ما تشهده منطقتنا، منذ نحو عقد، حربٌ إقليميةٌ شاملة، مع تدخّل خارجي من أكبر قوتين عسكريتين في العالم، إلى جانب التدخل المباشر، أو غير المباشر، للقوى الدولية المتحالفة مع هذا المعسكر أو ذاك. والحرب الإقليمية هذه تأخذ أشكالاً عدة، منها عسكرية ميدانية، ومنها مخابراتية، ومنها اقتصادية، ومنها مذهبية قومية. أما الحصيلة، فهي حطامٌ بمعناه الكامل على صعيد الاجتماع والعمران والمستوى المعرفي والتقدّم التكنولوجي، فموارد المنطقة البشرية والمالية تتعرّض لنزفٍ كبير. والآثار التراجيدية لحروبها وتناحراتها وصراعاتها مرشّحةٌ للاستمرار إلى ما شاء الله؛ هذا ما لم تأخذ القوى الإقليمية الأساسية قرارات التفاهم والتوافق على إدارة الخلافات، واتخاذ القرارات الصعبة من أجل إيجاد المخارج للعقد المستعصية والمعادلات التي تبدو مستحيلة الحل.
الأزمة السورية ما زالت مسدودة الآفاق. وكذلك الوضع في لبنان. أما العراق، فيعيش على الحد الأدنى من التوافق السلبي بين الأميركان والإيرانيين. والوضع اليمني بات أشبه بالثقب الأسود الذي يبتلع الإمكانات من دون أي أثر، ويسبب مأساة إنسانية كبرى. ومصر تعاني من عدم قدرتها على تحقيق مصالحاتها الذاتية التي من شأنها الارتقاء بها إلى ما يتناسب مع حجمها وتاريخها ودورها الحضاري، الممكن والمنتظر. وتركيا تعاني من أوضاعها الداخلية، السياسية منها بين الحكومة والمعارضة، والاقتصادية التي تتمثل بتآكل قيمة الليرة، وتراجع الانتعاش الاقتصادي الذي كان واعداً في مرحلة من المراحل. هذا إلى جانب الإخفاق في التوصل إلى حل عادل مقبول للمسألة الكردية التي تظل القضية الوطنية الأكبر والأهم على مستويي الدولة والمجتمع في تركيا. وإيران تعاني من أوضاعها الداخلية المعقدة، فالنظام القائم هو في مواجهةٍ مع مختلف المكونات الإيرانية. كذلك فإنه في مواجهةٍ مع الإصلاحيين والمعارضين، الشباب والنساء، وفي مواجهةٍ مع الإصلاحيين الذين هم جزء من النظام نفسه. أما إسرائيل، فهي الأخرى، على الرغم مما يبدو أنها قد استفادت كثيراً من الخراب الذي تعرّضت له المنطقة، تعاني من خلافاتها البينية، كذلك فإنها تعاني من هاجسٍ وجوديٍّ مستدام، ما دامت لم تتمكن من الوصول إلى حلٍّ واقعي مقبول مع الجانب الفلسطيني.
في هذه الأجواء العاصفة الملبدة بالغيوم السوداء التي تُنذر بمزيد من الكوارث، يأتي الحديث عن إمكانية الوصول إلى توافق خليجي بوساطة كويتية – أميركية؛ وبما تؤدي إلى تجاوز الخلاف الحاد الذي استمر، على غير العادة، بين قطر من جهة، وكل من السعودية والبحرين والإمارات، ومعهم مصر، من جهة أخرى.
وعلى الرغم من بذل الجهود من الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية بهدف التوصل إلى حلٍّ ما في هذه الدولة أو تلك، فإنها تظل محاولات عقيمة. لقد باتت قضايا المنطقة متداخلةً متشابكةً، تستخدمها القوى الإقليمية الأساسية، والقوى الدولية، أوراق ضغط ومساومة، تحقق بها المصالح، أو تساعدها في تجاوز أزماتها الداخلية عبر عملية الركض نحو الأمام، وإلهاء الداخل بأخبار الانتصارات الخارجية.
تشبه هذه الوضعية، إلى حد بعيد، الوضعية التي شهدتها أوروبا في المرحلة التي امتدت بين الحربين العالميتين اللتين سبّبتا قتل عشرات الملايين من الضحايا، ودماراً هائلاً شمل العمران والإنسان، والعلاقات بين المجتمعات والدول الأوروبية. ولكن أوروبا استطاعت تجاوز الكوارث، حينما قطعت مع أيديولوجيات الحقد والكراهية والسيطرة، وتجاوزت عقلية المظلوميات و”الثارات”، وخضعت لمنطق الحكمة والمصلحة والتزام الموجبات المطلوبة لتجاوز الماضي، والتوجه نحو المستقبل. وقد عرفت أوروبا هي الأخرى الخلافات المذهبية والقومية، وكان يُعتقد أن قضايا كثيرة لن تحلّ أبداً، ولكن حكمة التصميم على بلوغ الحلول الواقعية المقبولة انتصرت، وجعلت الأوروبيين مضرب المثل في ميدان القدرة على تجاوز العقبات، والوصول إلى الحلول التي تكون في مصلحة الجميع.
ومنطقتنا بحكم قربها الجغرافي من أوروبا، واستناداً إلى علاقاتها الوثيقة معها عبر القرون، وهي العلاقات التي راوحت بين الصراع والاحتلال والتفاهم، والتحاور الحضاري، والتعاون الاقتصادي، تستطيع الاستفادة من التجارب الأوروبية الغنية على مختلف الصعد، مع مراعاة خصوصية مجتمعاتنا، وطبيعة القضايا التي تؤرّقنا، لتأتي الحلول منسجمةً مع وضعياتنا المشخّصة. ولكنها حلولٌ لا تبدأ من الصفر، بل تستلهم الكثير من الأفكار والنماذج من تجارب قريبة منا، أثبتت نجاحها في ظروف بالغة التعقيد.
لقد أضرّت الأيديولوجيات التعبوية التجييشية بمنطقتنا كثيراً، وسيستمر مفعولها السلبي طالما توجد قوى تستفيد منها، وتسوقها للتغطية على استبدادها وفسادها، وإخفاقها في تأمين المقدمات الأساسية، والمستلزمات الضرورية، لتنمية حقيقية تضمن مستقبلاً أفضل للأجيال المقبلة، فالأيديولوجيات المذهبية والقومية واليسارية، بأسمائها المختلفة، استخدمت في منطقتنا لتضليل الناس، وحشدهم في مواجهة “الآخر”، الخصم المتخيل. وكانت الحصيلة سلسلة طويلة من المصادمات والصراعات والحروب. بل ما زالت هذه الصراعات والحروب مستمرّة، وستستمر لتستهلك مزيداً من الموارد، وتفكّك بنية مجتمعات المنطقة الغنية بثرواتها وإمكاناتها البشرية.
تحتاج منطقتنا تفاهماتٍ داخلية أساسها المصالح المشتركة التي ستفتح الأبواب أمام مزيد من التفاهمات والتفاعلات الإيجابية، وعلى جميع المستويات، خصوصاً الثقافية والمعرفية، والحضارية بصورة عامة. وقد تجاوز الأوروبيون عقدة الحروب المزمنة، والخلافات المستعصية، بمشروعٍ اعتبر، في البداية، أنه مجرّد حلم جميل، وقد تمثل في مشروع الفحم والصلب في 1951، ولكنه سرعان ما تطوّر، حتى أصبحنا اليوم أمام الاتحاد الأوروبي الذي يظل التكتل الأكثر إنتاجاً واستقراراً وتأثيراً وديمقراطية، على الرغم من جميع الثغرات التي يعاني منها. فما الذي يمنع دول المنطقة من الاجتماع والتوافق على معالجة أسباب الخلاف عبر معالجة أوضاعها الداخلية أولاً، والتركيز على ميادين التعاون الاقتصادي لمصلحة الجميع؟
أما الاستمرار في إنتاج الفزّاعات، وتسويقها، واتخاذها مسوغاً لمزيدٍ من الإنفاق على التسلح، وزيادة أعداد الجيوش، وشراء مزيد من الأسلحة، ووضع الحسابات المفتوحة تحت تصرّف الأجهزة المخابراتية والقمعية، فهذا لم، ولن، يمكّن المنطقة من بلوغ الأمان والاستقرار، وهما الشرطان اللذان لا استغناء عنهما في أي عمليةٍ تنمويةٍ حقيقية.
قضايا المنطقة معقدة، لا خلاف على ذلك. لكن إمكانات الحلول وإيجاد المخارج هي الأخرى كبيرة، شرط التحرّر من الأوهام: أوهام التاريخ والأيديولوجيا والعظمة المفقودة، والتخلص من عقد الانتقام ونزعات التموضع والسيطرة. مجلس التعاون الخليجي، إذا تمكّن من تجاوز خلافاته، ووحّد صفوفه، وهذا ما نأمله، يمتلك من القدرات المالية، والمؤهلات السياسية والمعنوية ما تمكّنه من أداء دور فاعل على صعيد أخذ زمام المبادرة على المستوى الإقليمي، ودعوة جميع القوى الأساسية في الإقليم إلى الحوار والتفاهم، وأخذ القرارات الصعبة التي لا بد منها للانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ بعقليةٍ جيدة، وأولوياتٍ جديدة تتمفصل حول مستقبل الأجيال المقبلة، وتقطع مع العقلية الماضوية التي لم تجلب لمجتمعاتنا سوى الكوارث. إذا ما تجاوز خلافاته التي غالباً ما تؤدّي إلى سياساتٍ ارتجالية وردود أفعال لا تتناسب مع الإمكانات المنتظرة، يمكنه مجلس التعاون الخليجي، بحكم علاقات أعضائه مع جميع القوى الإقليمية، واستناداً إلى الإمكانات الاقتصادية التي يمتلكها، والمشاريع الاستثمارية التي يمكن أن يتشارك فيها على أساس المصالح المتبادلة مع دول المنطقة، بل على المستوى الدولي، يستطيع أن يكون بوابة خروج دول المنطقة ومجتمعاتها من أزماتها الداخلية والإقليمية، ويكون رافعةً تنهض بالمنطقة، وتمكّنها من امتلاك شروط التقدّم الاقتصادي الذي سيضمن فرص التعليم والعمل لأجيالنا المقبلة، وهذا ما سيحقّق التوازن المجتمعي والنفسي، ويقطع الطريق أمام نزعات التشدّد والتطرّف والإرهاب. ولكن هذا وحده لا يكفي، بل المنطقة في حاجةٍ ماسّة إلى معالجة قضاياها الداخلية، وإيجاد الحلول الممكنة للمشكلات المزمنة. ويُشار هنا، بصورة خاصة، إلى القضية الفلسطينية، وكذلك القضية الكردية، والخلافات المذهبية، ولا سيما بين الشيعة والسُّنة، بالإضافة إلى بقية القضايا والخلافات التي يمكن إيجاد الحلول لها إذا ما جرى التعامل معها بعقل وقلب مفتوحين.
تحتاج منطقتنا مبادرة شجاعة، واضحة، تدعو إلى تحديد نقاط الخلافات لمعالجتها، وتجاوزها، والتركيز على نقاط التوافق والمصالح المشتركة، للبناء عليها، وتطويرها. هذه المبادرة يستطيع مجلس التعاون الخليجي، المتماسك المتفهم، أن يترجمها على أرضية الواقع، عبر الدعوة إلى لقاء أو مؤتمر عام للتعاون الإقليمي مثلاً، يكون إطاراً عاماً لتفعيل الحوارات والمبادرات بين مختلف الفعاليات الاقتصادية والعلمية والثقافية بأوسع معانيها، فمبادرة كهذه يمكن أن تؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ واعدة، تطمئن مجتمعات المنطقة، وتُبعد عنها شبح المزيد من الانهيارات. كذلك من شأن هذه المبادرة ضمان مستقبل أفضل للجيل الشاب، والأجيال المقبلة، في مجتمعات المنطقة. أما الاستمرار في التخندقات والصراعات، وربما التحوّل مستقبلاً إلى أدوات في لعبة استقطاب دولي جديدة، فهذا معناه قرن آخر، أو أكثر، من الصراعات العدمية العبثية التي ستلتهم المزيد، ولن تحصل مجتمعاتُنا منها، في نهاية المطاف، سوى السراب والخراب.
هل نحلم؟ ربما. لكن الأحلام المتفائلة تظل، في جميع الأحوال، أفضل من العقلية الانتقامية السوداوية، وتهويلاتها الهستيرية.
المصدر: العربي الجديد