الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال في عقيدة أمنية

رندة حيدر

الاعتراف الإسرائيلي باستقلال أرض الصومال في هذا التوقيت بالذات، وقبل يومَيْن من اجتماع الرئيس الأميركي ترامب مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، ليس مجرّد خطوة دبلوماسية، بل يدخل (كما يصفه مُحلّلون إسرائيليون) ضمن عقيدة أمنية إسرائيلية جديدة تتخلّى فيها إسرائيل عن المفهوم القديم لسياستها حيال دول الإقليم، الذي يقوم على الاحتماء بأسوار عالية تقيمها من حولها وأنظمة دفاعية، إلى سياسة معاكسة تسعى إلى التحوّل إلى دولة مركزية، من خلال إنشاء تحالفات مع دول بعيدة عن حدودها، عابرة للقارّات.
تستند هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، وفق التحليلات الإسرائيلية، إلى أربع ركائز من التحالفات: التحالف مع الهند شرقاً، ومع إثيوبيا جنوباً، وأذربيجان في الشمال، واليونان وقبرص من الغرب، فتصبح إسرائيل لاعباً مركزياً يملك ما يكفي من القوة من أجل ترسيخ نفوذه وحماية مصالحه، وأيضاً بصورة أساسية من أجل مواجهة توسّع النفوذ التركي الذي استغلّ في السنوات الماضية الفراغ الحاصل في المنطقة جرّاء تراجع النفوذ الأميركي عموماً، والفوضى السياسية، من أجل إقامة قواعد عسكرية واقتصادية في ليبيا والصومال، وأيضاً إحكام سيطرته على سورية، ناهيك عن محاولات أنقرة لعب دور في “اليوم التالي” في غزّة، من خلال مشاركتها في قوات حفظ الاستقرار.
كشفت تقارير إسرائيلية وجودَ نوعٍ من التعاون بين إسرائيل والإمارات في أرض الصومال، وتحدّثت عن استثمار الأخيرة نحو 440 مليون دولار في تطوير ميناء بربرة
ضمن هذه الأجواء، تتابع إسرائيل من كثب، وبكثير من القلق، تعاظم النفوذ التركي في القرن الأفريقي، خصوصاً في الصومال، الذي زاره الرئيس التركي أردوغان في 2011 وقدّم مساعدة إنسانية سخية. وتفيد تقارير إسرائيلية بأن في الصومال أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج الأراضي التركية، وأكبر سفارة لها. ومنذ 2017، درّبت تركيا أكثر من 15 ألف جندي صومالي، بالإضافة إلى الدورات المُخصَّصة لكبار الضبّاط، والمدارس الكثيرة التي أقامتها هناك، كما تدير شركة تركية ميناء مقديشو والمطار الدولي، وأخيراً أقامت تركيا قاعدة لاختبار الصواريخ الباليستية. ذلك كلّه حوّل الصومال إلى “محمية تركية”، وفق وصف المحلل السياسي في “هآرتس” تسفي برئيل، الذي رأى أن تركيا تستغلّ استثماراتها في الصومال ومساعدتها العسكرية لتحقيق أهداف سياسية، وتستخدم الصومال رأسَ جسرٍ للعبور إلى دول أفريقية أخرى، وهي تنتهج سياسة صارمة ضدّ “أرض الصومال” التي أعلنت انفصالها في مطلع التسعينيّات، من دون أن تعترف بها أي دولة، حتى جاء الاعتراف الإسرائيلي أخيراً.
قد يكون من أهم أهداف الاعتراف الإسرائيلي باستقلال أرض الصومال التصدّي للوجود التركي المتعاظم هناك، وفي القرن الأفريقي عموماً. وأيضاً، أن يكون لإسرائيل موطئ قدم في هذا البلد الذي يشكّل نافذة على المحيط الهندي وخليج عدن. وقد ذهب إسرائيليون إلى ما هو أبعد، وافترضوا أن إسرائيل يمكن أن تستخدم أرض الصومال “قاعدة” أمامية لمهاجمة الحوثيين.
لكن هذا الاعتراف الإسرائيلي يأتي ضمن صورة أكثر تعقيداً، فقد كشفت تقارير إسرائيلية وجودَ نوعٍ من التعاون بين إسرائيل والإمارات في أرض الصومال، وتحدّثت عن استثمار الأخيرة نحو 440 مليون دولار في تطوير ميناء بربرة، كما أقامت قاعدة عسكرية هناك، واستثمرت في قطاعات إنتاج وتجارة متنوّعة في هذه الدولة غير المُعترف بها. وفي رأي أكثر من محلل إسرائيلي، تعتبر أبوظبي أرض الصومال محطّة استراتيجية حيوية، وقد تعزّزت أهميتها بعد فشل الإمارات في الحصول على حقوق إدارة ميناء جيبوتي وتشغيله، وهي ليست الدولة الوحيدة التي ترى ذلك.
ضمن هذا النسيج الاستراتيجي الذي تبنيه الإمارات حول القرن الأفريقي، تحتلّ إسرائيل دوراً غير هامشي. ووفق تقارير أجنبية (قبل نحو عام)، تفاوضت الإمارات مع “أرض الصومال” بهدف السماح لإسرائيل بإقامة قاعدة عسكرية هناك أيضاً، في مقابل اعتراف إسرائيلي باستقلالها. وهناك تقديرات إسرائيلية بأن من ضمن صفقة الاعتراف بأرض الصومال وعداً بالحصول على اعتراف من الولايات المتحدة.
تخترع إسرائيل اليوم عدوّاً جديداً – قديماً هو توسّع النفوذ التركي، وتخوض معه صراعاً لا هوادة فيه
مع الاعتراف الإسرائيلي باستقلال أرض الصومال، يكون الصراع بين أنقرة وتل أبيب على النفوذ في المنطقة قد ارتفع درجة أخرى، لا سيّما مع محاولات إسرائيل الحثيثة تقويض نظام الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تعتبره “أُلعوبة” في يد أنقرة، مع المحاولات الإسرائيلية لمنع تركيا من الانخراط في عملية إعادة إعمار قطاع غزّة، والحؤول دون مشاركتها في قوات حفظ الاستقرار.
نشأت دولة إسرائيل على فكرة “دولة صغيرة محاطة بالأعداء”، يتكشّف اليوم أنها قوة عسكرية طاغية ومستبدّة، تخوض حرب إبادة ضدّ الفلسطينيين في غزّة، وتعمل بكل الطرائق للاستيلاء على مزيد من أراضي الضفة الغربية، بواسطة أعمال البلطجة للمستوطنين اليهود وسياسة الضمّ الزاحف التي تمارسها. ونراها تتدخّل في الجنوب السوري، وتحرّض الدروز على الانفصال عن الدولة السورية الجديدة، وتفرض على لبنان أن يعيش تحت التهديد الدائم بحرب إسرائيلية وشيكة. وفي كل مرّة، تخترع عدوّاً يشكّل تهديداً وجودياً، وهي اليوم اخترعت عدوّاً جديداً – قديماً هو توسّع النفوذ التركي، وتخوض معه صراعاً لا هوادة فيه، وخطوتها أخيراً إزاء أرض الصومال تدخل ضمن هذا الإطار.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى