قبل عام من اليوم، عبَر الجيش التركي وفصائل سورية مقاتلة تابعة له، الحدود بين تركيا وسورية للمرة الثالثة، ولكن هذه المرّة في منطقة شرق نهر الفرات الخاضعة لمليشيات “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) التي تهيمن عليها الوحدات الكردية. هذه المليشيات كانت قد حاولت وناورت سياسياً، من أجل منع التدخل التركي في الشمال الشرقي من سورية، لكنها فشلت بسبب ضوء أخضر أميركي منح لأنقرة للقيام بعملية محدودة، فيما كان الأتراك يتحفزون لتدخل واسع النطاق، ينهي وجود “قسد” بشكل كامل. وتشير معطيات جديدة إلى أن الأتراك قد يضعون خططاً لتوسع جديد في المنطقة.
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدأ الجيش التركي عمليته التي لوّح بها طويلاً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكنه تردد لفترة في التنفيذ بسبب الرفض الأميركي. وتحتفظ الولايات المتحدة بوجود قوي في الشمال الشرقي من سورية، وتُقدّم دعماً كبيراً لـ”قسد”، لدورها في محاربة تنظيم “داعش”.
ولم يجد الجيش التركي، إثر تدخله، عناءً في السيطرة على مدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي. ففي مساء اليوم التالي للعملية التي شارك فيها “الجيش الوطني” (فصائل من المعارضة السورية)، كانت تل أبيض التي يشكل العرب جلّ سكانها، خالية من “قسد”. وفتح الجيش التركي جبهة جديدة باتجاه مدينة رأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي، ولم تمضِ أيام إلا وكانت هذه المدينة تحت سيطرته، على الرغم من أنه وجد مقاومة وُصفت بـ”الشرسة” من قبل “قسد” التي كانت قد استعدت جيداً للمواجهة من خلال أنفاق داخل المدينة، عرقلت السيطرة السهلة للجيش التركي.
واستطاعت فصائل المعارضة السورية المدعومة من الجيش التركي التوغل جنوباً، حتى وصلت إلى الطريق الدولي “أم 4” الذي يبعد نحو 30 كيلومتراً عن الحدود السورية – التركية. وتدخّل نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، بعد أسبوع من العملية، لوقف إطلاق النار، كي تنسحب “قسد” إلى عمق 30 كيلومتراً على طول 100 كيلومتر من الحدود السورية التركية، والبالغة 440 كيلومتراً في منطقة شرقي الفرات. ولم يجد الأكراد بُدّاً من “تجرّع السم”، ولجأوا إلى الجانب الروسي لإيقاف العملية التركية، مقابل دخول قوات روسية إلى منطقة شرق نهر الفرات.
وفي 22 أكتوبر الماضي، اتفق الجانبان التركي والروسي في قمة رئاسية على خروج مقاتلي “قسد” من “المنطقة الآمنة” التي رسمتها أنقرة، مع تسيير دوريات عسكرية تركية – روسية مشتركة بعمق 5 كيلومترات على طول الحدود، باستثناء المنطقة التي سيطر عليها الأتراك ما بين تل أبيض ورأس العين. وقد غيّرت العملية التي أطلق عليها الأتراك اسم “نبع السلام”، الكثير من معادلات السيطرة في شرق الفرات، التي يُنظر إليها باعتبارها “سورية المفيدة” لغناها بالثروات.
وتحدثت وكالة “الأناضول” التركية، في تقرير نشرته أول من أمس الجمعة، عن “تطهير ما يقرب من 600 منطقة سكنية، على مساحة تزيد على 4 آلاف كيلومتر مربع، من الإرهاب”، من خلال العملية العسكرية شرق نهر الفرات. كذلك أشارت إلى أن “عدد السكان العائدين إلى المنطقة الآمنة، وصل إلى 200 ألف نسمة”، مبينة أن الجانب التركي أقام مستشفيين، أحدهما في رأس العين بسعة 200 سرير، والآخر في تل أبيض بسعة 75 سريراً. وأشارت الوكالة إلى إصلاح مدارس في المنطقة الخاضعة للجانب التركي، مؤكدة أنه “انتظم خلال العام الدراسي الحالي، 48 ألف طالب في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، في 422 مدرسة جاهزة للدراسة في المنطقة”. ووفق الوكالة، افتتحت تركيا فروعاً متنقلة لمؤسسة البريد التركية “بي تي تي” في تل أبيض ورأس العين.
في المقابل، تؤكد مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أن بعض الفصائل المعارضة التي سيطرت على منطقتي تل أبيض ورأس العين، ارتكبت تجاوزات جسيمة بحق المدنيين من اعتقال وتصفية وتعذيب حتى الموت في معتقلات عدة، إضافة إلى السطو على ممتلكات عامة وخاصة. وبيّنت المصادر أن جلّ سكان المنطقة من المكون الكردي نزح إلى المناطق الخاضعة لـ”قسد”، خشية من عمليات انتقامية من قبل بعض الفصائل، مشيرة إلى أن المنطقة تعرضت لعمليات إرهابية منذ أواخر العام الماضي وحتى اليوم، ولا سيما في تل أبيض وبلدة سلوك ورأس العين، أدت إلى مقتل وإصابة مئات المدنيين “بسبب وجود ثغرات أمنية لم تعمل الفصائل على تداركها”، وفق المصادر.
وتعليقاً على ذلك، رأى القيادي في المعارضة السورية المسلحة، العميد فاتح حسون، أن “أهم إنجاز حققته عملية نبع السلام، منع قيام كانتون انفصالي شمال شرقي سورية”، معتبراً في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هذا بحد ذاته إنجاز يضاف إلى تحرير مزيد من الأراضي وعودة المهجرين قسراً”. وأشار حسون إلى أن “عملية نبع السلام لم تكن منفصلة عن عمليتي درع الفرات في شمال حلب، وغصن الزيتون في منطقة عفرين شمال غربي حلب، ولن تكون منفصلة عمّا سيليها من عمليات”. وقال في هذا الصدد إن “تحرير المناطق من الانفصاليين غاية لا يمكن الحياد عنها”.
وتؤكد معطيات ميدانية وسياسية أن الجيش التركي قد يضع خططاً لتوسيع النطاق الجغرافي لوجوده في منطقة شرق نهر الفرات، من خلال شنّ عملية عسكرية جديدة، إما باتجاه منطقة عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي الشرقي، المحكومة الآن باتفاق أكتوبر بين أنقرة وموسكو، أو باتجاه مدينة الدرباسية الواقعة إلى الشرق من مدينة رأس العين، على الحدود السورية التركية. وكان أردوغان قد هدّد مطلع الشهر الحالي، بـ”التدخل والتحرك التركي الذاتي لمواجهة المجموعات المسلحة” في شمال سورية. وقال الرئيس التركي: “سنذهب بأنفسنا لتطهير أوكار الإرهاب في سورية، إن لم يتم الوفاء بالوعود المقدمة لنا. لقد قضينا على الممر الإرهابي المراد إقامته على طول حدودنا، وأثبتنا أن أشقاءنا السوريين ليسوا وحدهم”.
وتعليقاً على ذلك أيضاً، رأى الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، طه عودة أوغلو، أن “تركيا حققت الجزء الأكبر من أهدافها من العملية العسكرية”، موضحاً أن “التفاهمات التركية مع الولايات المتحدة في 17 أكتوبر 2019 حول منطقة شرق نهر الفرات، والتركية الروسية في 22 أكتوبر من العام نفسه، عزّزت المكاسب السياسية والميدانية من العملية العسكرية التركية”. وأشار عودة أوغلو، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنه “على الرغم من النجاحات التركية في إبعاد الوحدات الكردية عن حدودها، وسحب أسلحتها، وإقامة منطقة آمنة، لا تزال أنقرة تواجه تحديات التطبيق مع الأميركيين والروس لكل التفاهمات”. وأعرب عن قناعته بأن العملية “نجحت بشكل غير مباشر في وضع الخطوط العريضة لخريطة النفوذ والسيطرة في منطقة شرق الفرات بعد (تفاهمات) مستقرة نوعاً ما بين القوى الإقليمية والدولية في شرق الفرات”، وفق قوله.
المصدر: العربي الجديد