
ركزت السلطة السورية الجديدة، في احتفالاتها بالذكرى الأولى لإسقاط النظام البائد، على ما اعتبرته نجاحاتها الفائقة خلال فترة قصيرة: مكاسب دبلوماسية كبيرة عربياً ودولياً، ورفع العقوبات، وتوقيع اتفاقات استثمارية ضخمة. واعتبرت الاستجابة الشعبية لدعوتها السوريين إلى الاحتفال بالذكرى، ونزول أعداد كبيرة إلى الساحات، استفتاءً شعبياً وتأكيداً لشرعيتها، علماً أن الفترة المذكورة شابتها سلبيات كبيرة وخطيرة، في مقدّمتها ارتكاب مجازر بحقّ العلويين والموحّدين الدروز، وتوجّه السلطة إلى تثبيت نزعة فئوية ومركزية، ما قاد إلى قطيعة مع الطائفتَيْن المذكورتَيْن، وإلى حالة شدٍّ وإرخاء مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تجلّت في عدم تنفيذ بنود اتفاق 10 مارس (2025)، ما حوّل البلاد إلى جزر منفصلة ومتنافرة في تهديد لوحدتها واستقلالها.
المفارقة أن الإعلان الدستوري لم يمنح الرئيس حقّ إصدار مراسيم، بينما جرى التوسّع بالمراسيم فعلاً
اتخذت السلطة السورية الجديدة خلال عامها الأول مجموعةَ قرارات سياسية وعسكرية وإدارية أشارت إلى توجّهاتها وخياراتها السياسية، وإلى النظام الذي تسعى إلى إقامته. وقد تجسّد ذلك في الإعلان الدستوري المؤقّت الذي حسم طبيعة النظام السياسي المُستهدَف: نظام رئاسي ومركزي، ومنح الرئيس المؤقّت صلاحيات تنفيذية شبه مطلقة تشمل: تعيين الحكومة، وتعيين كبار الموظّفين وإقالتهم، والمصادقة على المعاهدات الثنائية والدولية، وحرمان مجلس الشعب من صلاحية عزل الرئيس، أو التصويت على منح الثقة للوزراء أو سحبها، أو فرض رقابة فعّالة على السلطة التنفيذية. كما نصّ على تشكيل لجنة عليا تختار أعضاء مجلس الشعب وتشرف على انتخاب ثلثيهم عبر هيئات فرعية، ويعيّن الرئيس الثلث المتبقّي. ومنح الرئيس صلاحيات إعلان الحرب والتعبئة العامة، وإعلان حالة الطوارئ استناداً إلى موافقة مجلس الأمن القومي الذي يرأسه، من دون اشتراط موافقة مجلس الشعب. كما شملت الصلاحيات تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا، و”ترسيخ القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة”. وهي صلاحيات تنطوي على تعارض تام مع فحوى المادة الثانية من الإعلان الدستوري نفسه التي تقضي بالفصل بين السلطات.
استثمر الرئيس المؤقّت هذه الصلاحيات في تعزيز سيطرته على السلطة والدولة معاً، من خلال إضافة صلاحيات جديدة لنفسه عبر تشكيل هيئات وأطر إدارية وربطها بالرئاسة: بدءاً من صندوق التنمية السوري (الصندوق السيادي السوري) الذي يتمتّع باستقلال مالي ويتبع لرئاسة الجمهورية إدارياً، مروراً بإحداث الهيئة العامّة للمنافذ والجمارك بمرسوم ومنحها استقلالاً مالياً وإدارياً وربطها برئاسة الجمهورية مباشرةً، وصولاً إلى اللجنة الوطنية للاستيراد والتصدير التي يرأسها رئيس الهيئة العامة للمنافذ والجمارك، ما يعني تبعيتها للرئاسة، وهيئة الاستثمار السورية، المستقلّة مالياً وإدارياً، ويرأسها حازم الشرع. وذلك كلّه بمراسيم، علماً أن الإعلان الدستوري العتيد لم يمنح الرئيس المؤقّت حقّ إصدار مراسيم.
إضافة إلى ذلك، جرى تعيين مسؤولين في إدارات حيوية على أساس الولاء، فمعظم من عُيّنوا في مواقع حسّاسة هم من النواة الصلبة لجبهة النصرة، وللرئيس أحمد لشرع بيعة في رقابهم. كما عُيّن أبناءٌ لكبار قادة جماعة الإخوان المسلمين وكوادرها من الجناح الشامي الموالي لعصام العطّار، الذين تربّوا في دول الخليج وتبنّوا السلفية، وشكّلوا في بداية ثورة الحرية والكرامة حركة أحرار الشام. كما جرى تكليف أشخاص بإدارة الملفّ المالي الحسّاس، من دون أن يكون لهذا التكليف أساس قانوني، مع تجاهل كوادر وطنية ذات خبرة من خارج دائرته الضيقة.
قادت الممارسات الفئوية والاستئثارية إلى مأزق، وظهرت في الشروط الأميركية الثمانية لإلغاء قانون قيصر
ويترافق ذلك مع العمل على توسيع دائرة السيطرة على المجتمع عبر تأطيره من خلال مؤسّسات سياسية: الأمانة العامة للشؤون السياسية، ومديرية إعداد وتطوير القادة، ودائرة إعداد القيادات النسائية التابعة لها وتطويرها. تُخضِع “المديرية” الشباب لدورات تدريبية في النظرية السياسية، والنظم السياسية، والعلاقات الدولية، والسياسات العامة، والإدارة العامة، وغيرها، من أجل تأهيلهم لتسلّم مناصبَ سياسيةٍ ودبلوماسية. وكانت السلطة قد رشّحت عدداً من محاسيبها سفراء في دول عربية وتركيا، لكن هذه الدول رفضتهم لأنهم (وفق سيرهم الذاتية) لا يملكون مؤهّلات للعمل سفراء، ما وضع السلطة في موقف حرج. في حين تُخضع “الدائرة” الشابّات لدورات تدريبية لاكتساب خبرات تتعلّق بـ”الكاريزما والتأثير”، و”التفكير الاستراتيجي”، و”عادات القادة”، و”الإدارة والتكنولوجيا”، و”مستقبل العمل”، وتعلم اللغة الإنكليزية، من أجل بناء جيل جديد من القائدات القادرات على صناعة التغيير والمساهمة الفعّالة في التنمية الوطنية، وفق إعلان “الدائرة” في منشور دعوة الشابّات إلى الانضمام إليها. وواضح أن الهدف (غير المُعلَن) من تأسيس الأمانة العامة للشؤون السياسية هو تشكيل حزب سياسي يخترق المجتمع ويسيطر على الفضاء السياسي قبل صدور قانونٍ لتأسيس الأحزاب، الذي سيتأخّر صدوره بذرائع شتى لإفساح المجال لـ”الأمانة” لإنجاز مهمتها. أمّا بخصوص تشكيل “المديرية” و”الدائرة”، فتبدوان أطراً وسيطةً لتخريج قادة سياسيين من الذكور والإناث بنيةً تحتيةً سياسيةً للحزب العتيد.
والتناقض صارخ بين الثقافة السلفية التي تُلقّنها السلطة للعسكريين والأمنيين ومواقفها المُعلَنة الموجّهة نحو الخارج، ما يعني أنها تمارس ازدواجيةً ممنهجةً: سلفية في الداخل وانفتاحاً ظاهرياً لإرضاء الخارج. تشير المعطيات المذكورة أعلاه إلى أن السلطة السورية الجديدة ليست في خضمّ بناء نظام مركزي ورئاسي فقط، بل في خضمّ بناء “نظام الرجل الواحد”.
ويقود توجّه السلطة الفئوي والتمييزي وممارساتها الاستئثارية (لا تتعارض مع مواقف قوى سياسية واجتماعية سورية فقط، بل ومع طلبات الدول الغربية التي تنشد السلطة رضاها) إلى مأزق عميق. وقد عبّرت عنها الشروط الأميركية الثمانية ضمن قرار إلغاء قانون قيصر: محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإبعاد المقاتلين الأجانب من المناصب الأمنية، وحماية حقوق الأقليات وتمثيلها العادل، والامتناع عن الأعمال العسكرية غير المُبرَّرة (أميركياً) ضدّ دول الجوار، ومنها إسرائيل، وتنفيذ اتفاق 10 مارس (2025) مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سياسياً وأمنياً، ومكافحة غسل الأموال والأنشطة المتعلّقة بالإرهاب، ومحاكمة المتورّطين في الانتهاكات المرتكبة منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ومكافحة المخدّرات واتخاذ خطوات ملموسة لوقف إنتاجها وتهريبها.
عدم إيجاد مخرج سياسي مرضٍ للاشتباك مع الطائفتَيْن العلوية والدرزية، وعدم الاتفاق مع “قسد” على تفسير بنود اتفاق 10 مارس بما يسمح بالبدء بتنفيذها، سُيبقيان حالة عدم الاستقرار، مع احتمال وقوع مواجهات عسكرية وحصول انتهاكات ومجازر جديدة. وهو ما يرتّب عرقلة دخول الاستثمارات إلى البلاد، ومواجهة موجات غضب شعبي نتيجة عجز السلطة عن حلّ المشكلات الخدمية، وتوفير فرص عمل، وتحسين دخل المواطنين برفع الرواتب بما يتناسب مع تكلفة المعيشة، وإطلاق برامج إعادة الإعمار. ويستدعي حلّ الخلاف مع الطائفتَيْن العلوية والدرزية البدء بحلّ القضايا الساخنة: من المعتقلين والمخطوفين من الرجال والنساء، إلى جبر ضرر الذين لحقت بهم خسائر في الأرواح والأملاك، بوصفه مدخلاً لبحثٍ مشتركٍ عن صيغة لمشاركتهم في السلطة ومساهمتهم في بناء الدولة. وكان رئيس السلطة أحمد الشرع قد أكّد لوفد من السوريين العلويين من محافظتي اللاذقية وطرطوس “أن سورية تدخل مرحلةً جديدةً من إعادة بناء الدولة على أساس الاستقرار ومشاركة الشعب… وأن الدولة لا تحمل أيَّ نزعات إقصائية أو ثأرية تجاه أيَّ مكوّن… وأن سورية دولة مواطنة تضمن العدالة وتحفظ حقوق جميع السوريين”. كلام جميل، لكنّه بعيد من الواقع، وربّما قيل للتناغم مع مطالب الإدارة الأميركية التي وضعتها، لا ثمناً لإلغاء قانون قيصر فقط، بل لإبقاء السلطة في دائرة المراقبة والاختبار.
من خطوات التناغم الداخلي: استكمال تشكيل مجلس الشعب سريعاً ومنحه حقّ مراجعة الإعلان الدستوري المؤقت
أمّا دمج “قسد” في الجيش الوليد، فيستدعي البدء بتحديد طبيعة الجيش: أهو جيش مفتوح للسوريين كلّهم أم جيش سُنّي؟ جيش عقائدي أم جيش وطني جامع؟ قبل مناقشة صيغة الدمج؛ لأن تحديد طبيعة الجيش يُسهّل الاتفاق على صيغة الدمج، خاصّةً وقد بات دمج “قسد” ضرورة ميدانية بعد فشل قوات الأمن العام في حماية الجنود الأميركيين في تدمر، كي تكون جزءاً من عملية محاربة “داعش” في البادية السورية، وذلك على الضدّ ممّا خطّطت له السلطة السورية، التي تصوّرت أن انضمامها إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب سيسحب ورقة محاربة “داعش” من “قسد”.
ويقتضي نجاح المرحلة الانتقالية وتوفير شروط الاستقرار أن تعيد السلطة السورية النظر في توجّهاتها وسياساتها بحيث تتناغم مع المطالب الأميركية (وهي مطالب تتطابق مع مطالب رفعها سوريون، لكنّها لم تجد للأسف آذاناً صاغية لدى السلطة) كي لا تعود واشنطن إلى فرض عقوبات جديدة، فينقطع الطريق على الاستثمارات، وتزيد وطأة المشكلات المعيشية والخدمية على كاهل المواطنين، فتدفعهم الحاجة إلى الصدام مع السلطة. وهذا التناغم يستدعي تغيير طريقة التعاطي مع الشؤون الداخلية: بدءاً باستكمال تشكيل مجلس الشعب من دون إبطاء، ومنحه حقّ إعادة النظر في الإعلان الدستوري المؤقّت، وإصدار قانون أحزاب، وإجراء حوار وطني حول طبيعة النظام المُستهدَف: مركزي أم لا مركزي؟
المصدر: العربي الجديد






