لم تستطع 14 جولة من مسار أستانة التفاوضي بين الأطراف الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، تحقيق أي اختراق مهم من الممكن أن يمهد الطريق أمام التوصل إلى حلول للقضايا التي تصدى لها، بل تؤكد المعطيات والوقائع أنه لم يكن سوى بوابة للروس والإيرانيين للقضاء على فصائل المعارضة تحت ذريعة محاربة الإرهاب منذ مطلع العام 2017.
وكانت بدأت جولات هذا المسار عقب خروج هذه الفصائل من مدينة حلب، والذي كان بداية تراجع كبير لها على مختلف الجبهات، بسبب القوة النارية من الطيران الروسي.
ويخطط أطراف هذا المسار، أو ما بات يُعرف بـ”الثلاثي الضامن” (روسيا، تركيا وإيران) لعقد جولة جديدة من هذا المسار. وأكدت وسائل إعلام روسية أنه من المرجح أن تنطلق الجولة الجديدة من محادثات أستانة في العاصمة الكازاخية نور سلطان في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بينما أشارت مصادر المعارضة السورية إلى أنه “لا يوجد حتى اللحظة تأكيد رسمي” على انعقادها. وكانت آخر جولة من المباحثات قد عُقدت عبر دائرة تلفزيونية، في إبريل/نيسان الماضي، وذلك بعد تأجيلها بسبب تفشي جائحة كورونا، واقتصرت على وزراء خارجية الثلاثي الضامن لتفاهمات هذا المسار، مولود جاووش أوغلو ومحمد جواد ظريف وسيرغي لافروف.
وتُعقد الجولة الجديدة من مسار أستانة في ظلّ معطيات ميدانية وسياسية معقدة، إذ لا تزال منطقة إدلب ومحيطها هي الوحيدة التي تُحكم “نظرياً” بتفاهمات هذا المسار، فيما قضم الروس والإيرانيون بقية مناطق خفض التصعيد على مراحل، وهو ما أضعف موقف فصائل المعارضة السورية. ولا يزال اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين الأتراك والروس في مارس/آذار الماضي في العاصمة الروسية موسكو، والملحق بتفاهمات أستانة، صامداً نسبياً، إذ لم تشهد محافظة إدلب أي محاولات جدية من قبل قوات النظام للتقدم برياً، ما خلا محاولات تسلل تلقى مقاومة من فصائل المعارضة السورية.
ويبدو أن الجولة الجديدة من مسار أستانة، في حال انعقادها، تأتي لترسيخ تفاهم موسكو بين الأتراك والروس المثقلين بملفات عدة مترابطة، منها الملف الليبي.
وتؤكد الوقائع أن الطرفين حريصان على عدم التصعيد واسع النطاق، بعدما تحولت إدلب إلى صندوق رسائل بين الطرفين. وفي هذا الصدد، أعرب القيادي في فصائل المعارضة السورية مصطفى سيجري، عن اعتقاده بأن مسار أستانة “بات عبارة عن محطة لترحيل الخلافات التركية الروسية القائمة”، مضيفاً في حديث مع “العربي الجديد”: “لا ننتظر منه أكثر من ذلك”. وأضاف: “الملف السوري اليوم بات جزءاً من كل، والأمور بين روسيا وتركيا باتت أكثر تعقيداً”. وأشار سيجري إلى أن الجانب الروسي “دفع في الفترة الأخيرة لربط الملف السوري بالملف الليبي وملف إقليم ناغورنو كاراباخ، وكذلك بشرق المتوسط”، مضيفاً أن “الروس جعلوا من الأراضي السورية صندوقاً للرسائل النارية ضد تركيا، وعليه لا نتوقع أي انفراج في الملف السوري ما لم تشهد باقي الملفات تقدماً حقيقياً”.
وفي السياق، لم يشهد الملف السياسي أي تقدم في ظل تعنت النظام ورفضه تسهيل مهمة الأمم المتحدة في وضع دستور جديد للبلاد، إذ يعرقل النظام اللجنة الدستورية التي اعتمدت أممياً لهذه الغاية، ومن ثم فإن الجولة الجديدة من أستانة، والتي أشارت مصادر إلى أنها ربما تكون على مستوى الرؤساء، تعقد تحت سقف منخفض من الآمال في إحداث اختراق سياسي مهم.
وكانت الجولة الأولى من مفاوضات أستانة عُقدت في 23 يناير/كانون الثاني 2017، بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعقب خروج المعارضة السورية المسلحة من أحياء حلب الشرقية وفق اتفاق روسي – تركي، شكل البذرة الأولى لهذا المسار من المحادثات. وقضى هذا المسار في الجولة الرابعة من المفاوضات في مايو/أيار 2017 بإنشاء 4 مناطق لخفض التوتر تشمل كامل محافظة إدلب وأجزاء من ريفي اللاذقية وحلب الغربي، ومنطقة الغوطة الشرقية بريف دمشق، وريف حمص الشمالي، وجنوب سورية، والتي تجاوز النظام لاحقاً 3 منها وسحق المعارضة فيها بمساعدة روسية في ريفي حلب الغربي والجنوبي وفي ريفي إدلب الشرقي والجنوبي، ولم يبق إلا قسم من منطقة التصعيد الرابعة مهددا من النظام بشكل دائم. وفشل هذا المسار فشلاً كبيراً في معالجة الملفات التي تصدى لها ولا سيما لجهة المعتقلين، والألغام، بسبب رفض النظام التعامل مع هذين الملفين. وكانت قد عُقدت في العاصمة التركية أنقرة منتصف سبتمبر/أيلول من العام الماضي قمة جمعت رؤساء الدول الضامنة في سورية، خرجت ببيان ختامي أكد على سيادة سورية، واستقلالها، ووحدتها، وسلامة أراضيها، إلى جانب تشديده على الالتزام القوي بمبادئ الأمم المتحدة.
ولا تزال أنقرة تطالب بالعودة إلى حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة التي تقدمت بها قوات النظام تحت غطاء ناري روسي بدءا من أواخر 2019 وحتى مارس/آذار الماضي. لكن الجانب الروسي يرفض حتى اللحظة الانسحاب إلى ما وراء حدود هذه المنطقة، بل يطالب بكاملها جنوب الطريق الدولي “أم 4” الذي يربط الساحل السوري بغربي البلاد بمدينة حلب، كبرى مدن الشمال. وفي ظلّ عدم التزام الروس والإيرانيين بتفاهمات أستانة، يبدو أن هذا المسار فَقَد قيمته الميدانية والسياسية، إذ تبيّن أنه مجرد تكتيك روسي هدفه القضاء على المعارضة السورية بذريعة مكافحة الإرهاب.
ولفت الباحث في مركز “جسور” للدراسات وائل علوان، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن مباحثات أستانة توقفت عند الجولة رقم 14، التي عقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي. وأشار علوان إلى أن الجولة المقبلة “ستكون على الأرجح على مستوى الرؤساء، ومن ثم لا مشاركة للسوريين فيها سواء من النظام أو المعارضة”، معرباً عن اعتقاده بأن القضية السورية “استقرت على مسارين تحاول الدول الحفاظ عليها، وهما مسار جنيف الأممي ومسار أستانة”. وأشار إلى أن “مسار جنيف يختص بالجانب السياسي الدستوري، بينما الثاني له علاقة بالواقع الميداني ووقف إطلاق النار”، معرباً عن اعتقاده بأن المجتمع الدولي “أوجد مسار أستانة، وليس فقط تركيا وروسيا وإيران”، مضيفاً أن “هذا المسار يضبط القوى السورية المتحكم بها من الخارج”.
وفي السياق، أشار الكاتب السوري المختص بالشأن الروسي، طه عبد الواحد، لـ”العربي الجديد”، إلى أن وزارة الخارجية الكازاخية أكدت أنها لم تستلم حتى اللحظة طلباً من الثلاثي الضامن لتنظيم جولة جديدة من مسار أستانة، معرباً عن اعتقاده أن الهدف من الجولة في حال انعقدت، هو “التذكير بهذا المسار”، الذي “استنفد في جولاته الأخيرة أغراضه ولم يعد يقدم شيئاً”. وأوضح عبد الواحد أن “الأمر اقتصر على تنسيق تركي روسي حول إدلب، بعدما سيطر الروس والنظام على بقية مناطق خفض التصعيد. لم يعد للتنسيق الثلاثي أي تأثير، وفقد مسار أستانة قيمته”.
المصدر: العربي الجديد