينة ـ لإعادة رسم توجهها أو إعادة صياغة مفردات خطابها، أو تحديد اولوياتها في المرحلة المقبلة، أو إعادة ترتيب أجندتها بخصوص بعض القضايا وفق التأملات أو الأفكار التي طرحها الكتاب، خاصة وأن مشروع الكتاب وهدفه الرئيس بعد التشخيص وتحديد طبيعة الأزمة (تربية الأم) هو رسم طريق الفطام أو متطلبات تحقيق النقلة المرجوة، أو ما يميه “المجال الجديد الذي لا بد فيه لتربية مخالفة بل مناقضة لتربية الأم هي التربية المدنية”، إذ يطرح العروي في ختام كتابه الأفكار أو المخارج التي يعتبر أن هذا الأمل معقود عليها في تحقيق أي تجديد صحيح:
1 ـ اعتماد الديمقراطية المحلية، إذ يعتبر أنها خيار لا مفر منه لتفادي التمزق والفوضى.
2 ـ التعرض للمنافسة الدولية في إطار عولمة الاقتصاد، إذ أن من لا ينافس غيره ـ حسب العروي ـ يحكم على نفسه بالذبول والاضمحلال، ويعتبر أن هذه هي القاعدة وهي الفيصل بين المقبول والمرفوض في المشاريع الإصلاحية، وفي هذا الصدد يرى العروي أن إحياء القديم مهما بدا مغريا من منظور التلاحم والمساواة إذا كان ثمن إنجازه هو الانخراط في قائمة الدول الفاشلة، فإن أي مخرج سوى إبداله بمشروع معاكس هو المشروع الديمقراطي.
3 ـ أن الأحزاب السياسية لن تحقق استقلاليتها في القرار، ولن تحرر من عقلية المبايعة ما لم تتعال على مستوى الزاوية أو العشيرة أو النادي أو النقابة.
4 ـ تنشيط ما يسمى المجتمع المدني، لا ضير إن كان بمبادرة ذاتية أو بإيعاز وتشجيع من الخارج.
5 ـ لكن أهم ما يطرحه العروي في مشروع الفطام أو ما يسميه النقلة المرجوة هو اعتماد منطق المنفعة ليس بمفهوم الصالح العام الذي لا يتمثل أبدا لذهن الإنسان الأمي، ولكن بالمعنى الذي يتبادر إليه اللفظ عنده، أي النفع الآني العيني،” الأمل هو أن يؤدي بالاستصحاب والاستتباع، الظرف الداخلي والخارجي إلى تضمين المصلحة الشخصية معنى جديا والأمر غير ممتنع عقلا”.
6 ـ في مجال السياسات الخارجية يرى العروي أن أهم معيقات نجاح السياسة الخارجية أنها كانت تأسس على اللغة والثقافة المشتركة أو العقيدة، بحيث اتضح حسب العروي أن “التضامن السلبي” هو الذي منع كل إصلاح.. وأنم كل مبادرة إصلاحية تظهر في قطر إلا وتجد معارضة شديدة من أقطار أخرى ليست في مستوى التطور نفسه فلا يلح عليها الإصلاح بالحدة نفسها” ولذلك، فالأجدى للجميع حسب العروي “هو استبعاد مسائل القيم” من النقاش السياسي والاقتصار على المصالح.
7 ـ تحرير الفن والرياضة والعلم والفلسفة والدين من السياسة، وتحرير السياسة منها ” تستقل هذه المجالات عن السياسة، وتستقل السياسة عنها، فيتم النبوغ والتألق في هذه في تلك. إذا طغت السياسة على الكل صارت، وجرت الكل معها، إلى الحضيض”
هل دعا العروي إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني على غرار ما فعلت تركيا؟
ناقش العروي المسألة اللغوية في كتابه “من ديوان السياسة” ضمن خمسة فصول رئيسة نفردها كما يلي:
1 ـ الحرف: بدأ المؤلف بتسجيل ملاحظة، أو تجربة عاشها بنفسه مع الحرف اليوناني، إذ يذكر أنه لما كان طالبا في الجامعة كان يجد في بعض المراجع مقاطع طويلة مكتوبة بالحرف اليوناني غير مترجمة، وأنه حاول أن يحفظ الأبجدية اليونانية حتى يتمكن من قراءة المفردات الأساسية في الفلسفة والآداب، لكنه رغم محاولات متكررة فشل في ذلك. ويسجل مرة أخرى، أن الحرف اليوناني أصبح غير معروف، وأن الناشرين درجوا على كتابة المفردات اليونانية الضرورية للطلاب بالحرف اللاتيني.
المثير في هذه التوطئة التي قدم بها العروي موضوع الحرف، هو تقريره لخلاصة غريبة، يرى فيها أنه “ليس سهلا إذن أن يتعود المرء على حرفين مختلفين؟
يطرح العروي افتراضات تخص الوضع المغربي: لو كان منطق اليسر، منطق الاقتصاد، هو المتحكم لدينا لفعلنا ما فعل غيرنا (يقصد اليونان كما في الملاحظة التي انطلق منها) ولكتبنا لغتنا، مهما تكن (أي عربية أو أمازيغية) بالحرف اللاتيني الذي انتشر، في صورة أو في أخرى، في جل العالم. ويقرر مرة أخرى أن هذا ما فعلته عدد من الشعوب، مضطرة أو مختارة، كالفيتناميين الذين تخلوا عن الحرف الصيني، والأتراك الذين تخلوا عن الحرف العربي، والأندونيسيون والماليزيون، الذين تخلوا عن الحرفين الهندي والعربي، وكذلك الناطقون بالسواحلي في إفريقيا الشرقية وباللهجات التتارية في آسيا الوسطى.
ثم يقرر مرة أخرى، لكن من غير جزم، أن هناك علاقة سببية بين إصلاح الحرف وانخفاض معدل الأمية، ويعتبر أن المقارنة في هذا المجال بين تركيا ومصر، ماليزيا وباكستان لا يدع مجالا للشك. لكنه، يعتبر أن المنطق الاقتصادي ليس هو الحاسم في هذه المسألة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالحرف العربي، وبالحرف الأمازيغي، كما حدث في المغرب منذ سنوات حين اختار حرف تيفناغ ثم يورد بهذا الخصوص أن دعوات كتابة العربية بالحرف اللاتيني قد وجدت دائما، لكنها قوبلت دائما بالرفض، ويسجل العروي رفض حتى الدعوة إلى تعديل الحرف العربي لأسباب تقنية واقتصادية، بل وأكثر من ذلك ثقافية وسياسية.
ويورد الأسباب التي كانت وراء رفض الدعوة إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني (التشبث بالحرف تشبث بالثقافة والخصوصية والأصالة والانتماء ـ كل محاولة تغيير أو إصلاح تؤدي إلى الفرقة والعزلة، تعني التفريط في تراث عظيم ـ تعني الانفصال عن مجموعة بشرية تعد سندا وحمى) وهو يعرض هذه الحجج التي يدفع بها الرافضون لكتابة العربية بالحرف اللاتيني، أو على الأقل الداعين إلى إصلاح الحرف العربي، لا ينسى أن يسجل بين قوسين تعقيبا على حجة التفريط في تراث عظيم، أن هذا هو الثمن الذي أدته تركيا الكمالية، دون أن ننسى أنه سبق أن قارن بين تركيا التي انخفض فيها مستوى الأمية بتخليها عن الحرف العربي واعتمادها الحرف اللاتيني، وأن مصر وقع فيها العكس وهي التي حافظت على الحرف العربي.
لكن العروي، وهو يعرض للسجال الذي دار حول الحرف الذي ستكتب به الأمازيغية، والاختيار الذي تم اللجوء إليه بعد ذلك (تيفناغ)، يقرر أن هذه الحجج التي يتم الاستناد إليها ظهرت لكن في شكل متناقض، وأن الدافع القوي وراء اختيار تيفناغ كان سياسيا بغرض فرض الانتماء من جهة، ونبذ أو عرقلة الانصهار من جهة ثانية، إذ أن “الاستمرار في تولي الحرف العربي، وهو الاختيار التقليدي، يؤدي حتما إلى طمس الهوية، إذ الحركة الأمازيغية، لم تقم إلا لتحويل هذه الوجهة، واختيار الحرف اللاتيني، رغم مغرياته، يصطدم بحساسيات قوية، لم يبق إلا المراهنة على التيفناغ، رغم تبعاته.
يرى العروي أن هذا المنطق له ما يبرره في الظروف الراهنة، لكن السؤال يتوجه إلى الكلفة الاقتصادية، عن التأثير على مستوى الثقافة، عن الانسجام الاجتماعي، أي أن السؤال يتوجه إلى الآفاق التي يطرحها هذا الاختيار، لاسيما وأن العروي سبق أن قرر في أنه لا بد من الاعتراف بأن إتقان أنواع ثلاثة من الحروف مهمة شاقة، بحيث يتوقع العروي أنه سيحصل على الأرجح ـ عند اتباع هذا المسار ـ “إما تخلف في بعض المواد الأساسية، وإما إهمال ونسيان تدريجي لما لقنه التلميذ في صف الابتدائي، سيما إذا لم تتوفر لديه مادة أدبية غزيرة متنوعة ومشوقة تشجعه على مواصلة استعمال الحرف الجديد.
ويبقى السؤال الذي يطرحه الفصل الذي ناقش فيه العروي قضية الحرف، هو ما الاستنتاج الذي انتهى إليه العروي بخصوص قضية الحرف؟ وهل كان يناقش فقط اختيار حرف التيفناغ، أم أنه كان يضمن ملاحظاته النقدية إشارات للحرف العربي نفسه، لاسيما وأن المقدمة التي انطلق منها، وبعض التقريرات والمقارنات التي أوردها، وطريقته في نقاش الحرف الأمازيغي بالإحالة إلى البعد السياسي في الموضوع، وحضور الاعتبارات التي يتم الدفاع عنها على الحرف العربي بشكل متناقض؟
العروي وأطروحة القطيعة مع الفصحى
الفصحى: كعادته يقدم العروي لهذا الفصل بمثل للنقاش الذي ساد في أنجلترا في القرن قبل الماضي حول الثقافة والنظام في مقابل الأمية والفوضى، والنقاش الذي دار في القرن الماضي في أوروبا بين الثقافة الإنسوية الكلاسيكية والثقافة العلمية، ليؤكد أن ما يعرفه المغرب من ازدواجية لغوية، ليس وضعا غريبا، ويقرر أن تساكن لغتين وثقافتين، وفي عهد سابق كتابتين، هو القاعدة في التاريخ وليس الاستثناء.
ثم يورد أفكار الأستاذة جاكلين دي روميي، المتخصصة في الآداب اليونانية القديمة، التي تنعى فيها على تنكر أوربا الحديثة لجذور ثقافتها اليونانية والرومانية، حيث ترى أن جل المفاهيم التي تميز الحضارة الغربية متجذرة في اللغة اليونانية، ومنها انتقلت إلى روما ومنها إلى أوربا الحديثة، وأنه بقدر ما تقل معرفة اللغة اليونانية تزيد هذه المفاهيم (الحرية، العدالة، الديموقراطية، التسامح..) غموضا بسبب فصلها عن أصولها، وبذلك تختل الثقافة الغربية وتضعف.
يسوق العروي هذا المقولات، ويكتفي في مناقشتها بالقول: ما تقوله الأستاذة المحترمة جاكلين دي روميي ليس كله صحيحا، وإنما هو رأي باحثة في الأدب لا في التاريخ أو الاجتماع.
والسؤال ما الدافع إلى إيراد أفكار هذه الباحثة، بل وما الدافع إلى الانطلاق بالمثل الذي أورده في مقدمة الفصل، وما علاقة كل ذلك باللغة العربية الفصحى؟
لا تجد جوابا واضحا فيما كتبه العروي سوى طرح السؤال نفسه: ما المضمون المرتبط باللغة العربية؟
ليحاول الإجابة عنه من خلال التأكيد على أن اللغة المعربة (الفصحى) تعكس صورة مجتمع معين بخصوصياته العرقية والمعاشية والاجتماعية والعقائدية، وتعمل من خلال التربية النظامية على أن يرثه جيل عن جيل. ثم ليقرر مرة أخرى أن الثقافة العربية هي ثقافة الخاصة، بل ثقافة خاصة الخاصة، وأن مسألة الثقافة وبالتالي، مسألة اللغة لا تعني العامة بكل فروعها، ومن ثمة، فهي حسب العروي تعني الخاصة وفئاتها، فهي تفرق بين نخبة ونخبة، قديمة وجديدة، محافظة وإصلاحية.
وبعد أن ينتهي إلى هذه الخلاصة، أي أن اللغة العربية الفصحى، مثلها في ذلك مثل الثقافة العربية، هي شأن النخبة، يبدأ في تفصيل مواقف النخب: إذ يرى أن قسما من النخبة الجديدة مستعد اليوم للتضحية بثقافة الخاصة (الثقافة العربية) لارتباطها العضوي في نظره بنظام عام يرفضه كليا، وليتخلى بالتالي عن الحرف واللغة الملازمين لتلك الثقافة (أي الحرف واللغة العربيين) ويسجل العروي أن هذا هو ما حصل في تركيا، وكاد أن يحصل في بلدان أخرى لو كانت مالكة لزمام أمرها، ويعتبر العروي أن هذا القسم يمثل قلة ثورية من الإصلاحيين، “أما الأغلبية من الإصلاحيين، فإنها تبدي مرونة (براغماتية) واعتدالا، إذ تقول للثوريين: لو حصل ما تطالبون به، إما قهرا وإما في سهو من الأكثرية، لما كان في الأمر بأس، لقبلناه وتكيفنا معه، لكن بما أن هذا لم يقع، وبما أن دعاة المحافظة في تنام مستمر، فما علينا إلا المطالبة بالتعميم، أي نزع ثقافة الخاصة منها، وجعلها في متناول العامة، حتى وإن ظل الحرف على حاله (يقصد الحرف العربي)، حتى وإن ظلت الثقافة الملقنة في التعليم النظامي تغذي النوازع نفسها، وتعكس النظام العميق نفسه، فإن ثقافة جديدة تنشأ لا محالة. تستعمل المفردات نفسها والتراكيب نفسها، لكنها تضمنها معاني جديدة”.
لا يفصح العروي عن رأيه بهذا الصدد، لكنه يلمح إليه بالعودة إلى المثال الذي أورده في مقدمة هذا الفصل، أي من خلال نقد أفكار دي روميي، والتأكيد على أن الأفكار التي تتكلم عنها روميي هي التأويل الذي قامت به أوروبا الحديثة للثقافة اليونانية العتيقة، وأنه لا يوجد بالضرورة في الثقافة اليونانية غير اللاتينية (ومعها اللغة اليونانية) للتوافق مع الذوق الحديث، كما أن الحياة الجديدة تفرض لا محالة تأويلا جديدا” كيف؟ لا يصرح العروي برأيه وماذا يعني بالتأويل الجديد للثقافة العربية، وهل من الضرورة الاحتفاظ باللغة العربية وبالحرف العربي لاسيما وأن العروي قرر في فصل تال بأن اللغة العربية لم توفق هي الأخرى في اختيار حرفها؟
العروي وغموض الموقف إزاء الأمازيغية
ينطلق العروي من مقدمة يعتبر فيها أن مسألة الأمازيغية باتت تفرض نفسها، وأن كل واحد منا حسب وضعه الاجتماعي وترتبيته الأولية، يحدد موقفه منها، إما ولاء أو عداء أو توسطا واعتدالا بعد تفكير وترو.
ويقرر مرة أخرى أن المسألة الأمازيغية هي مسألة سياسية، قبل أن تتحول إلى قضية ثقافية او لغوية أو تاريخية أخلاقية.
ويؤكد ثالثا أن الحركة الأمازيغية لا تضمحل بانتشار التعليم الرسمي، بل بالعكس تتقوى وتزدهر، وتزيد حدة وتعصبا بقدر ما تتراجع في المجال العمومي.
ويعتبر رابعا أن الدعوة إلى الأمازيغية قابلة لكل التلوينات، إذ قد تتطور من مطلب إلى آخر، وقد تتحول من الدفاع إلى الأمازيغية إلى الدفاع عن الكرامة، ومن الدفاع عن اللغة، إلى الدفاع عن الثقافة، بل قد تتطور إلى الدفاع عن الأرض.
ثم يقرر خامسا أنه لا تكاد توجد دولة كبيرة معاصرة، إلا وفيها لغة رسمية متساكنة مع لغات أو لهجات أصلية محكية في البيت مقصية من المدرسة والبرلمان، ويورد على ذلك بعض الأمثلة (الباسك والكاطلان، البروطونية والبروفانصال في فرنسا، الغالية والاسكودلاندية في إنجلترا..) ويتوقع استنادا إلى هذه الأمثلة أن تساعد التقنيات الحديثة على توحيد اللهجات في إطار لغة مكتملة الصفات والوظائف، ويتوقع العروي ثانيا أن يتوسع نطاق استعمالها في الفنون الشفوية من مسرح وسينما وأغنية وفكاهة، ويتوقع ثالثا أن تعتمد كوسيلة للتعبير الأدبي، كما يتوقع رابعا أن ينتشر استعمالها بشكل أو بآخر في الإدارة وتحت قبة البرلمان.
ويرى أن كل هذا يعتبر من قبيل الممكن والمستطاع، وأن على المغرب أن يستعد له نفسانيا وتنيظيميا، لكنه ينبه على ثلاثة أشياء تترتب على هذا الوضع الذي ستؤول إليه ألأمازيغية:
1ـ الكلفة الاقتصادية التي ستكون عالية جدا في نظره.
2 ـ التمايز المتزايد على مستوى النخب وولاءاتها، “الحركة توحيدية من وجه (تركيز الهوية الأمازيغية أينما وجدت) وتفريقية من وجه، إذ تمد بعلم ورمز كل من يختار المخالفة والمغايرة.
3 ـ إعطاء فرصة ذهبية للغة عصرية أجنبية لكي تكتسح المجال الثقافي المغربي، إذ اللجوء إلى مثل هذه اللغة ضرورة محلة في عدة مجالات.
ويرسم العروي بعد ذلك ـ ضمن خريطة توقعاته ـ خريطة الحقل الثقافي الذي سيكون عليه المغرب، إذ سينقسم هذا الحقل ـ بحسب رأيه ـ إما ثلاثيا فتتساكن الأمازيغية والعربية ولغة أجنبية، وإما تختزل إلى قطبين، الأمازيغية ولغة أجنبية من جهة، والعربية ولغة أجنبية قد تكون هي الأولى وقد لا تكون. ويرى العروي أن المعربين سيميلون إلى اللغة الإنجليزية، لغة الاقتصاد والتكنولوجيا، وسيميل بعض دعاة الأمازيغية اتباعا للمنطق نفسه، إلى إبدال العربية بالفرنسية لدوافع واضحة.
لا يبرز العروي وجهة نظره، ويكتفي بتوقع ما سيؤول إليه الوضع اللغوي في المغرب، ويرجح أن يتوزع الحقل الثقافي بين القطبين الأخيرين، ويرى أن “بوادر هذا الاتجاه ظاهرة من الآن”.
العروي بين تأهيل الدارجة أم تعميم الفصحى
الدارجة: يبدأ العوري هذا الفصل بالإشارة إلى مناقشاته مع كل من ريجيس بلاشير وهينري لاوست بخصوص العامية، وأكد في سياق مناقشاته، أن ما يمنع تطور العامية (الدارجة) هو الحرف، وذكر بأنه استنتج أنه لو أبدل الحرف باللاتيني بدل العربي لتم الانفصال، وذكر بأن بلاشير وافقه على هذا الاستنتاج.
وأورد في مقدمته الثانية، ما علمه من هينري لاوست من أن إدارة الحماية الفرنسية كانت تنوي أن تجعل الدارجة لغة رسمية في المغرب جنب البربرية، وأنها استدعت لهذا الغرض عددا من المختصين ومن دارسي اللهجات فأجمعوا على أن المشروع فاشل لا محالة.
وذكر أنه بعد الاستقلال دعا بعض المثقفين المفرنسين إلى اعتماد الدارجة لغة للتعبير الأدبي دون أن يطيقوا ذلك، وأن الدارجة ظلت تستعمل في الفنون المحكية، ولم يحاول أحد من أنصار الدارجة في المغرب ما حاوله سعيد عقل في لبنان أو محمد تيمور في مصر.
ثم يسجل ملاحظة مهمة مفادها، أن الدارجة تستعمل في كل ما هو شفاهي، بينما تعتمد الفصحى فيما هو فكري فحصي تأملي ورمزي أكان أدبا أو فلسفة أو علما أو تقنية، ثم يزيد ملاحظة ثانية مفادها أن الدارجة عندما ترسم تفصح بالضرورة، وفي المقالب عندما تقرأ الفصحى جهارا أو عندما يحول الحرف إلى صوت فإنها تقترب من الدراجة.
ثم يورد بعض حجج دعاة الدارجة، الذين يرون أن الهدف من اعتماد الدراجة ليس ثقافيا فحسب، بل هو اجتماعي وسياسي، إذ يرمي إلى هدم الهوة بين الطبقات، ومحو الأمية، والتخفيف من ثقل التراث الكلاسيكي المشبع بالقيم العتيقة، كما يرمي إلى عرقلة تأثير الفضائيات الظلامية.
ويثمن العروي هذا الهدف، ويرى بأنه “نبيل” لكنه يرى أنه من الممكن تحقيقه بطريق آخر من غير ترسيم الدارجة (يسجل أن ترسيم الدراجة تستتبعه نفس السلبيات التي ذكرها في حق الأمازيغية) قد يتحقق بتعميم الفصحى، هذا التعميم، إذ حصل بالفعل، قد يتطور إلى حد أن تتميز المغربية عن غيرها تميز الإنجليزية الهندية عن الانجليزية الإنجليزية.
لكن المثير في خلاصات العروي، أنه يشبه حالة المغرب بحالة اليونان في العصر الحديث، اليونان الذي اختار بعد قرن ونصف من استقلاله، اعتماد العامية (الديموتيك) لغة رسمية للبلاد.
لا يورد العروي وجهة نظره، وإلى أي طرح يميل، لكنه يكلف نفسه الإجابة عن سؤال: متى حصل ذلك لليونان؟ قائلا: عندما تطورت العامية إلى مستوى جعلها قادرة على استيعاب شعر كفافي وروايات كازنتساكيس. ليبقى السؤال بعد ذلك، هل العامية مؤهلة للتطور إلى نفس هذا المستوى، والانتقال من لغة الثقافة الشفاهية إلى لغة التأمل والفكر والفلسفة والعلم والأدب؟ تحدي مطروح على أنصار العامية، ولم يدخله العروي ضمن مجال توقعاته كما فعل مع الأمازيغية.
العروي والموقف من لغة الانفتاح
لغة التواصل: يتناول العروي قضية لغة التواصل ضمن نفس استشرافي، ويرى أن الأمازيغية قد تكون في المستقبل لغة منمطة موحدة، لكنها اليوم لا توجد وظيفيا، وهو نفس وضع الدارجة المغربية، بدليل التمييز بين الحضري والبدوي وبين الشاوي والفيلالي . ويعتبر أن الاختلاف في النطق والتعبير والذوق والهيبة والنفوذ، هو الذي يحتم في جميع البلدان وجود لغة جامعة، تذوب الفوارق الدالة والعوارض المشخصة (الفصحى في مرحلة وظرف، ثم الفرنسية في مرحلة وظرف، وربما الإنجليزية في مرحلة وظرف) ويرد العروي على من يعتقد أن تركز اللغة الأجنبية يكون بسبب عوامل علمية واقتصادية، ويرى أن الأمر يعود لدوافع اجتماعية ونفسانية قوية، وأن اللغة الأجنبية ليست لغة انفتاح وحسب، بل هي أيضا، وربما قبل كل شيء، لغة تقارب وانسجام، ويستدل على ذلك بوضع الهند من خلال طرحه للسؤال: “ماذا كان وضع الهند لولا الإنجليزية؟”.
المصدر: عربي 21