تعيش بعض مناطق الشمال السوري، الخاضعة للسيطرة التركية المباشرة، حالة من الأمان النسبي بسبب التفاهمات التركية الروسية، التي جنبت تلك المناطق عمليات القصف المدفعي والجوي من جانب النظام السوري وروسيا، بما يشمل مساحات واسعة من أرياف حلب والحسكة والرقة، وذلك منذ العملية العسكرية التركية الأولى بريف حلب، المسماة “درع الفرات”، في صيف 2016، ثم عمليتي “غصن الزيتون” في عفرين و”نبع السلام” بريفي الرقة والحسكة.
وتخضع هذه المناطق إلى نفوذ أنقرة المباشر، عن طريق انتشار قواعد عسكرية تركية تدير “الجيش الوطني”، المؤلف من فصائل من “الجيش السوري الحر” السابقة، إضافة إلى إدارتها مدنياً عن طريق مجالس وأجهزة شرطة محلية.
غير أن هذه المناطق تعاني على المستوى الأمني من ظاهرة التفجيرات المتكررة، والتي تحصد أرواح مدنيين وعسكريين، حيث لا يكاد يمر أسبوع دون وقوع تفجير أو أكثر، وسط شكوك واتهامات صريحة لـ”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، التي كانت تسيطر على هذه معظم هذه المناطق، بالوقوف خلفها. وآخر هذه الحوادث، التفجير الذي وقع مساء الإثنين الماضي، حين انفجرت سيارة مفخخة في مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، ما أدى إلى مقتل 11 شخصاً، بالإضافة إلى سقوط أكثر من 40 جريحاً، بينهم مدنيون وعسكريون. وكانت عفرين نفسها شهدت نهاية إبريل/نيسان الماضي تفجيراً ضخماً تسبب في مقتل أكثر من 40 مدنياً وإصابة نحو 55، جراء انفجار صهريج وقود وسط المدينة، حيث ألقت تركيا القبض على معدي التفجير، وقالت إنهم يتبعون للمجموعات الكردية المسلحة.
ولاحظ مراقبون تصاعد وتيرة التفجيرات منذ انطلاق عملية “نبع السلام” في أكتوبر/تشرين الأول 2019، مع تكثيف استهدافها المباشر للمدنيين في الأسواق ونقاط التجمع، الأمر الذي زاد من الغضب الشعبي على الجهات الأمنية بسبب فشلها المتكرر في منعها. وتنوعت وسائل التفخيخ بين العبوات الناسفة التي تلصق بسيارات غالباً ما تتبع إلى فصائل “الجيش الوطني”، والدراجات النارية المفخخة، وفق آلية تستهدف “القتل العشوائي” إلى حد كبير، حيث إن غالبية التفجيرات تقع في الأسواق والأماكن المزدحمة. وحتى حين يستهدف بعضها حاجزاً أو مقراً عسكرياً، عبر ركن السيارة أو الدراجة على مقربة من الهدف، وليس بجانبه تماماً، بسبب الإجراءات الأمنية المتخذة، ما يتسبب في وقوع إصابات بين المدنيين، أكثر بكثير منها بين العسكريين.
وعادة ما توجه الاتهامات من جانب المسؤولين المدنيين والعسكريين في المنطقة إلى “قوات سورية الديمقراطية” بالمسؤولية عن التفجيرات، بسبب رغبتها في زعزعة حالة الأمن والاستقرار في المنطقة. ويرى البعض أن “قسد” ليست المتهم أو المستفيد الوحيد من حصول مثل هذه التفجيرات، حيث يسعى النظام السوري بدوره إلى زعزعة استقرار تلك المناطق التي يطالب باستعادة السيطرة عليها، وكذلك تنظيم “داعش” الذي كان يسيطر على بعضها، خصوصاً أن بعض العمليات كانت “انتحارية”، وهو أسلوب “داعش”، والذي تتبعه أيضاً بعض الوحدات الكردية، في الوقت الذي قد لا يعرف سائق السيارة أنها مفخخة. ففي 10 نوفمبر تشرين الثاني 2019، فجر “الجيش الوطني” سيارة مفخخة على أطراف بلدة حمام التركمان في ريف الرقة الشمالي، بعد أن أبلغ سائقها الحاجز بأنه يشك بأن “قسد” فخختها، إثر احتجازها لديهم. وبعدها بثلاثة أيام تمكن حاجز من كشف سيارة مفخخة قرب تل أبيض في ريف الرقة الشمالي. وقال الرائد حسين حمادي، لموقع “الخابور” المحلي وقتها، إنهم اكتشفوا أن صاحب السيارة يعمل كتاجر للخضار، وقد اعتقلته “قسد” وصادرت سيارته لتفرج عنه بعد أيام وتسلمه سيارته التي قادها باتجاه مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، الذي تبين له أنها مفخخة.
وتشير معلومات نشرتها شبكات محلية إلى أن “قسد” تستخدم عناصر من “داعش” المعتقلين لديها في عمليات التفخيخ، وهذا ما يجعله يتم بطريقة احترافية اشتهر بها عناصر التنظيم. وقال القيادي في فصائل المعارضة السورية العميد فاتح حسون، لـ”العربي الجديد”، إن معظم السيارات يتم تفخيخها في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، وإرسالها إلى مناطق “الجيش الوطني” في الشمال السوري، بينما يتم تفخيخ البعض في مناطق “الجيش الوطني” بواسطة خلايا تابعة إلى “قوات سورية الديمقراطية”، حيث تمكنت الجهات الأمنية من اعتقال بعض عناصر هذه الخلايا. وأرجع حسون تمكن “قسد” من إدخال المفخخات إلى الشمال إلى طول خط التماس بين المنطقتين، إضافةً إلى ضعف المعدات التي تمتلكها الأجهزة الأمنية التابعة إلى المعارضة لتغطية كل الحواجز على الطرق الواصلة بينهما، فضلًا عن وجود عشرات الطرق الزراعية التي تستخدمها الدراجات النارية المفخخة بشكل خاص، ويصعب مراقبتها جميعاً.
بدوره عزا الناشط الصحافي محمد المصري، المقيم في جرابلس بريف حلب، صعوبة ضبط حركة التنقل في تلك المناطق إلى امتهان تجارة السيارات من جانب عدد كبير من الأشخاص في ضوء الربح الذي تؤمنه هذه التجارة، وعدم وجود رسوم جمركية عليها، إضافة إلى أن الغالبية ليس لديهم مكاتب نظامية لممارسة هذه التجارة، وهم غير مسجلين لدى الدوائر الرسمية، كتجار سيارات.
ومن جهة أخرى، ثمة اتهامات لقادة الفصائل والأجهزة الأمنية التابعة إلى “الجيش الوطني” بالإهمال والتسيب الأمني. وفي نهاية إبريل الماضي، طالب اتحاد الصحافيين السوريين في الشمال قادة الفيالق والشرطة في عفرين بالاستقالة الفوري. وقال الاتحاد، في بيان، إن هذه التفجيرات “مرتبطة تماماً بفساد منظومة الفصائل، فضلاً عن ممارستها كل أنواع التجاوزات عبر معابر التهريب، غير آبهة بدماء السوريين”. وحمل “قادة الفيالق الثلاثة في الجيش الوطني السوري، والقادة والمسؤولين القائمين على إدارة منطقة عفرين، مسؤولية التقصير في توفير الأمن والحماية لمناطقهم”.
وكانت المجالس المحلية والقوى الأمنية في ريف حلب الشمالي اتخذت العديد من الإجراءات لضبط الأمن، مثل منع دخول جميع الآليات غير المسجلة لدى دوائر المواصلات في المنطقة، والتي لا تحمل لوحات خاصة بكل مدينة. كما منع مجلس أخترين، على سبيل المثال، الدراجات النارية من الدخول إلى بعض المناطق، إلى جانب منع مبيت الشاحنات ضمن الشوارع الرئيسية والمهمة في المدينة، وأمام المديريات والمساجد والمؤسسات. كما أعلن المجلس المحلي في إعزاز بريف حلب السوق التجاري منطقة أمنية، ومنع مرور أية آلية لا تخضع للتفتيش. كما أنهى المجلس المحلي في صوران شمال شرقي حلب تركيب كاميرات المراقبة على الطرق والشوارع الرئيسية للبلدة.
ورأى ناشطون أن هذه الإجراءات، والتي لا تطبق أصلاً بشكل كامل، ليست كافية للحد من التفجيرات، مؤكدين الحاجة إلى التشدد على الحواجز، وضبط السيارات العسكرية خصوصاً، وتسجيلها ووضع أرقام لها وربطها بإدارة المواصلات، إضافة إلى ضرورة تفعيل أنظمة المراقبة بالكاميرات، ومنع الدراجات النارية غير المسجلة من الدخول إلى مناطقهم، خصوصاً الأسواق، فضلاً عن ضرورة وجود تنسيق بين المجالس المحلية و”الجيش الوطني” والقوى الأمنية، وتزويد عناصر الحواجز بالمعدات الضرورية للكشف عن المتفجرات.
المصدر: العربي الجديد