في تصريح يناقض ويخالف كلامًا سابقًا له، كشف الرئيس دونالد ترامب الثلاثاء الماضي، في حديث مع قناة فوكس نيوز، أن وزير دفاعه السابق جيمس ماتيس عارضه ورفض رغبته بقتل بشار الأسد عام 2017، وهو الآن “ليس نادمًا على عدم قتله”، وهو نفسه، أي ترامب، نفى في عام 2018 أن يكون قد فكر في ذلك.
النفي السابق والاعتراف الحالي لا يدخلان، فقط، تحت بند السرية أو أمن المعلومات وخطط الاستخبارات الأميركية، وتوجهات الإدارة والبيت الأبيض الأميركيين، بقدر ما يتعلقان بطبيعة شخصية ترامب نفسه، المتناقضة حينًا وغير الواضحة أحيانًا أخرى، فترامب الذي خاض حملته الانتخابية السابقة، وقدم نفسه للجمهور الأميركي، وللعالم، على أساس أنه ذو نهج مناقض لنهج سلفه الديمقراطي باراك أوباما، القائم على اعتماد (الديبلوماسية) أداة للسياسة الخارجية،
ومعالجة أعقد القضايا والأزمات الدولية، بما فيها التي أفقدت أميركا هيبتها كدولة تقود العالم بمفردها، ولم يترك فرصة إلا وانتهزها ليهاجم سياساته وأخطائه.
ترامب اليوم بعد أربع سنوات هو غير ترامب عام 2016 و2017 ، ولا يبدو الآن أنه أكثر مصداقية من سلفه، فهو يظهر بعدم ندمه على ما فكر به، رجلاً مسالمًا حكيمًا “غانديًا” ينبذ العنف والتطرف، وهو بذلك يقتفي أثره ويتبع أسلوبه، ولا يختلف عنه بشيء، رغم أن الأسد، منذ عام 2017 وحتى الآن، لم يغير سلوكه الوحشي نحو شعبه، وارتكب في هذه الأعوام من جرائم الحرب والإبادة والقتل الجماعي، ما يستحق عقابًا أشد وأقسى، لما يشكله من خطورة ليس على شعبه والمنطقة، بل على الأمن والسلام العالميين، وفي كل الأحوال يذكرنا ترامب بموقفه هذا، بأوباما نفسه الذي تراجع في اللحظات الأخيرة عن ضرب الأسد الصغير بعد أن تجرأ واستخدم السلاح الكيمياوي في الغوطتين في آب/ أغسطس من عام 2013.
صحيح أن ترامب وافق ووقع على (قانون قيصر)، أو(سيزر)، الذي شدد الحصار والخناق على نظام المجرم الكوني بشار الأسد، ولكن الأمر في حقيقته يعود في جانب كبير منه إلى رغبة وسعي أميركيين في منع الخصوم والمنافسين الدوليين على الاستفادة من فرص إعادة الإعمار في سورية، وفي كل ذلك أولوياته تتعلق بمحاصرة المشروع الإيراني، وعدم تمكين خصمه الروسي من الاستحواذ على قرار مستقبل سورية.
الكثير من الأسئلة تبقى دون إجابات حاسمة وواضحة إزاء السياسة الأميركية في سورية، والمنطقة عمومًا، وخصوصًا في الأشهر الأخيرة المتبقية من ولاية ترامب، المهتم بإنجاز “صفقات صلح” بين بعض الدول العربية وإسرائيل تفتح الأبواب للتطبيع العربي على الصعيد الرسمي، على الأقل، وشاغله في ذلك أن يكون سيد البيت الأبيض الأميركي لولاية ثانية، وغايته التمسح أكثر باللوبي الصهيوني وكسبه إلى جانبه، في انتخابات نوفمبر القادم، الأمر الذي يوضح أن الطرف الروسي، حليف الأسد المجرم، غير عابئ بالعقوبات الأميركية، ويتصرف غير آبه بها، كما بدا من زيارة الوفد الروسي رفيع المستوى الذي زار دمشق مؤخرًا برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية يوري بوريسوف، ووزير الخارجية سيرغي لافروف.
لا يختلف اثنان على أن السياسات الدولية تحددها المصالح أولًا وأخيرًا، بعيدًا عن القيم والمبادئ، ببراغماتية خالصة، الأمر الذي يثير، أيضًا، الكثير من الأسئلة عن مصالح دولة مثل أميركا مع بقاء مجرم كبشار الأسد رغم عشرية سوداء تجاوز فيها كل الخطوط الحمر وما دونها وما فوقها من ألوان.
كلام ترامب عن عدم ندمه على ترك الأسد يفلت من العقاب يفترض حسن النية بالمجرم والقاتل، والطاغية الكوني، ورهان على إمكانيات التعاون معه، والوصول إلى تسوية من نوع ما، وإلا فلماذا لا يشعر بالندم.؟؟ وجيد أن ترامب لم يقل إنه يشعر بتأنيب الضمير على مجرد التفكير بذلك الخاطر العابر الشرير!
مرة أخرى تثبت أميركا أن الرهان عليها والثقة بسياساتها رهان خاسر، وفاشل، أو كما قال الرئيس المصري السابق، المخلوع حسني مبارك (المتغطي بأميركا يبقى عريان.!) فهذه الدولة العظمى لن تكون ولا لمرة، حليفًا للشعوب التواقة للأمن والاستقرار والحرية والازدهار، بل على العكس تمامًا، فهي تدير الأزمات والصراعات من خلال منظورها للمنطقة، الذي تحكمه مصالحها وأمن اسرائيل، وهو الدرس الذي نسيته بعض نخبنا وواجهاتنا السياسية بغباء أو جهل، أو عن حسن نية وسذاجة، لا مكان لهما في عالم السياسة الدولية، وأروقة الدبلوماسية.
كان يمكن لأميركا وللعالم أن يضعوا حدًا للمأساة السورية منذ زمن بعيد، ولكنهم ما زالوا يستثمرون بها.
ترامب على خطى أوباما يمنح الأسد الصغير مزيدًا من الوقت لاستكمال دوره في قتل الشعب السوري وتدمير سورية. ترامب، أوباما، بوش الابن، كلهم واحد بالنسبة لسورية، لا فرق بين ديمقراطي وجمهوري.