مذكرات المناضل عمر حسين حرب (أبو حسين) الحلقة التاسعة – ما بعد عبد الناصر: اعتقال الناصريين وتحوّلات المرحلة

جمال حرب

شكّل رحيل الزعيم جمال عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970 لحظةً مفصلية في مسار الحركة القومية العربية عمومًا، وفي مسيرتنا النضالية على وجه الخصوص. لم يكن الحدث مجرّد غياب قائد، بل مثّل نهاية مرحلة كاملة وبداية مرحلة شديدة التعقيد. شعرنا يومها أنّنا فقدنا السقف السياسي والمعنوي الذي كان يحمي المشروع القومي العربي، وبدأ القلق يتسلّل إلى صفوفنا مع المؤشرات الأولى على التوجّه الجديد الذي اتّخذه أنور السادات، والذي بدا واضحًا أنّه يسعى إلى تفكيك التيار الناصري من الداخل، سياسيًا وتنظيميًا.
لم تمضِ فترة قصيرة حتى تعرّضت القيادات الناصرية للسجن ( نائب رئيس الجمهورية علي صبري، وزير الداخلية شعراوي جمعة، وزير الحربية محمد فوزي، سكرتير عبد الناصر سامي شرف، نائب في البرلمان ضياء الدين
داوود،مدير المخابرات امين هويدي، نائب الرئيس حسين الشافعي) وبعد ايم قليلة تم اعنقال ( مفوّض القيادة المصرية فتحي ديب، إلى جانب عدد من القيادات والكوادر الطليعية. كما جرى تجميد العمل التنظيمي للطليعة في عدد من المناطق، لا استسلامًا، بل حرصًا على السلامة التنظيمية وحماية الكوادر. وزاد من خطورة الوضع علمُنا بأن السفارة المصرية في بيروت كانت تطّلع على بعض المراسلات بيننا وبين القاهرة، الأمر الذي فرض علينا اعتماد أعلى درجات الحذر في العمل والتنظيم.
في تلك المرحلة، دخلت الحركة الناصرية والطليعة العربية طورًا بالغ الحساسية، طغت عليه الملاحقة والتضييق، ومحاولات الاحتواء أو الإقصاء. ووجدنا أنفسنا أمام واقع سياسي جديد، تقلّصت فيه المساحات العلنية للعمل، وازدادت فيه الحاجة إلى إعادة تنظيم الصفوف، وحماية الكوادر، والحفاظ على الحدّ الأدنى من الفعل السياسي والنقابي والاجتماعي، رغم الإمكانات المحدودة والضغوط المتزايدة.
في ظل هذه الظروف، استمرّ العمل السرّي للطليعة العربية في إدارة القواعد التنظيمية والحفاظ على التواصل الداخلي. أمّا العمل العلني في لبنان، فكان يتمّ تحت غطاء الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي وفّر لنا هامش حركة سياسيًا وإعلاميًا، وحمى الكوادر من الملاحقة المباشرة. لم تكن هذه الازدواجية بين السرّي والعلني ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة فرضتها طبيعة المرحلة وتعقيداتها.
لبنان في قلب التحوّلات
في لبنان، لم تكن التحديات أقل حدّة. فقد انعكست التحوّلات الإقليمية مباشرة على الواقع الداخلي، حيث تصاعدت التناقضات السياسية والطائفية، وبدأت مؤشرات الانقسام العميق تطفو إلى السطح. وفي هذا المناخ، انصبّ عملنا على تثبيت الحضور التنظيمي، والدفاع عن خيار العروبة، والحفاظ على علاقة متينة مع القواعد الشعبية، ولا سيّما في المناطق الطرفية التي كانت أكثر عرضة للتهميش والاستقطاب.
يقول أبو حسين عمر:
«في لبنان، راقبنا هذه التطورات بقلق بالغ. كنا ندرك أن ما يجري في مصر لن يبقى محصورًا داخل حدودها. توقّف الدعم السياسي، وتراجعت القنوات التنظيمية، وأصبح العمل الطليعي محاصرًا بالأسئلة أكثر مما هو محاصر بالأجهزة.»
ويضيف:
«لم نُبلّغ رسميًا بحلّ الطليعة أو إلغائها، لكن الواقع فرض تجميدًا فعليًا للعمل في العديد من المواقع. ومع ذلك، لم يكن هذا التجميد استسلامًا، بل محاولة للحفاظ على ما تبقّى من التنظيم ومن الروح النضالية، بانتظار اتضاح المشهد.»
بعد رحيل عبد الناصر، جرى التواصل مع القيادة الليبية، التي دعت عام 1973 إلى لقاء جامع ضمّ مختلف التيارات الناصرية في الوطن العربي. ومن لبنان شاركت التنظيمات التالية:
شباب البقاع الناصري
وحدة القوى الناصرية
وحدة النضال العربي
المرابطون
اتحاد قوى الشعب العامل
أفضى هذا اللقاء إلى نقاشات معمّقة حول مستقبل العمل الناصري، وبرزت فكرة اندماج عدد من التنظيمات في إطار الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو ما تُوّج بالإعلان الرسمي في 15 كانون الثاني/يناير 1974، تزامنًا مع ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر.
وضمّ الاتحاد حينها:
شباب البقاع الناصري
رابطة الطلبة العرب الوحدويين الناصريين
وحدة القوى الناصرية
وحدة النضال العربي
حزب الاتحاد الاشتراكي العربي
في المقابل، تخلّف المرابطون واتحاد قوى الشعب العامل عن الانضمام، إذ فضّلت بعض القوى الحفاظ على استقلاليتها التنظيمية، خشية الذوبان الكامل في الهيكلية الجديدة.
تحوّل مصر وانعكاسه القومي
يشير أبو حسين إلى أنّ مصر انتقلت تدريجيًا من خطاب الصراع الشامل مع العدو الإسرائيلي إلى منطق «الخطوة خطوة»، ثم إلى إعادة تموضع إقليمي ودولي، وهو ما انعكس لاحقًا على مجمل الحركة القومية العربية.
«شعرنا أنّ المشروع الذي حلمنا به لم يتفكك بهزيمة عسكرية مباشرة، بل بانقلاب سياسي من الداخل.»
ومع ذلك، ظلّ الإيمان بالقضية والعروبة حاضرًا:
«تعلّمنا أن التنظيم قد يُضرب، وأن القيادات قد تُعتقل، لكن الفكرة لا تُعتقل، حتى وإن دخلت في سبات عميق.»
يؤكّد أبو حسين عمر أنّ الطليعة العربية نجحت، رغم كل الظروف، في تكوين جيل كامل من القيادات القومية الناصرية. فقد بدأ العمل مع هؤلاء الشباب في سنّ مبكرة، معظمهم طلاب جامعات أو خرّيجين جدد، جرى استقطابهم وتثقيفهم سياسيًا وتنظيميًا على أسس قومية، جمعت بين الوعي النظري والانخراط العملي في الشأن العام.
«هؤلاء تحوّلوا لاحقًا إلى كوادر وقيادات في بلدانهم، وبعضهم أصبح مفكّرًا ومرجعية فكرية وتنظيمية، اضافة الى العديد من الباحثين والمفكرين الذين آمنوا بالتجربة امثال عبد الله الريماوي، يحيى الجمل، خير الدين حسيب، صبحي عبد الحميد، أديب الجادر، وغيرهم.»
على الصعيد اللبناني، شهد عام 1973 أيضًا دعوة ليبية للفصائل الناصرية، إلى جانب شخصيات ناصرية من مختلف الأقطار العربية. وتمثّلت الإيجابية الأبرز لهذا اللقاء في فتح حوارات معمّقة حول التجربة الناصرية، وأسباب الانتكاسات، وآفاق العمل القومي في المرحلة الجديدة.
يقول أبو حسين عمر حرب:
«رغم الحماسة التي رافقت ولادة الاتحاد الاشتراكي العربي، ظلّ كل فريق حريصًا على عدم الذوبان الكامل في الهيكلية الجديدة.»
وكان واضحًا أنّ الخبرة التنظيمية المتراكمة للطليعة العربية جعلتها الأكثر قدرة على الإمساك بمفاصل العمل، ما أثار خشية بعض القوى من فقدان السيطرة على تنظيماتها وقواعدها. وإلى جانب هذه الهواجس الداخلية، لعب الدور السلبي الذي مارسته حركة فتح في تلك المرحلة عاملًا إضافيًا في تعقيد المشهد، وأدّى إلى تراجع بعض الفصائل عن موافقتها المبدئية، وإعلان انفصالها التنظيمي مع الاحتفاظ بالاسم.
نهاية مرحلة وبداية أخرى
مع تصاعد الأحداث وانزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية اللبنانية، دخل لبنان مرحلة مفصلية فرضت تحوّلًا جذريًا في طبيعة العمل السياسي والنضالي. فقد انتقل نشاط معظم القوى الوطنية، في تلك المرحلة، من الإطارين السياسي والجماهيري إلى المجال العسكري، في مواجهة ما كان يُوصَف آنذاك بالمشاريع التي تهدّد وحدة البلاد وتوازنها الوطني.
في هذا السياق، وجدنا أنفسنا، كتنظيم، منخرطين بشكل مباشر في العمل العسكري، لا بوصفه خيارًا مسبقًا، بل كواقع فرضته ظروف المرحلة وحدّة الصراع. وقد استتبع ذلك اعتماد أسلوب عمل جديد، مختلفًا في أدواته وتنظيمه وإيقاعه، يتلاءم مع متطلبات المرحلة، ويعيد ترتيب الأولويات بما يخدم الدفاع عن الخيار الوطني والحفاظ على وحدة لبنان.
ويختم أبو حسين:
«واصل فرع الطليعة العربية في لبنان مسيرته، معتمدًا اسم الاتحاد الاشتراكي العربي كغطاء سياسي علني، إلى جانب الغطاء الطلابي المتمثّل برابطة الطلبة العرب الوحدويين الناصريين، محافظًا على خطّه القومي والتنظيمي، رغم كل تعقيدات المرحلة.»
في الحلقة العاشرة، سننتقل إلى تناول بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، وظروف اندلاعها، وكيف جرى الانخراط الفعلي في العمل العسكري، والتحوّل العميق الذي فرضته تلك المرحلة على أسلوب العمل ومسار النضال.
سيرة رجل عاش من أجل وطن لا من أجل الأضواء.

المصدر: صفحة جمال حرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى