جدالات الانتخابات والمشاركة والجدوى في مصر

عمر سمير

انطلقت قبل شهرين انتخابات مجلس النواب في مصر، وكانت الحكومة وعرّابوها يبشّرون بانتخابات تاريخية، فخرجت تاريخية فعلاً من حيث النتائج، سواء فيما جرى من تزوير تاريخي وشراء أصوات علني بشكل غير مسبوق حتى في انتخابات العام 2010، قبل ثورة يناير بأيام، والتي جرى تزويرها بدون حرفية لصالح بعض أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي (المنحل لاحقاً) على حساب نواب آخرين من الحزب نفسه، كانوا يترشّحون بصفة “مستقلين”، لعدم رضاهم على عملية توزيع الأدوار والمزايا في مصر حسني مبارك.
منذ ثورة يناير (2011)، بل ربما في تاريخها لم تشهد مصر انتخابات أسوأ من التي جرت في الشهرين الماضيين، حتى إن الرئيس عبد الفتاح السيسي اعترض على ما جرى من تزوير، وكأنه لا يريد أن تخرج العملية بهذا الشكل، بل أيد إلغاء نتائج بعض الدوائر الانتخابية وإعادة النظر في العملية الانتخابية، فيما بدا كما لو أنه مناضل من المؤسّسة الدولية للديمقراطية.
تحدثت بعض الصفحات، مثل “الموقف المصري”، عن التنازع بين عدة جهات سيادية على إدارة المشهد الانتخابي، بداية من ترتيبها بقائمة واحدة تقريباً تتنافس مع نفسها، إلى إدارة العملية الدعائية عبر قنوات تابعة لجهات مختلفة بتناقضات مصالح بدت واضحة بمنع بعض المرشّحين من أحزاب بعينها من الظهور على القنوات والوسائل الإعلامية التي تديرها تلك الأجهزة، وكذلك عن منع مرشّحين من التيار المدني الرديف لترتيبات 3 يوليو (2013)، والذين لم يخرجوا كثيراً عن عباءة النظام، وإنما يودّون المشاركة بالحد الأدنى الذي يتيحه النظام. مع ذلك، جرى منعهم بطرق مثيرة للسخرية، حتى إن بعضهم منع لأسباب واهية، كعدم أداء الخدمة العسكرية، بينما كان مرشّحاً في انتخابات سابقة في ظل النظام نفسه، ونجح مرّة واستبعد أخرى، فيما لجأ آخرون إلى القضاء فقط لإثبات حقهم في دخول الانتخابات بعد استبعاداتٍ واهية أيضاً.
خرجت النتائج في دوائر عديدة من دون حسم المقاعد الفردية، ومع تزوير كبير في بعضها، وأيضاً بمشكلاتٍ في القوائم التي هي في الحقيقة قائمة واحدة تنافس نفسها
خرجت النتائج في دوائر عديدة من دون حسم المقاعد الفردية، ومع تزوير كبير في بعضها، وأيضاً بمشكلاتٍ في القوائم التي هي في الحقيقة قائمة واحدة تنافس نفسها، حيث ضمّت “القائمة الوطنية من أجل مصر” 14 حزباً من أحزاب الموالاة مع بعض أحزاب المعارضة هذه المرّة، إلى جانب تنسيقيّة شباب الأحزاب والسياسيين، فيما يراد القول إنها أتت بين أحزاب مختلفة التوجهات، إلا أن الأحزاب المحسوبة على المعارضة في “القائمة” هُمشت بمقاعد لصالح أحزاب الموالاة (مستقبل وطن – حماة الوطن – الجبهة الوطنية – الشعب الجمهوري)، وكلها أحزاب سيطر العسكريون والأمنيون ورجال الأعمال على الترشّح على مقاعدها بالقائمة. سيطرت أحزاب الموالاة الأربعة على حوالي 81.6% من مقاعد القائمة الوطنية بعدد 232 مقعداً: 120 مقعداً (42.3%) لـ “مستقبل وطن، و54 مقعداً (19%) لـ “حماة الوطن”، و43 مقعداً (15.1%) لـ “الجبهة الوطنية”، و15 مقعداً (5.2%) لـ “الشعب الجمهوري”، بحسب المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.
ولا يمكن اعتبار ما جرى من تدخّل الأجهزة في هندسة تشكيل القائمة الوطنية، إلا أنه يعكس أن البرلمان كان معدّاً سلفاً، من خلال سيطرة أحزاب الموالاة على الغالبية الساحقة من المقاعد، مع منح بعض المقاعد الرمزية لأحزاب المعارضة، وهو ما يُضعف دورها داخل المجلس وما يجعل المشهد أكثر عبثية أنه لم يسمح بتشكيل قوائم أخرى، حتى ولو بالتنسيق مع هذه الأجهزة، فضلاً عن أن يسمح للمعارضة بتشكيل قوائم أخرى. ومع ذلك، خرجت النتائج مخيبة لآمال الجميع، بما فيهم الرئاسة والموالاة والمعارضة، فلصالح من تدار تلك العملية الانتخابية وكيف؟
الصوت الانتخابي وصل إلى ما يعادل ألف جنيه في بعض المناطق
العجيب أنه جرى إلغاء دوائر عديدة، إن لم يكن أغلبها، حتى أصبحت مزحة، فمحافظة سوهاج على سبيل المثال كانت متصدّرة قرارات إلغاء النتائج بسبع دوائر من أصل ثمانٍ جرى إلغاؤها وإعادة الانتخابات فيها، وما جرى هناك هو التأثير المباشر للمال السياسي الناجم عن تجارة المخدّرات والسلاح والآثار وغسل الأموال في الانتخابات، وبحيث يشتري بعضهم نفوذاً وتتراكم تداخلات السلطة والثروة والقبلية الانتخابية، فيما يبدو أن المهزلة هذه المرّة تفوق انتخابات 2010 بمراحل، وبحيث جعلت مصريين يترحمون على أيام مبارك، قائلين “فين أيامك يا شاذلي؟” بحثاً عن شخصٍ مثل كمال الشاذلي الذي كان يهندس الانتخابات لنظام مبارك، وكأن المصريين لا يجدون بعد رحيله صنايعية انتخابات تستطيع هندسة المشهد بطريقة أقل عبثية.
ومن مظاهر العبث هذه المرّة أن الصوت الانتخابي وصل إلى ما يعادل ألف جنيه في بعض المناطق، وأن مرشّحين لم يستحوا من تصويرهم يوزعون نقوداً وجرى تصوير موظفين في وزارة الداخلية أبطالاً للمشهد بالسيطرة على تلك المشاهد ومتابعة أصحابها. ومن مظاهر تلك العبثية أيضاً ما تداوله مصريون أن ثمن المقعد البرلماني الواحد تجاوز 70 مليون جنيه أو ما يعادل مليون ونصف المليون دولار. وتساءل المصريون: لماذا يدفع هؤلاء كل هذا المال، مفترضين تحقيق مكاسب أكبر بكثير منه جرّاء شبكات المصالح التي يبنيها النواب في أثناء فتراتهم سواء مع رجال الدولة أو أصحاب الأعمال أو غيرها.
من مظاهر العبث أن تُشيد لجنة الانتخابات التي يفترض أنها مستقلة بقرار رئاسي وتوجيهات بإعادة النظر في الانتخابات التي حدثت فيها تجاوزات، فعن أي استقلاليةٍ نتحدّث. وكذلك من العبثيّة أيضاً أن يخرج وزير شؤون المجالس النيابية، وهو يفترض أنه قاضٍ ليشيد بهذه القرارات، بينما كان يفترض بهؤلاء التزام الصمت، أو إدارة انتخاباتٍ بطريقة أكثر احترافية لا تُحرج الرئاسة والنظام والدولة واللجنة نفسها.
لماذا لا يلغي النظام الانتخابات برمتها، وتوفر الدولة تلك النفقات الانتخابية وتستخدمها في شيء آخر قد ينفع الناس؟
عندما نتحدث في مصر عما تسمى “انتخابات”، ويحدث ما يوجه إليه الرئيس، وتحدث الإعادة، وتخرج علينا بنسب مشاركة لم تتعد 5,5% ممن لهم حق التصويت في بعض الدوائر، ويحصل مرشّحون على أقل من عشر ما تحصلوا عليه في الجولة الأولى من الانتخابات قبيل الإعادة، فإننا أمام أحد أكبر المهازل في التاريخ. ولا نظن أن بلداً أقامت انتخابات بنسبة مشاركة أكثر هزلية من تلك النسبة. وهنا تصبح تساؤلات الجدوى من الانتخابات برمتها أكثر مشروعية وأكثر منطقية من أي زمان ومكان، فنخرج من جدال الجدّية لجدال الجدوى في انتخاباتٍ فشلت في جولتها الأولى، وازدادت فشلاً في جولة الإعادة في إقناع الناخب العادي بأنها انتخابات.
وإذا كانت الحال كذلك، فعلينا أن نتساءل: لماذا لا يلغي النظام الانتخابات برمتها، وتوفر الدولة تلك النفقات الانتخابية وتستخدمها في شيء آخر قد ينفع الناس؟. يبدو هذا السؤال منطقياً اليوم أكثر من أي يوم مضى في ضوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي تمر بها بلاد تعيش على ديْن خارجي وداخلي تفاقم حتى أصبحت خدمة الديون وفوائدها أكبر كثيراً من قدرة البلاد على الإنفاق على الصحّة والتعليم والإسكان وبقية الخدمات العامة مجتمعة.
وإذا كانت مصر في مرحلة ممتدّة من التأجيل المتعمّد لأبسط الاستحقاقات الانتخابية، وهي انتخابات البلديات أو المحليات، والتي لم يجر إجراؤها منذ جرى حلها بعد ثورة يناير 2011 في مشهد غير موجود، حتى في الملكيات العربية، والتي يتمتّع المجتمع فيها بحكم محلي أفضل بكثير مما هو عليه الحال في مصر، فكيف تدير البلاد وحكومتها انتخابات برلمانية وكيف تهندسها وتخرُج بهذا الشكل؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى