ما قبل السياسة.. كيف صاغ التفاوت الثقافي والطبقي الانقسام السوري؟

وفاء علوش

لا يمكن فهم التباين الحاد في المواقف السياسية لدى السوريين اليوم بوصفه خلافاً فكرياً أو أيديولوجياً فحسب، بل هو انعكاس مباشر لتفاوتات عميقة في البنية الطبقية والثقافية للمجتمع، فالسوري الذي عاش عقوداً على هامش الاقتصاد، مثقلاً بهاجس العمل اليومي وتأمين الأساسيات، ينظر إلى الجدل السياسي بأنه رفاهية ليست في متناول الأيدي، في المقابل، يرى سوريون آخرون – أتيح لهم التعليم، والسفر، والاطلاع على تجارب سياسية مختلفة – السياسة باعتبارها مشروعاً لإعادة بناء الدولة وصياغة العقد الاجتماعي.
إن هذا التفاوت يخلق لغتين سياسيتين متوازيتين: لغة الخبز والأمان، ولغة الحقوق والمؤسسات، وبين هاتين اللغتين يتسع سوء الفهم، ويتحوّل الخلاف إلى قطيعة أخلاقية، حيث يتهم كل طرف الآخر بالجهل أو التعالي أو الانفصال عن الواقع.
إن إدراك هذا التفاوت شرط أساسي لأي حوار وطني جاد، فبناء رؤية سياسية جامعة لا يبدأ بتوحيد الشعارات، بل بالاعتراف بأن السوريين لم يعيشوا التجربة نفسها، ولم تُتح لهم الأدوات ذاتها لتخيل المستقبل، ومن دون هذا الاعتراف، ستبقى السياسة ساحة صدام بين تطلعات غير متكافئة، لا مشروعاً مشتركاً للخلاص.
إن اعتبار أن الانقسام السياسي السوري اليوم هو أيديولوجي فحسب يعفي البنية المجتمعية من مسؤوليتها، ويحوّل الصراع إلى مسألة وعي أو اختيار، بينما هو في جوهره نتاج طويل الأمد لتفاوتات عميقة في شروط العيش، وفي توزيع الفرص، وفي علاقة الأفراد بالدولة وبالسلطة وبالخوف.
لم تكن السياسة في الحالة السورية يوماً حقلاً نظرياً متكافئاً، لقد وُلدت داخل مجتمع غير متكافئ أصلًا، وتغذّت من فجواته، ثم انفجرت حين تلاشت قدرة النظام القائم على احتوائها بالقمع وحده، وإن ما نراه اليوم ليس فقط صراع مشاريع، بل صدام تجارب حياتية غير متشابهة، جرى التعامل معها طويلاً وكأنها تجربة واحدة.
فعلى سبيل المثال في الصراع الطائفي الذي يطفو اليوم على السطح، يبدو لي أن الصراع الحقيقي في سوريا هو صراع طبقي بالدرجة الأولى، صراع بين فئة نخبوية ترى في نفسها احتكاراً للمدنيّة وللحالة الحضارية التي تعتقد أنها وحدها القادرة على تمثيل سوريا، وتسعى – بوعي أو من دونه – إلى فرض وصاية سياسية وثقافية واجتماعية على الطبقة الشعبية، باعتبارها، من وجهة نظر هذه النخبة، غير مؤهلة، وأقل شأناً من أن تكون واجهة للبلاد كما يتخيلونها.
ولكن في هذا التصور، يُداس بسهولة على هوية السوريين البسطاء، وعلى حقهم في تخيّل سوريا على صورتهم هم، لا على صورة مُسبقة تُفرض عليهم من أعلى، يُطلب منهم أن يتشبهوا بنموذج لا يشبه حياتهم، ولا لغتهم، ولا مخاوفهم، ثم يُلامون إن رفضوا ذلك أو ارتابوا فيه.
وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي لطالما روّج لصورة سوريا الموحدة، فإن الواقع كان أقرب إلى فسيفساء غير متجانسة، إذ لم تعش جميع المناطق العلاقة نفسها مع الدولة، ولم تختبر المؤسسات بالطريقة ذاتها، ولم تُمنح الفرص نفسها في التعليم أو العمل أو التمثيل.
في المدن الكبرى مثلاً، ولا سيما دمشق وحلب قبل الحرب، نشأت شرائح اجتماعية تمتلك حداً من رأس المال الثقافي: تعليم أفضل، لغة أقرب للخطاب الرسمي، قدرة على التكيّف مع شروط السلطة، في المقابل، عاشت مناطق واسعة من الريف، والبادية، وأطراف الشمال السوري، حالة شبه دائمة من الإقصاء البنيوي، فالدولة هناك لم تكن حاضرة كمؤسسة خدمات، بل كجهاز أمني، أو سلطة جباية، أو غياب كامل يُعوّض بروابط ما قبل الدولة: العائلة، العشيرة، الجماعة المحلية، فشكّل هذا التفاوت أنماطاً مختلفة من الوعي، ومن فهم السياسة ذاتها.
يحيلنا هذا إلى استنتاج أن البيئات التي عاشت طويلاً على هامش التنمية، لم تكن ترى في السياسة رفاهية، بل خطراً، لأن الانخراط في الشأن العام قد يكلّف حياة، والاختلاف قد يعني النبذ أو الانتقام، وفي مثل هذه السياقات، يصبح الانتماء الضيق آلية حماية، وتتحول القوة إلى قيمة بحد ذاتها، لا لأنها مرغوبة أخلاقياً، بل لأنها ضرورية للبقاء.
إن ثقافة الريف أو البادية أو الشمال السوري ليست أكثر عنفًا بطبيعتها، بل أكثر التصاقاً بالواقع الخام، فحين يغيب القانون، تُستدعى القوة، وحين تغيب الدولة، تُبنى بدائلها البدائية، وعلى أن هذا المنطق الاجتماعي مفهوم بشكله البدائي، لكنه كثيراً ما يُقرأ من خارج سياقه بوصفه تخلفاً أو تطرفاً والأخطر أن هذا الحكم لا يبقى ثقافياً، بل يتحول سريعاً إلى موقف سياسي يترجم على أنه إقصاء، شيطنة، أو خوف متبادل.
في المقابل، طوّرت المدن الكبرى ثقافة سياسية أكثر تجريداً، لا لأنها أرقى أخلاقياً، بل لأنها عاشت مسافة أكبر عن العنف المباشر، حيث يكون الحديث عن الدولة المدنية، أو العقد الاجتماعي، أو الحريات العامة، مفهوماً للغاية في سياقات قانونية.
وهنا حريّ بنا التنويه أن رفض الفئات الأخرى لمثل هذه المفاهيم ليس لمشكلة فيها بحد ذاتها، بل في الطريقة التي قُدّمت بها، وبوصفها معياراً أخلاقياً يُقاس عليه قيمة الآخرين، لا بوصفها نتاج شروط تاريخية واجتماعية محددة، الأمر الذي جعل الخطاب المدني يتحول من أفق جامع محتمل، إلى أداة تمييز رمزي.
فحين يُخاطَب إنسان فقد بيته أو مصدر رزقه بلغة متعالية عن الديمقراطية أولاً، يشعر أن الخطاب لا يراه بعين الاعتبار، وحين تُختزل ثقافته في صورة نمطية، يشعر أن السياسة أداة قمع لا أكثر.
لم يخرج السوريون إلى الساحة السياسية من نقطة واحدة، خرج كلٌ منهم محمّلاً بتجربته، وبلغة كوّنها عبر سنوات من العيش غير المتكافئ، لكن بدل أن يُنظر إلى هذا التعدد بوصفه ثراءً، جرى التعامل معه كتهديد، وتحوّل الاختلاف الطبقي إلى خلاف ثقافي، ثم إلى صراع سياسي مفتوح، ولم يعد السؤال: كيف نبني دولة تتسع للجميع؟ بل: أي ثقافة يحق لها أن تمثل “سوريا الحقيقية”، لتصبح مسألة بناء الهوية صراعاً وسلاحاً إقصائياً.
في كثير من الأحيان، يُطلب من المجتمعات الأكثر هشاشة أن تتبنّى خطاباً لم تُمنح الأدوات اللازمة لبنائه، بينما يُنظر إلى مخاوفها بوصفها مبالغة أو تهديداً، وفي المقابل، تشعر شرائح أوسع تعليماً أو أكثر استقراراً بأن خطابها يُقابل بالرفض أو التشويه، من دون أن يُبذل جهد حقيقي لفهم موقعه الاجتماعي، فيتحول الحوار إلى مواجهة، وتضيع المسألة الأساسية في مهاترات ومواجهات قد يكون بعضها مؤذياً ومنفراً.
الخلل هنا ليس في السوريين أنفسهم، بقدر ما هو في المساحة الضيقة التي أُجبروا طويلاً على التفكير داخلها، بحيث لم تسمح بالاعتراف المتبادل، ولا ببناء ثقة عابرة للمناطق والطبقات، ومن دون هذا الاعتراف، يبقى أي حديث عن وحدة أو توافق أقرب إلى رغبة أخلاقية منه إلى مشروع قابل للتحقق.
في خضم هذا الانقسام الحاد، يكثر الحديث عن وحدة سوريا بوصفها مسألة جغرافية أو سياسية: وحدة الأراضي، وحدة القرار، وحدة السلطة، لكن هذا التركيز، على أهميته، يخفي سؤالاً أعمق لم يُحسم بعد: هل نحن أصلًا مجتمع موحّد؟
فالتوحّد، بمعناه الجوهري، لا يُقاس بعودة الخريطة إلى شكلها السابق، ولا بجلوس السوريين تحت مظلة سياسية واحدة، بل بقدرتهم على الاعتراف المتبادل، وعلى العيش ضمن عقد اجتماعي يعترف بتفاوت تجاربهم دون تحويلها إلى تراتبية أخلاقية. وحتى اليوم، لم يصل السوريون إلى هذا المستوى من التوحّد المجتمعي.
ما نعيشه ليس فقط انقساماً سياسياً، بل غياباً للثقة بين مكوّنات المجتمع نفسه، فكل جماعة تشعر أن الأخرى لا تراها، أو لا تفهمها، أو تحاكمها من موقع امتياز، في ظل هذا الشعور، تصبح أي دعوة للوحدة السياسية مجرّد شعار فارغ، بل قد تُستقبل كتهديد جديد، لا كأفق خلاص.
إن التوحّد المجتمعي لا يعني ذوبان الفوارق، ولا إنكار الاختلافات الثقافية بين الريف والمدينة، أو بين الشمال والجنوب، أو بين البادية والمراكز الحضرية، على العكس، إنه يفترض الاعتراف بهذه الفوارق بوصفها نتاجاً لتاريخ غير عادل، لا دليلاً على تفوّق أو دونية، وهو يفترض أيضاً قبول فكرة أن التجربة السورية ليست واحدة، وأن محاولة فرض سردية موحّدة بالقوة الرمزية أو السياسية لن تنتج سوى مزيد من الانقسام.
من دون هذا التوحّد المجتمعي، تبقى السياسة أداة صراع لا أداة تنظيم، وتبقى الدولة كياناً مفروضاً من فوق، لا إطاراً مشتركاً يُبنى من تحت، ويظل كل مشروع وطني مهدداً بالانهيار، لأنه لم يعالج ما هو أعمق من شكل الحكم: علاقة السوريين بعضهم بالآخر.
إن السعي إلى هذا النوع من التوحّد ليس مهمة سهلة ولا سريعة، هو مسار طويل يبدأ من تفكيك التعالي الثقافي، ومن إعادة الاعتبار للأصوات التي همّشتها البنية، ومن بناء لغة سياسية أقل ادّعاءً وأكثر تواضعاً، لغة لا تطلب من الناس أن يكونوا متشابهين، بل أن يكونوا شركاء في المصير، على الرغم من اختلافهم.
ربما لم يصل السوريون بعد إلى هذا المستوى من التوحّد، وربما لا يزال الطريق إليه محفوفاً بالشكوك والجراح، لكن إدراك أن الوحدة المجتمعية تسبق الوحدة السياسية، وأن العدالة تسبق الاستقرار، هو الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح، فالدول لا تُبنى فقط بالخرائط والدساتير، بل بثقة الناس ببعضهم، وبشعورهم أنهم مرئيون، ومسموعون، ومعترف بهم.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى