قبيل انعقاد قمة بوتين-أردوغان، طالب المتحدث باسم الرئاسة التركية بإيقاف إطلاق النار. ذلك الطلب كان مخالفاً لكل تهديدات المسؤولين، بمن فيهم أردوغان نفسه، بإعادة ميليشيات الأسد وحلفائها إلى ما بعد النقاط التركية المنتشرة بموجب تفاهم سوتشي حرباً أو سلماً، فهو ينطوي على القبول بخطوط التماس الأخيرة. بمعنى أنه كان جزءاً من نتائج القمة المنتظرة، ولا يخلو من دلالة على الضعف أن يأتي الطلب من أنقرة بعد بيانات وزارة دفاعها عن الخسائر الباهظة التي أوقعتها القوات التركية بميليشيات الأسد.
هي قمة وقف إطلاق النار إذن، هذا هو السقف الذي رسمته المفاوضات التمهيدية بين الجانبين، وكل التصريحات النارية السابقة صارت طي النسيان. ووقف إطلاق النار لا يمهد لبيئة مغايرة لما ألفناه من قبل، أي التهدئة إلى حين تتخذ موسكو قراراً بالانقضاض عليها بموجب الذريعة ذاتها عن انتهاك وقف إطلاق النار من قبل “الإرهابيين”، ولا يمهد حتى لحصانة الجيش التركي من الهجوم عليه بذريعة تحصن الإرهابيين ضمن أماكن وجوده، فأردوغان تعهد بالرد على أي خرق له، لكن من خارج النص المكتوب الذي يخلو من آليات صارمة تضمن تنفيذه.
من وجهة نظر سورية وإنسانية، الاتفاق خسارة صافية. نحن لا نتحدث عن أراضٍ انتقلت من سيطرة إلى سيطرة أخرى، ولا عن سكان لاقوا المصير نفسه، الحديث هو عما يفوق المليون لاجئ لن يكون في وسعهم العودة إلى بيوتهم. الذين هربوا من جحيم القصف الروسي والأسدي لن يعودوا، وإذا افترضنا جدلاً توفر نية العودة لدى البعض منهم بسبب انسداد الأفق فقد خلفوا وراءهم مدناً مدمرة لا تصلح للعيش. في الأصل، سياسة الأرض المحروقة هي من أجل تهجيرهم ومنعهم من العودة، ليكتمل الطوق حول أعناقهم بسياسة الحدود المغلقة.
الحق أن الرقم السابق لن يكون نهائياً، ومع كل خرق لوقف إطلاق النار سينضم إليه مهجرون جدد. لن يكون هناك إحساس بالأمان بعد الآن، فقد امتحن جيداً الأهالي واللاجئون إلى إدلب أكاذيب وقف التصعيد التي سرعان ما انقلبت فوق رؤوسهم. الذين كانوا يعوّلون، طوعاً أو بحكم الواقع الذي لا بديل له، على الضامن التركي لن يمنحوا أنفسهم أملاً كاذباً كما فعلوا من قبل. بقاء السكان في المناطق التي لم تتعرض للاجتياح أو القصف هو بقاء اضطراري قلق، وسيخلو من النشاط باستثناء ما يتعلق بالحد الأدنى للعيش.
وجود القوات التركية في ما تبقى من إدلب لن يمنح الثقة للسكان، لأن بوتين لن يقصّر في استهدافها عندما تحين اللحظة المناسبة، كما حدث أثناء التصعيد الأخير، وفي أحسن الأحوال بالنسبة لأنقرة يمكن استهداف ما حول نقاط التمركز التركي من قبل الطيران الروسي. لقد منحت أنقرة موسكو هذا الحق مجدداً ومرتين في ديباجة الاتفاق، مرة بالحديث عن العمل المشترك على مكافحة الإرهاب، ومرة ثانية بالنص على الالتزام بسيادة سوريا ووحدة أراضيها. إذ من المعلوم أن موسكو قادرة في أية لحظة على التذرع بعدم قيام أنقرة بواجبها في مكافحة الإرهاب، وقادرة أيضاً على لعب ورقة السيادة طالما أن تابعها الأسد يحتل كرسي سوريا في الأمم المتحدة وفق القانون الدولي.
استهداف القوات التركية مجدداً، بعد ما يشبه اتفاق إذعان، سيكون أسهل على بوتين لأنه سيضع أردوغان في إحراج أكبر إزاء الرأي العام التركي الذي شهد تصريحاته النارية ثم التراجع عنها. رغم تحفظ أحزاب المعارضة على سياسته في الملف السوري، اعتمد أردوغان في المواجهة المنقضية على مشاعر الغضب القومي جراء استهداف جنوده، وعلى إرضاء اليمين القومي بإغلاق الحدود أمام اللاجئين الجدد وفتحها أمام الراغبين في المغادرة إلى أوروبا. ذلك لن يكون متاحاً له بسهولة لاحقاً، خاصة بعد تأكيده إثر القمة على العلاقات التركية-الروسية التي وصلت إلى الذروة، وإشارته ذات الأهمية الخاصة إلى أن ذلك ينطبق على الصناعات الدفاعية.
مع أن الرسالة الأخيرة موجهة أساساً إلى الغرب، على خلفية صفقة صواريخ S400، إلا أنها ذات أثر في الجدل الداخلي حول موقع تركيا وتوجهها شرقاً أو غرباً. على هذا الصعيد، سيبدو أردوغان كأنه ينفذ سياسة انتقامية من الغرب بالتأكيد على صلابة العلاقة بموسكو، وبالتأكيد على الاستمرار في سياسة اللجوء الجديدة التي تعني إلقاء جزء من العبء التركي على عاتق أوروبا. إن نقض الاتفاق التركي-الأوروبي حول اللاجئين بات يفتقر إلى الأهداف السياسية التي رافقت التصعيد الأخير، فقد فُهم فتح الحدود حينها بوصفه وسيلة لدفع الغرب إلى التحرك والضغط على موسكو لإيقاف هجومها، وفُهم أبعد من ذلك كوسيلة لإجبار الغرب على التفكير في إقامة منطقة آمنة، والفكرة الأخيرة أخذت تكسب مؤيدين لها بدءاً من ألمانيا وهولندا.
لا نعلم ما الذي كان يدور في الغرف المغلقة، المؤشرات المعلنة من الغرب لم تكن سلبية بالإجمال، فالمبعوث الأمريكي إلى أنقرة صرح بأن استخدام مظلة باتريوت في انتظار قرار سياسي، بينما كان واضحاً في استعداد بلاده لتقديم إمدادات الذخيرة فوراً للقوات التركية وتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للاجئين. من المؤكد أن واشنطن أو الغرب عامة لن يقدّم لأنقرة المساعدة بلا مقابل، ولم يكن متلهفاً لمواجهة عسكرية، وقد رحبت واشنطن باتفاق بوتين-أردوغان وعليه لن تكسب فكرة المنطقة الآمنة أنصاراً جدد بل ستُطوى نهائياً. المؤكد تالياً أن الغرب سيكون أكثر حذراً في التعاطي مع تصعيد روسي-تركي محتمل، بسبب انخفاض الثقة بمآلات السياسة التركية، ولأنه على المستوى الشكلي غير حاضر أو معني باتفاق ثنائي جديد، مثلما لم يكن معنياً بانهيار مسار أستانة الذي كان موافقاً عليه ضمنياً.
صحيح أن البروتوكول الجديد اعتُبر ملحقاً بتفاهمات سوتشي، إلا أن الإشارة إلى مرجعية جنيف جاءت بمثابة نعي لمسار أستانة وملحقاته، وهي إشارة إلى عملية لم يعد لها وجود أصلاً، أي أن الكلام في البيان عن الحل السياسي هو من قبيل الإنشاء ليس إلا. وبسبب عدم نضج الظروف لأية عملية سياسية، ما سيحكم الفترة المقبلة محاولة أنقرة الحفاظ على ما تبقى من مواقع نفوذها، من دون توقف سعي موسكو لقضم ما تستطيع منها، بينما غرّد ترامب على حسابه مكتفياً ومسروراً بسيطرة مئات قليلة من قواته على مواقع النفط. هو وقف إطلاق نار بين المتحاربين، قد يكون ضرورياً لالتقاط الأنفاس والتحضير لما بعده، وهو قد يكون فسحة صغيرة للمدنيين قبل أن يُعاد وضعهم في موقعهم المعهود تحت الإبادة والتهجير.
المصدر: المدن