لم أكن قد أتممت الخامسة من عمري يوم مات جمال، جمال عبد الناصر، ولكني عشت قصة موته بكل جوارحي وربما هي المرة الأولى التي أدرك فيها أن الموت رحيل وغياب أبدي.
حينها لم أكن على مقاعد الدراسة، وبالطبع، لم أكن قد قرأت شيئًا عن الموت والوجود وفلسفتهما، عن معناهما في المقدس الديني أو في نظريات الفكر الوجودي، عن الحياة والحضور والغياب والرحيل.
ليلة إعلان وفاة جمال عاد شقيقي الأكبر محمد إلى البيت في وقت متأخر من الليل ناحبًا، باكيًا، أيقظ أمي قائلًا لها: لقد مات جمال …استيقظ كل من في البيت وأمي تحاول تهدئته، قائلة: لقد نام جمال شقيقك قبل ساعات، ولا أظن أنه قد تعرض لسوء أو مكروه…ما بك؟ ماذا جرى؟؟ استيقظ جمال، شقيقي، على جلبة البيت، وشقيقي محمد غير قادر على إفهامها أن الذي مات جمال عبد الناصر وليس شقيقنا جمال.
شقيقنا جمال الذي يكبرني بثمانية أعوام أبصر النور في ذروة الاحتفالات والافراح بقيام الوحدة المصرية – السورية في 22 / 2 / 1958، ولذلك اتفقت عمتي مريم، وزوجة أحد وجهاء الأكراد (آغا) الذي تربطه علاقة وثيقة بأسرتنا، على اقتراح تسمية شقيقنا جمال. وقالت عمتي (كل المواليد في هذه الأيام يسميهم ذووهم باسم جمال، وسلم أبي بالأمر كما لو أنه شيء مقدور ومفروغ منه، تيمنًا وحبًا بجمال عبد الناصر، مدفوعين بوعيهم الفطري البسيط.
حصل هذا بعد أول زيارة لعبد الناصر إلى سورية (الاقليم الشمالي)، وكانت حدثًا تاريخيًا بكل معاني العبارة، حيث طاف على مدنها وقراها كافة من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب ألى الشرق، ومنها مدينتنا حلب طبعًا، إذ تدافع الناس بكثافة لدرجة سببت إغماء كثيرين لتحية زعيم “المتحدة”، مخترقين كل الأسوار والحواجز الأمنية التي حاولت السيطرة على موجات الجموع الشعبية الزاحفة لاستقباله وتحيته، أو حتى مشاهدته عن قرب.
نمنا ليلتنا بحزن شديد بعد أن استيقظ والدي وأدار المذياع على إذاعة “صوت العرب” التي كانت بدأت ببث آيات من الذكر الحكيم، حينها تأكد الخبر بما لا يدع مجالاً للشك، وتُطرد أي وساوس عن أن الأمر فيه لبس ما، فالأمر خارج التوقعات وحتى التخيل أو التفكير، لأسباب عديدة، منها صغر سن الزعيم (52) سنة، وارتباط أحلامهم وأمانيهم به، وفي مخيال الناس مثله لا يموت، فهو الاسطورة.!!
لكن…”الهرم الرابع” مات، أو “السيد نام …دخل الغرفة كي يرتاح” بتعبير الشاعر الاستثنائي نزار قباني…!!
يوم تشييع عبد الناصر خرجت في معظم المحافظات والمدن والأحياء جنازات رمزية، وأقامت المساجد صلاة الغائب على روحه في مشاهد حزن جلل، قل مثيلها في التاريخ، ولتكون جنازته أكبر جنازة شهدها التاريخ البشري حتى حينه.
مات ناصر
” والتين والزيتون… وطور سنين وهذا الشعب المحزون”
كما قال الراحل العظيم أمل دنقل.
يوم التشييع كنت الفتى الصغير الذي يلهو ويلعب غير عابئ بالحياة وهمومها، وغير مدرك لما خلفه رحيل عبد الناصر من انكسار في وجدان الملايين من السوريين والعرب، ومن إحساس بتصدع، أو انهيار كبير، قد أصاب حياتهم وطموحاتهم…لكني أزعم بعد نصف قرن بالتمام والكمال أنه اليوم الذي بدأ فيه وعيي بالتشكل، على صغر سني جداً، وليرتبط ذلك اليوم بحياتي كلها، ثقافة ووجداناً ونشاطاً سياسيًا، بدأ وأنا صبي لم أبلغ الحلم.. وحتى هذا اليوم.
ذهب والدي للمسجد حزيناً باكياً… ولا أذكر أن أحداً من أشقائي كان في المنزل.
حين عاد للبيت مقطب الجبين، يحبس دموعه في مقلتيه، وهو الذي لم يبك يوم وفاة شقيقي البكر قبل ذلك بسنوات، إثر حادث سير أليم، أو يوم وفاة جدي بعد ذلك بسنوات.
حين عاد وجدني ألعب مع شقيقتي التي تكبرني بثلاث سنوات في لعبة بدائية، سهلة، من المكعبات التي يشكل انتظامها، وترتيبها، صورة جميلة، تدخل البهجة الى نفس طفل، أو طفلة، الحياة بالنسبة لهما مجرد صورة زاهية، تنبض بالألوان والفرح، على ألعاب ذلك الزمن الجميل والبسيط.
تفاجأ أبي أني ألعب وألهو بشكل عادي، دون اكتراث بالحدث الجلل، فصفعني بقوة، قبل أن يقول لي: جمال مات وأنت تلعب…لاتزال كلماته، رحمه الله، في أذنيّ حتى اللحظة.
لم أدرك في ذلك العمر المبكر أن هذه الصفعة ستترك في نفسي كل هذا الأثر، وأن سببها سيطبع حياتي بطابعها الخاص إلى يومنا هذا.
لم يكن أبي “ناصريًا” بالمعنى الذي تبلور في ذهني فيما بعد، ولكنه بالتأكيد في وجدانه كان يرى فيه رمزاً لعزة العرب وكرامتهم، وإن كان فيما بعد وقف معارضاً لنشاطنا السياسي، شقيقي محمد وأنا.
كبرت على صورة جمال عبد الناصر، في منزلنا، وبالقرب منه علم دولة “المتحدة” يقف خلف الميكرفون يخطب، ضمها إطار أزرق جميل، علقها على الحائط شقيقي محمد، كان قد تلقاها هدية من أحد الأخوة الأعزاء الذين ذهبوا للدراسة في مصر، وبقيت رغم العديد من النصائح الأمنية من أصدقاء وأقرباء، خصوصًا في مرحلة ثمانينات القرن الماضي، وتفتيش جيش الأسد وقوات سرايا الدفاع العائدة لرفعت الأسد مدينتنا حلب التي روعها عناصر الطاغية الأب.
احتفظت بالصورة مع مكتبة كبيرة، بعد مغادرة شقيقي محمد لسورية، التي كانت إحدى وصاياه لي قبل السفر وائتماني على سر مغادرته بلا رجعة، دونًا عن أي أحد آخر من الأسرة، بما فيهم أمي وأبي.
نقلت المكتبة عدة مرات من منزل إلى آخر، حتى كبرت واستفليت في منزل خاص بي… وبين غربة وعودة إلى أرض الميلاد والمحيا… بقيت الصورة محفوظة ليس من التلف أو الضياع فقط، بل في القلب والعقل والوجدان، تزين جدار صالة البيت.
في غربتي اصطحبت مثلها كأحد المقتنيات الشخصية الثمينة.!!
مات جمال عبد الناصر
28 أيلول/ سبتمبر يوم صفعني أبي ويوم شهد ميلادي الثاني.
بعد نصف قرن، أقول ما قال الراحل الكبير محمود درويش:
” وحين تموت نحاول أن لا نموت”.
وأهتف مع العبقري الفذ عبد الرحمن الأبنودي: “يعيش جمال وهو في موته …ما هو مات وعاش جمال عبد الناصر.!