ستشهد سورية خلال الأسابيع التالية الانتخابات الرئاسية الرابعة للرئيس الذي أصدر دستورًا يمنح رئاستين فقط، وفيها يُقسم كل ناخب أن يحمي الدستور ويحافظ عليه، وهي المسرحية البائسة التي تعوّدها السوريون كل سبع سنوات، وهي عادة حزينة بلهاء تتكرر منذ خمسين عامًا دون توقف.
وبعيدًا عن الشأن السياسي وتحليل الموقف واستراتيجيات الدول المتدخلة والدول المراقبة، فإنني أود الحديث في الجانب الأخلاقي، وأرجو أنني أقدّم حقّ الله في ما أخذه على أهل العلم من كلمة الحق.
لعلّها لحظة اعتراف بائسة، ولكنها ضرورية، لأن لعنة الأجيال ستلاحقنا، إن لم نقلها كاملة، وأنا واحد من الذين نشؤوا في مدارس الشام التقليدية على ثقافة: “العين ما تقاوم المخرز، إنا لنبشّ في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، واليد التي لا تقدر على قطعها بوسها وادعي عليها بالكسر”.. وغير ذلك من روايات الكسالى والخاملين والانتهازيين، ومن العار أن ثقافة كهذه كان يقال لها الحكمة والمداراة والتقية والذكاء.
هكذا كان المشايخ والتجّار يبررون مواقفهم بهذه الطريقة، ويعتبرون تأمين السلامة الشخصية بحد ذاته إنجازًا ونجاحًا وتوفيقًا، وكنا في غمار ذلك نبرّر تقصيرَنا ونفاقنا، بل كنّا نعيب على أهل كلمة الحق موقفهم، ونعتبر وصولهم إلى السجون دليلًا على غبائهم وجهلهم، وكان يتبع ذلك الاستهانة والاستخفاف بكل تضحياتهم التي قدّموها ليقولوا كلمة الحق.
وبالطبع، لم يكن الأمر ليتوقف عند حدود كفّ أذى الاستبداد، بل تطور الأمر إلى استمالته والاستعانة به، في سبيل تحقيق مصالح موهومة، كنا نسميها مصلحة الدعوة وحسن التدبير وغير ذلك من المصطلحات الزائفة التي يراد منها الخضوع للمستبد في أشد غرائزه المتوحشة.
وكالعادة، فالفريقان يمتلكان رصيدًا كافيًا من النصوص؛ حيث يستدلّ الأول بنصوص “إلا مَن أُكرِه وقلبُه مطمئن بالإيمان” وهي كثيرة؛ ويستدل الثاني بنصوص “الجهر بالحق”، وهي أكثر، ولا ينتهي الجدل، ولا نملك الشجاعة أن نقول إن النص الديني برمته محكومٌ بسبب نزوله ووروده، ولا يمكنه أن يفتي لنا في الحوادث اليومية.
ولكن كيف كانت النتائج لتربية كهذه؟ علينا الاعتراف بأننا قدّمنا خدمة مجانية للاستبداد، الذي سرّه أن يرى خضوعنا الظاهر ولم يَسُؤه أن يعلم بغضنا المكتوم، وأنصت بشماتة ومكر لدعائنا وضراعتنا ضده وضد أساليبه ومناهجه، ما دمنا ندعو له في الظاهر والعلانية. وباسم المداراة؛ خلقنا جيلًا بوجهين ولسانين ومظهرين، ينسحق في غمار مداهنته كل ما يفترض أن ندعو إليه من فضيلة الصدق والشجاعة الأدبية وكلمة الحق وأن لا تأخذك في الله لومة لائم.
لا أعتقد أن هناك طبقة في المجتمع السوري خسرت جمهورها، كما خسرته طبقة العمائم، فقد اختارت هذه العمائم المكورة الوقوف إلى جوار الظالم وتبرير هجومه على المستضعفين، واستعانت بنصوص ظالمة وُضعت لخدمة المستبد: “إنما السلطان ظل الله في الأرض، فمن استظلّ بظله كان كمن حج واعتمر، واسمعوا وأطيعوا ولو أخذوا أموالكم وضربوا أبشاركم وجلدوا ظهوركم”..
ولم يصدّق أحدٌ أن سورية، بعد كل هذا التوحش الذي تسبب في نحو مليون قتيل ومفقود وعشرة ملايين مشرد، ستستمر عمائمها في تأييد الوضع الراهن وتبرير هذا الاستخذاء كله بمصلحة الدعوة، وأن حمَلة العمائم سيستمرون في دعم الاستبداد، وسيقول مفتيهم: “امضِ حيث شئت!! سالمْ من شئت، وحاربْ من شئت!! وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت!!! لا نسألك عن مقتول لمَ قتلته، ولا عن مسجون لم سجنته، ولا عن مسحوق لم سحقته”.. يقول هذا الفجور كله، ثم يعتبره حكمة ومداراة.
حان الوقت للاعتراف بأن رجالًا شجعانًا كانوا في أرض الشام الشريف، وقدّموا للجيل قدوة صالحة محترمة، حان الوقت أن نشير بإعجاب وإكبار للشيخ حسن حبنكة الميداني، والشيخ حسين خطاب، والشيخ وهبة الزحيلي، والشيخ إبراهيم سلقيني، والشيخ جودت سعيد، والشيخ معاذ خطيب، والشيخ أبو الهدى اليعقوبي، والشيخ سارية الرفاعي، وغيرهم من الذين فقدوا فرصًا كثيرة بسبب نزاهة مواقفهم، ومع ذلك استمروا في ضمير السوريين محلّ تقدير واحترام، مع أنهم لم يمضوا كل أعمارهم في السجون المظلمة.
ليس المطلوب بالضرورة أن يتحوّل المجتمع كله إلى جان دارك، وأن يحمل أكفانه على جسده وأن يحاكي سعيد بن جبير أمام الحجاج.. بل المطلوب موقف متوازن يرضي المرء فيه ضميره، ويفخر أمام أولاده بأنه لم يكن جزءًا من مؤامرة زور وكذب، نقامر فيها بملايين الضحايا الذين دفعوا ثمن هذا التوحش قتلى وسجناء ومشردين.
وفي تجربتي الحزينة، أقول لكل رجل دين: إن الخطايا كثيرة، وربّما يقع المرء في الخطيئة، كأنْ يُفتن بامرأة، أو يشرب الخمر، أو يشارك في فساد.. ولكن أكبر الكبائر الكذب: “قالوا يا رسول الله أيزني المؤمن؟ قال: قدر الله وما شاء فعل، قالوا: أيسرق المؤمن؟ قال قدر الله وما شاء فعل، قالوا أيكذب المؤمن؛ فغضب وقال: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون”.
لقد مارسنا مع مشايخنا هذا العار مرات كثيرة، ولم تكن المظالم بالتوحش الذي ظهر في مواجهة الثورة. وأمام نهر الدم، لم يعد ممكنًا الصمت ولا المداهنة، وقناعتي بيقين أن أي مداهنة للظالم ومجاملة له، على حساب المسجونين والمقهورين والمشردين، هي لون من أشد المعاصي إثمًا ورذيلة، وهي بالضبط الكذب الذي أخبر عنه رسول الله بأنه إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون.
المصدر: موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة / موقع كلنا شركاء
كلام مهم شكرا لكتبه