“إن الشعوب العظيمة لا تعتبر الأبطال من شهدائها مجرد ذكرى، إنما تعتبرهم معالم على طريق إنتصاراتها، وشواهد حق على علو هممها، ودلائل صدق على عزمها الذي لا يلين، وكفاحها الذي لا يتوقف في سبيل مثلها العليا، إن شهداء أي أمة عظيمة هم القصص المجيدة على طريق التضحية، وتحمل التضحية هو ثمن الإنتصار، ولا يقدر على دفع ضريبة الدم غير الذين يقدرون شرف الحياة”.
إذا كان فقدان الأخ محمد خليفة، خسارة وطنية وثورية، في أدق ظروف الثورة السورية، وتعقد ملفاتها وتداخلها، الذي عبرت عنه العديد من مؤسساتها وتجمعاتها السياسية والحزبية، المدنية والعسكرية، فإن رحيله المفاجىءخسارة عربية كبرى لثورات الربيع العربي كلها، التي آمن بها وبشر بها وعمل لأجلها، كما هو خسارة لنضالات كافة الشعوب العربية التي لم تعصف بها الثورات وبقيت نارها تحت الجمر تعتمل وتتهيأ وتتحضر، بانتظار لحظة تاريخية، لاريب أنها قادمة.
لعل الخسارة الكبرى والفادحة، إضافة لكل الخسارات السابقة على أهميتها، هي لنا نحن في (ملتقى العروبيين السوريين) رفاق أحلامه وآمانيه الكثيرة والعريضة، باعتبار راحلنا الكبير أحد المؤسسين الأساسيين، بل هو صاحب الفكرة، والمبادرة، قبل الانطلاقة والتحضير والإشهار، وبقيت نشاطاته، وتفاعلاته، لغاية رحيله تصب في تقوية الملتقى وتصليب عوده، وتجذير فكرته وأهدافه النبيلة، دون رغبة بالاستئثار أو الهيمنة، أوالاستثمار الشخصي، ولعلنا لا نذيع سرًا، اليوم، حين نقول أن الأهداف العامة للملتقى وغاياته قد خطها بقلمه، النظيف والصادق، كل ذلك لأنه كان مسكونًا بروح العروبة السمحة، واعتزازه بها، المتجاوزة للايديولوجيا والتعصب والانغلاق، كما كان هاجسه دومًا انتماء سورية، وهويتها الأصيلة، وثقافتها المنفتحة على كل تيارات الفكر الانساني، موقعها ودورها الريادي والحضاري، خصوصًا في ظل التهديدات الجدية التي تواجهها من الخارج والداخل، من مشاريع النفوذ والهيمنة والسيطرة، ومشاريع انتعاش الهويات القاتلة، مادون الوطنية.
في السياق ذاته يفتقد موقعنا، (ملتقى العروبيين) واحداً من أعمدته الأساسية حيث كان مستشارًا للتحرير منذ انطلاقة الموقع وحتى رحيله المفجع، بانضباطية شديدة، دون تذمر، أو إحساس بالغبن، وقد ساهم معنا منذ البداية بملاحظاته ورؤيته في ظهور موقعنا بالشكل الذي هو عليه الآن، إضافة أيضًا للتعريف به، أي من نحن، لمن يرغب بالعودة والاطلاع على ذلك، فاتحًا المجال لنا لصقل خبراتنا، وتعزيز تجربتنا، دون أن يبخل أو يضن علينا بكل ما كنا نطلبه منه، وهو الذي كانت مقالاته الغنية والمتنوعة دومًا تزين أقسام موقعنا، في القضية الوطنية السورية، والقضايا العربية، في ملفات السياسة والفكر، وحتى الثقافة والأدب وتحديدًا الشعر.
ندرك أن هذا المكان، وهذا الحيز الصغير، ليسا مناسبين لاستعراض مسيرة الراحل، ومحطات حياته بموضوعية وأمانة، دون تضخيم أو تعظيم، وهو ما سنكتب عنه تفصيلاً في وقت لاحق، سواء على المستوى النضالي أوالسياسي، حيث مثل دائمًا وخلال مسيرة أكثر من نصف قرن صوتًا مجلجاً في مواجهة طغيان آل الأسد، مناديًا بالحرية والكرامة، وعاملًا على إسماع صوت من لاصوت لهم من الضعفاء والمظلومين والمضطهدين، والفقراء والمعذبيين، كما الوقوف عند مفاصل مهمة في حياته الشخصية والمهنية، كإعلامي محترف، وباحث رصين، عمل في العديد من الصحف والمجلات العربية، والمراكز التخصصية، تشهد له كلها بمناقبيته المهنية، وكما قال عنه زميله وصديقه لأربعة عقود رئيس تحرير (مجلة الشراع اللبنانية) الأستاذ حسن صبرا في وداعه: عندما كان يسألني الناس عن شرف المهنة أقول محمد خليفة.!!
أيضاً، سلوكه الشخصي، وخصاله الإنسانية النادرة في حب الناس والتعامل معهم بصدق وشفافية وتواضع، وقبل ذلك وبعده، بأخلاق رفيعة وأدب جم، وابتسامة جميلة لا تفارق محياه، تكشف عن عمق قناعاته وإيمانه بالإنسان أولًا وأخيرًا، الانسان كغاية وهدف.
نحن هنا رفاق دربه وزملاءه، استفدنا كثيراً منه، وتعلمنا أكثر، وفي هذا المكان تحديداً، أو هذه الزاوية، (رأي الملتقى)، وعلى مدار أكثر من عام منذ انطلاقة موقعنا، كتب الراحل، كما كتبنا، معبراً عن مواقفنا، وساهم بصياغة مواقفنا، اختلفنا معه، أحيانًا، خلاف المحبين والرفاق والزملاء، واتفقنا أكثر بكثير، وفي كل ذلك كان يتقبل ملاحظاتنا بصدر واسع، مؤمناً بالمؤسساتية وحق الاختلاف والنقد، حتى أنه عندما كان يكتب ما لا يمكننا نشره في موقعنا، مراعاة لظروف سياسية وأمنية، كان من ذاته يوفر علينا الحرج مدركًا بوعيه وبصيرته عدم تحمل مالا طاقة لنا به.
نحن مؤمنون بأهمية الأفراد وأدوارهم الاستثنائية، ولكننا في الوقت نفسه على يقين مطلق برحيلهم كجزء من إيماننا بسنن الله وخلقه، وسنن الحياة والكون والطبيعة، التي لا تغيير ولا تبديل لها، لذلك نعاهد راحلنا المناضل والثائر، المثقف العضوي والسياسي، والشاعر والانسان على المضي على عهده، على الأقل في موقعنا المتواضع، موقع ملتقى العروبيين، وفي مرجعيته (ملتقى العروبيين السوريين) على مواصلة مشوار فقيدنا الغالي حتى يكتب لشعبنا وأمتنا النصر والمجد والسؤدد، أو نقضي دون ذلك شهداء على هذا الطريق الذي نذر له الراحل نفسه، وأقسمنا معه على ذلك، كما قاسمناه الحلم والأمل.
في جعبتنا الكثير مما يمكن قوله، وفي وجداننا ذكريات لاتنسى، تختص بتفاني الراحل وإخلاصه ووفائه، نكتفي منها هنا بالقول: ونحن بصدد إصدار كتابنا الأول عن الراحل الكبير الدكتور (جمال الأتاسي المفكر …المناضل … الانسان) الذي ساهم به في مقال طويل حمل عنوان (جمال الأتاسي: غاندي سورية) دون أن تكتحل عيناه برؤيته وتصفحه، إلا عبر الايميل والصور، وبعد أن كتبنا مقدمته أصر على أن يضع لمساته، ويضيف ما يليق بمسيرة الراحل الكبير (جمال الأتاسي) قائلًا: لا بد من مقدمة تفيه حقه وتعطيه قدره، وتنصف رجلاً من أنبل وأطهر ما أنجبت سورية العظيمة.
أخيراً: نستذكر محمد خليفة وكلنا ألم وحزن بما قاله الراحل الكبير محمود درويش في قصيدته الجميلة لماذا تركت الحصان وحيداً.؟!
لكي يؤنس البيت، يا ولدي
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها …
“من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا” (صدق الله العظيم).
إن رحيل الأخ العزيز الكاتب الصحافي محمد خليفة، ليس خسارة لأهله وأسرته ومحبيه و”ملتقى العروبيين”، إنما هو خسارة للأمة العربية في هذا الظرف العصيب. والمؤسف، أنه رحل قبل أن يكحل عيونه برؤية سوريا التي أحبها، حرة مستقلة، خالية من الشبيحة، وعلى رأسهم الطاغية الأكبر، الذي هجّر نصف الشعب السوري في القارات الخمس، وقتل الملايين منه، واعتقل ما ينوف على مليونين من السوريين الأحرار، في سبيل البقاء في موقع اغتصبه قسرا، وكأنه ملك أبيه، الذي أورثه المنصب على الرغم من إرادة السوريين.
رحم الله الزميل الكبير محمد خليفة، وكل شهداء الثورة السورية والعرب، الذي سقطوا ويتساقطون يوما بعد يوم، في سبيل حرية الإنسان العربي ورفاهيته.
رحمه الله وغفر له