كان أمس اليوم العالمي لحقوق الإنسان فإحتفل العالم المتقدم صاحب ” اختراع ” حقوق الإنسان في وسائله الإعلامية والدعائية بالمناسبة، مهللًا لدور الغرب والمنظمات العالمية الأممية التي شكلها بعد الحرب العالمية الثانية؛ في امتلاك ما يشبه ملكية فكرية حصرية لذلك الإختراع مجددًا بالتالي حديثه المتعالي عن مباهاة يتفرد بها بحرصه على حقوق الإنسان في كل مكان. وراحت مراكزه الإحصائية تنشر الأرقام عن الإنتهاكات الموجودة، الحقوق الإنسان هنا وهناك من دول العالم؛ منصبة ذاتها بمثابة الوصي على الإنسان وحقوقه.
إلى هنا والكلام جميل لا عيب فيه. فإذا دخلنا في عالم الوقائع سنجد إختلافًا جذريًا بين القول والفعل. وإذا أخذنا الحالة السورية كنموذج صارخ لانتهاكات خطيرة لأبسط حقوق الإنسان يمارسها نظام القهر والإجرام المتسلط على الشعب السوري بأجهزته الأمنية المتشعبة وميليشياته العديدة فضلاً عن ميليشيات أجنبية استقدمها لتساهم معه في قمع الشعب السوري وفي تغيير تركيبته السكانية الإجتماعية التاريخية.
فإننا نجد إختلالًا مشينًا بين كل ما تتحدث به أدوات التعبير الغربية والعالمية ووسائل إعلامها المتقدمة البارعة؛ وما بين مدى اهتمامها وحرصها على حقوق الانسان في سورية العربية.
الأرقام تشير إلى انتهاكات نوعية متفردة لأبسط وكل حقوق الإنسان السوري من قبل النظام والميليشيات وقوى الإحتلال الأجنبية المتعددة الجنسيات.
لم تعد الأرقام تكفي لمعرفة ما يدور. إن نوعية الإنتهاكات باتت فوق المقدرة على التصور والإستيعاب. ليست غير مقبولة فحسب بل غير مسبوقة أيضًا. لقد بلغت الوحشية في ممارسة تعذيب المعتقلين مثلًا حدًا لا يستطيع عقل بشري تخيله أو حتى تحمل وصفه كلاميًا. في سورية اليوم أكثر من مليوني مهجر قسريًا من بيوتهم يعيشون في مخيمات النزوح البائسة الكئيبة المذلة.
في سورية شعب بأكمله أسير القمع والاضطهاد والتنكيل والترويع والتجويع وسورية هذه تم تهجير نصف عدد سكانها بالتمام والكمال الى خارج أراضيها؛ بالتدمير الممنهج المدروس الذي مارسته قوى النظام وكل قوى الاحتلال الأجنبية التي تتقاسم سورية وتقسمها إقطاعيات ومتصرفيات تخضع لسلطة معتوه هنا ومجرم هناك وأمراء حرب بينهما. عشرة ملايين إنسان سوري جرى تهجيرهم بالقوة بعد اقتلاعهم من بيوتهم بالقصف والطائرات والبراميل والمجازر المتنقلة.
في سورية اليوم ملايين الأطفال السوريين خارج نطاق أنظمة الدراسة والتعليم وهذا يعني أن أجيالًا كاملة من أبناء سورية باتوا محرومين من أهم حقوق الأطفال الإنسانية وهي الرعاية والتعليم.
في سورية اليوم آلاف الأطفال والنساء المعتقلين الذين يمارس بحقهم أبشع انواع التعذيب. كما أن عشرات آلاف المعتقلين من الشباب يخضعون لضروب من التعذيب التي لا يستوعبها عقل آدمي. عشرات الآلاف قتلوا عمدًا بالتعذيب حتى جثثهم لم تسلم لذويهم مما يعني أن حرمة الميت قد استبيحت دون أي اعتبار لأدنى شعور إنساني ولو بدائيا كان.
في سورية اليوم هبطت مستويات حياة الغالبية الساحقة من السوريين إلى درجة البدائية التي تجاوزتها البشرية منذ قرون. ما عدا أعضاء العصابة الحاكمة ومن يدور في فلكهم من اللصوص والمجرمين والقتلة وتجار الحرب وأمرائها المشمولين برعاية وحماية وشراكة الرؤوس الأمنية الكبيرة. وفي سورية تدنى مستوى التعليم إلى درجة خطيرة لم يعد يعتبر فيها سويًا أو مقبولًا.
سورية اليوم تتعرض لأخطر وأكبر عملية تغيير سكاني ديمغرافي يعرفها التاريخ الإنساني في العصر الحديث والقديم. تتولاها إيران وأدواتها المحلية وترعاها روسيا وأميركا. أليست هذه عدوانًا على حق الإنسان في البقاء والتفكير الحر والتعبير والرأي والإستقرار بما يتوافق مع شخصيته التاريخية ؟؟ أليس انتزاعه من عقله وثوابته الاجتماعية بالقوة؛ عدوانًا مباشرًا على شعب ووطن وتاريخ ؟؟
ماذا يعني كل هذا سوى أن كل حقوق الإنسان من أولها وأكثرها إلحاحًا باتت مستباحة من نظام الإجرام وميليشياته ومشغليه. من حق الوجود المهدور بالقتل إلى حق الحياة المستباح بالتهجير والتجويع والقهر إلى الحرمان من التعليم والمسكن والطمأنينة لأجيال بكاملها ولشعب بأسره.
كل هذا معلوم ومعروف للجميع دولًا كانوا أم وسائل إعلام أو منظمات مدنية من كل نوع.
جميع هذا معروف بالأرقام والأسماء والصور. فماذا فعلوا ؟؟
تواطؤ عالمي مرعب مع كل هذه الانتهاكات. وهي لم تعد انتهاكات أصلًا بل قتلًا عامدًا متعمدًا لشعب بكامله حتى باتت نكبة الشعب السوري تعتبر أكبر نكبة بشرية في التاريخ الحديث.
لم يتحرك أحد من مخترعي حقوق الإنسان ولا ممن يمتلكون ملكيتها الفكرية في العالم المتحضر المتقدم المتمدن وعلى رأسه دول الغرب جميعًا. لا بل إنها جميعًا تتعامى عن كل الانتهاكات – المجازر وتسكت عنها وتبررها. حتى مجازر القتل بالأسلحة الكيماوية.
ليس هذا خافيًا على أحد كما لم يعد مفاجئًا لأحد من ذوي العقول والضمائر. إننا لا نتطرق إلى هذا الحديث لبيان تواطؤ العالم الغربي المتمدن الديمقراطي العَلماني على شعب سورية وقضيته الإنسانية.
فذاك بات من مسلمات الوعي السياسي لأي سوري وطني حر. كما ليس هذا حديثًا يتوخى تدخل تلك الدول لمساعدة شعب سورية ووقف انتهاكات حقوق الناس فيه فهذا لم يكن واردًا لدى أحرار سورية ولن يكون.
أما أن تكون دول العالم الغربي التي تتشدق بحرصها على الديمقراطية وحقوق الانسان؛ في طليعة من يتخذ المواقف الداعمة عمليًا للنظام وكل ما يرتكبه بحق السوريين؛ فليس هذا خداع ونفاق لكنه تدعيم للعدوان ومشاركة فاعلة أساسية فيه.
إن الوقائع تبين أن العالم الغربي وتحت الإشراف الأميركي – الصهيوني يتبجح بالإعتراض على النظام السوري وممارساته فيما هو يمارس كامل نفوذه لتدعيمه وإبقائه متسلطًا على رقاب السوريين، يمارس دوره الوظيفي الخادم لكل قوى النفوذ والاحتلال الأجنبي وتمكينها من نهب سورية وتقسيمها وتقاسمها أرضًا وبشرًا وموارد ونسف هويتها العربية التوحيدية الجامعة. حتى إن القوى الإنفصالية المتسلطة على الأجزاء غير الخاضعة للنظام مباشرة؛ تمارس صنوفًا شتى من القتل والتعذيب والعدوان على الإنسان وفي ذات الوقت تتمتع بالحماية الدولية التي تجعلها لا تحسب حساب أية مصلحة شعبية أو وطنية.
وقد جاءت أنباء الأمس تتحدث عن قرار أميركي بإعفاء المؤسسات الخاصة من أية عقوبات إن تعاملت مع النظام. حتى ما يسمى قانون قيصر لم يستهدف إلا المجتمع السوري إمعانًا في إذلاله وتفكيكه وتركيعه.
ليس هذا فحسب بل إن أنظمة عربية رسمية تحركت مؤخرًا مستعيدة بشكل علني ظاهر علاقات طبيعية مع النظام السوري وهي أنظمة باتت مكشوفة بخضوعها التام لمستلزمات العصر الصهيوني والسيادة الأميركية. وما مبادرة نظام دولة الإمارات لتدعيم النظام والسعي لدفع كل العرب للعودة إليه علنيًا؛ إلا دليلًا أكيدًا على رعاية النظام العالمي للنظام السوري وحمايته من السقوط.
كل هذا التواطؤ ضد الشعب السوري يتم مترافقًا مع انهيار كل مصداقية لما يسمى مؤسسات المعارضة وتشكيلاتها المرتهنة. الأمر الذي يلح على أحرار سورية جميعًا بضرورة بلورة مرجعية وطنية مستقلة أمينة على مصلحة الشعب السوري ومطالبه؛ تتمتع باستقلالية عن أي نفوذ أجنبي أو تدخلات دولية. تكون بداية ومنطلقًا لتشكيل تجمعًا وطنيًا جامعًا يعمل معًا لإنقاذ سورية.
أما أؤلئك الذين ما يزالون يصرفون جهودًا لدفع دول الغرب للتدخل في مساندة الشعب السوري فهم إنما يضيعون طاقات مهمة لو يصرفونها على الاهتمام بالداخل السوري وتدعيم قواه الشبابية الوطنية المخلصة لكان أجدى وأنفع وأقدر على الفعل والتأثير.
أما الأخوة العرب رسميين وغير رسميين الذين لم يدركوا بعد خطورة استمرار نظام الإجرام الحاكم ليس على سورية وحدها وإنما على عموم البلاد العربية على الأقل لجهة التغيير السكاني ونسف الهوية وتقسيم الأرض، فإنهم سيدركون ذلك بعد فوات الأوان.
عدا ذلك فإن بعض رافعي شعارات العروبة والقومية ممن ما يزالون يدافعون عن النظام السوري فقد وضعوا أنفسهم خارج أي حساب وطني أو عربي أقله أخلاقيًا وإنسانيًا.
في اليوم العالمي لحقوق الإنسان؛ فإن إرادة الإنسان السوري الحر هي التي تصنع عالمًا جديدًا من الحرية والكرامة الإنسانية سوف يكون منطلقًا لبناء نظام عالمي إنساني جديد يزيح النظام الراهن بكل جبروته والظلم والقهر والفساد الذي يحمله في عقله وفكره ومؤسساته وسياساته؛ ولو بعد حين.
626 5 دقائق