
في سانتياغو مع زوجته بعد فوزه في الانتخابات (14/12/2025 فرانس برس
عاشت تشيلي في السنوات الأخيرة مفارقة سياسية كبرى، فبينما شهدت، منذ عام 2019، موجة احتجاجات اجتماعية غير مسبوقة هدفت إلى القطيعة مع الإرث النيوليبرالي لدكتاتورية أوغستو بينوشيه (1973ـ 1990)، شهدت الساحة السياسية، في الوقت نفسه، صعوداً لافتاً لليمين المتطرّف وتنامياً واضحاً لمركزية قضايا الأمن، فحكومة غابرييل بوريك، المنتخبة عام 2021 على أساس برنامج للعدالة الاجتماعية، وجدت نفسها محاصَرة بين طموح بناء دولة اجتماعية وعودة نزعات سلطوية ظنّ جميع المتابعين أنها أصبحت من الماضي.
ولقد جاء صعود بوريك في إطار تطور سياسي اعتمد على جيل شاب منبثق من الحركة الطلابية لعام 2011، وينتمي إلى جيل سياسي كسر التوافق الذي طبع مرحلة الانتقال الديمقراطي في تشيلي، الانتقال الذي أبقى على جزء كبير من البنية المؤسّسية والاقتصادية التي أرستها الدكتاتورية العسكرية. وقد تجلّى هذا الانتقال المنقوص خصوصاً في الإبقاء على دستور 1980 وعلى نموذج الدولة القائمة على خصخصة الخدمات العامة. جاءت الحركة الطلابية، ثم انتفاضة 2019 الاجتماعية، لتفتح ثغرة في هذا النموذج عبر نقد شامل للنيوليبرالية وللطبقة السياسية المنبثقة عن مرحلة ما بعد الدكتاتورية، وحمّلتها مسؤولية عدم القطع مع الماضي.
عبّرت الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 عن سخط متراكم منذ عقود، فقد كشفت عمق اللامساواة في بلد يتمتع باستقرار اقتصادي نسبي، وأظهرت إنهاك النموذج السياسي الموروث عن تسعينيات القرن الماضي. وقد مثّل انتخاب بوريك في ديسمبر/ كانون الأول 2021، في مواجهة مرشّح اليمين المتطرّف، نهاية حقبة سياسية، فللمرّة الأولى منذ الانتقال الديمقراطي عام 1990، لم يصل أي مرشّح من الائتلافات التاريخية الحاكمة إلى الدور الثاني. وقد غذّى هذا الفوز أملًا بتغيير بنيوي عميق، تعزّز بأعمال الجمعية التأسيسية المكلّفة بصياغة دستور جديد يقطع مع دستور الدكتاتورية. في هذا السياق، قدّم بوريك نفسه وريثاً سياسياً لسلفادور أليندي (1970 ـ 1973)، كاسراً أحد محظورات المرحلة الانتقالية، ومُعيداً إحياء ذاكرة سياسية طالما جرى تحييدها. غير أنّ هذا الأمل اصطدم سريعاً بعوائق كبرى، فقد رُفض مشروع الدستور الجديد عام 2022، وهو ما شكّل نقطة تحوّل حاسمة في ولاية بوريك. ويُعزى هذا الرفض إلى حملة تضليل قادها اليمين، وإلى ترسّخ التنشئة النيوليبرالية داخل المجتمع التشيلي، فضلاً عن عجز اليسار عن إيصال مضامين مشروعه، وجعلها مفهومة وجذّابة خارج دوائره. وقد فُسّر هذا التصويت رفضاً للحكومة نفسها، ما أضعف قدرتها على الفعل السياسي.
بقي الوعد بتخليص تشيلي من النيوليبرالية غير مكتمل
في أعقاب هذا الفشل، اتجه بوريك نحو تعديل مساره السياسي، فقد أدخل، عبر تعديل وزاري، شخصياتٍ من الائتلاف الوسطي- اليساري، مرسّخاً ميلاً نحو الاعتدال، ومُنهياً خطاب القطيعة الذي ميّز بداية ولايته. كما أن فشل مسار التعديل الدستوري أغلق عملياً أفق التغيير في المدى القريب. وفي هذا السياق، حاولت الحكومة إعادة إطلاق أجندتها الاجتماعية، لكنها اصطدمت بمقاومة إدارية وبغياب الأغلبية البرلمانية. كما كان فشل الإصلاح الضريبي الذي سعت إليه الحكومة سنة 2023 قد شكل ضربة إضافية لها. وكان هذا الإصلاح يهدف إلى زيادة الموارد العامة وفرض ضرائب أعلى على الثروات العالية. ومع تراجع الموارد، باتت الإصلاحات الهيكلية في مجالي الصحة والحماية الاجتماعية شبه مستحيلة. عندها، انكفأت الحكومة إلى إصلاحات قطاعية، ولا سيما في مجال العمل، شكّلت أبرز إنجازات ولايتها. حيث أُقرّت إصلاحات مهمّة، منها رفع الحد الأدنى للأجور، وتقليص أسبوع العمل إلى 40 ساعة. ورغم أهميتها، رافقت هذه الإصلاحات تنازلات كبيرة للمعارضة اليمينية. وهكذا، بقي الوعد بتخليص تشيلي من النيوليبرالية غير مكتمل.
في المقابل، نجح اليمين المتطرّف في فرض أجندة الأمن على النقاش العام. فقد أدّى ارتفاع معدلات الجريمة، مقرونًا بزيادة الهجرة الإقليمية وتغطية إعلامية مثيرة للقلق، إلى جعل مسألة الأمن في صدارة اهتمامات المواطنين. ومع أن الإحساس بانعدام الأمن يفوق بكثير المعطيات الواقعية، يبقى هيكلَ النقاش السياسي. واستجابةً لذلك، انتهجت حكومة بوريك سياسة أمنية صارمة. وغذّى هذا التناقض بين الخطاب التقدمي والممارسة القمعية خيبة أمل جزء من القاعدة الانتخابية لبوريك.
نجح اليمين المتطرّف في تشيلي في فرض أجندة الأمن على النقاش العام
شهدت الانتخابات الرئاسية في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري تحقيق خوسيه أنطونيو كاست، ابن الجندي النازي اللاجئ إلى تشيلي، فوزاً كاسحاً على مرشّحة اليسار. وهو ممن يعلنون صراحة انتماءهم إلى إرث بينوشيه، ويبرّرون انقلاب 1973، ويقلّلون من شأن جرائم الدكتاتورية. وقد فتحت مركزية القضايا الأمنية، مقرونة بفشل تحقيق التغييرات البنيوية الموعودة، المجال أمام هذه النتائج، وأوصلت أنصار الديكتاتورية إلى القصر الرئاسي عبر صناديق الاقتراع.
الانتقال الديمقراطي في تشيلي، عبر إبقائه على ركائز مؤسّسية ورمزية من عهد الدكتاتورية، مهّد لعودة النزعة السلطوية. كما أن اليسار التشيلي واجه تحدّياً استراتيجيّاً كبيراً تمثل في صياغة مشروع اجتماعي مقنع قادر على معالجة المخاوف الأمنية من دون الوقوع في فخ المنطق القمعي. ولقد أدّى فشله في ذلك إلى أن يعود شبح بينوشيه، لا بوصفه ذكرى من الماضي، بل بديلاً سياسيّاً بات متاحاً من جديد.
المصدر: العربي الجديد






