فساد الذائقة اللغوية ووسائل التواصل الاجتماعي

 خالد بريش

كانت بدايات استخدام العرب لوسائل التواصل الاجتماعي، تختلف عما آلت إليه حاليا، فقد اتخذوا منها في البداية وسيلة للتعبير عن الرأي، ولنشر بعض نتاجهم الأدبي والفكري، الذي لا توصله دور النشر لأيدي القراء. وكان معظم المستخدمين على درجة عالية من الانضباط الفكري واللغوي والأخلاقي، فكانت حقا ملتقى لبعض النخب، وللتعارف، فتخطت بمستخدميها الحواجز والحدود، وقربت المسافات فكريا وإنسانيا، لكن ما لبثت الأنظمة أن اكتشفت دورها وأهميتها مع انطلاقة الربيع العربي، فأخذت تراقب وتُحْصي أنفاس مستخدميها، فأنشأت أجهزة مراقبة وتتبع خاصة، أعقبتها بما يسمى «الذباب الإلكتروني»، لكي يكونوا بالنسبة لها شباك صيد، يعلق بها من يريدون إيقاعه، ويسهل عليهم كذلك معرفة توجهات الشعوب. ووجد فيها الكيان الصهيوني وبعض أجهزة المخابرات على أنواعها فرصة لا تفوت، من أجل بثّ دعاياتها، والخلافات، والفرقة بين أبناء مجتمعاتنا، فوقع في شباكهم شبابنا من ذوي العود الطري، غير المحصنين بالمناعة الفكرية الكافية، لكي يدافعوا عن قضايانا..
والأمر اللافت للانتباه، هو طبيعة اللغة العربية المستخدمة من قبل العرب الفاعلين وغير الفاعلين على وسائل التواصل هذه، التي لا تمت إلى المعجم في كثير من الأحيان بصلة، ولا إلى قواعد العربية. تتداخل فيها العربية بلغات أخرى في خلطة غريبة عجيبة، يكتبونها بأحرف عربية، على اعتبار أنها عربية أصيلة، مخترعين في قواعد إملائها واشتقاقاتها ومبانيها، باسم الحرية تارة، والتطور تارة أخرى، حتى غدونا أمام لغة جديدة، لا علاقة لها بلغتنا الجميلة من كل النواحي. إنها لغة مفلطحة هجينة ركيكة في جمل بلا أسلوب أدبي، ولا تحوي شيئا من الصور الشاعرية الجميلة، والمحسنات البديعية، التي تتمتع بها لغتنا، وتتمايز بها على كل اللغات الأخرى، إنها لغة نستطيع أن نطلق عليها: مشي أمورك، ولا تعقدها، واترك القواعد، والفهم، وأكثر من المديح لمستخدميها، حتى لا تتهم بالتحجر والرجعية! ومما أسهم في هذا التدهور اللغوي بفعالية، هو تبريرات بعض المثقفين المتحذلقين لهذه الظاهرة المستهجنة أساسا، واعتبارهم لهذه الفوضى اللغوية التي أصابت لغتنا العربية أنها من سمات العصر، والانفتاح على الثقافات واللغات الأخرى. فإذا بهذا الانفتاح يتسع على الراقع، ليصبح من المتعسر رقعه، ورأب صدعه، فغدونا أمام مأساة جديدة تضاف إلى مآسينا.
لقد فرض كثير من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي على متابعيهم لغة جديدة لم يعهدوها من قبل، ولا تمت إلى القواعد التي درسوها على مقاعد الدراسة، وإن كان بعضهم قد رفضها في البداية، إلا أنهم سريعا ما تآلفوا معها، وأصبحت لا تثير فيهم نوعا من إزعاج، أو استهجان، أو رفض.. بل غدت بالنسبة لكثيرين أمرا مألوفا عاديا، كالفيروس الذي يصيب الجسم، فيتعايش معه من دون أن يطرده، أو ينقض عليه جهاز المناعة في الجسم ليكتب نهايته.. ما تسبب بتشويه وفساد الذائقة اللغوية والأدبية لدى كثيرين، والأسوأ من ذلك، تعود حاسة البصر على رؤية هذه الأخطاء باستمرار، بحيث أصبحت العين تقرأ الأخطاء اللغوية والإملائية، وتمر عليها مرور الكرام، من دون أن تحدث لدى القارئ إزعاجا البتة، بل غدت تشكل الأساس بالنسبة لكثير من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي. ولا بد من الإشارة إلى أن الانزلاق في هذا المنحى، والاستمرار في الخطأ، والتعود عليه، وترك الأسس والقواعد اللغوية، سيؤدي حتما إلى كارثة لغوية وأدبية، وهو ما أراد التنبيه إليه الإمام شمس الدين الجَزَري في أرجوزته عندما قال: « وليس بينه وبين تركه، إلا رياضة امرئ في فكّه »، حيث تناول هنا، لفظ الحروف العربية من مخارجها، والقراءة بشكل صحيح، وينسحب ذلك بلا شك على مجمل اللغة العربية قراءة وكتابة وإملاء، لأن عدم التقيد بقواعد الكتابة والقراءة والإملاء الصحيحة، يؤدي مع مرور الوقت إلى ما نعانيه اليوم، وتعاني منه لغتنا الجميلة من فوضى.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل كانت هذه حالنا أساسا، وكنا غائبين عنها ولم نرها، وأن كل ما قامت به وسائل التواصل هو أنها كشفت المستور؟ أم أن وسائل التواصل هي سبب أساس في هذه المشكلة التي نعيش فصولها؟ في الواقع هناك تلازم في مكان ما بين الأمرين بنسبة وتناسب، وهناك ضعف لا يمكن التغافل عنه لدى أبناء هذا الجيل في لغتهم الأم من كل النواحي، تتحمل المسؤولية الأكبر فيه المدرسة، منهجا ومُدَرّسا وطرق تدريس، يضاف إلى ذلك تأثر هذا الجيل بالإعلام المرئي والمسموع، حيث الحبل على غاربه من الناحية اللغوية، وتأثرهم أيضا بالمربيات المُتعددات الجنسية، وتعاقبهن على رعاية الأولاد، في شبه غياب كامل للأهل، ما أثر سلبا على لغة الأولاد، الذين أصبحوا يتحدثون بلغة هجينة مركبة من عدة لغات مختلفة، بحيث أصبح من المُتعسر على أولياء أمورهم فهمهم بسهولة أحيانا، فلجأوا إلى لغة العم شكسبير، أو موليير، للتفاهم مع أبنائهم، بينما يتحدث الأهالي في ما بينهم بلهجة بلدانهم، وغدا الأولاد فرحين بذلك، لأنهم كونوا عالمهم الخاص بهم، من خلال اللغة التي يستخدمونها في التخاطب في ما بينهم. وبالتالي أصبح التواصل الذي يعتبر أحد أسس بناء الأسرة، غير موجود، بل منعدما في كثير من الأحيان، يضاف إلى ذلك استخدام الهواتف الذكية داخل الأسرة، الذي جعل لكل فرد من أفرادها عالمه الخاص به…
ومما لا يمكن إنكاره، أن وسائل التواصل الاجتماعي قدمت لنا خدمات جليلة كثيرة، من بينها تعرية كثير من المثقفين العرب على مدار سنوات، فكريا وسياسيا واجتماعيا وإنسانيا، وأسقطت عنهم تلك الهالات التي كانت تحيط بهم، ولكن الأهم في اعتقادي، أنها عرتهم لغويا، واللغة في الأساس سلاح المثقف، وأداته في التعبير، وعندما تضعف لديه أو يفقد مفاتيحها، وتملك ناصيتها، يكون كالمحارب الذي فقد سلاحه في ساحة الوغى. فكما أن المحارب عندها لا يكون أمامه إلا الاستسلام، فإن المثقف في مثل هذه الحالة يتحول إلى مجرد مُهرج، مُجتر للعبارات الفضفاضة الفارغة، لا أكثر ولا أقل!
لقد شاع في بلادنا يوما، انتشار مدارس خاصة لتعليم اللغات الأجنبية، أو للتقوية فيها، من خلال دورات سمعية بصرية، فكان يتسابق الأبناء على اختلاف مستوياتهم للتسجيل، ولحجز أماكنهم فيها، واليوم على ما يبدو أننا أصبحنا بحاجة إلى مثل هذه المدارس والدورات، ولكن من أجل تعليم اللغة العربية للجيل الجديد من أبنائنا، ولا ضير في ذلك، ولنعتبرها استكمالا لما كان يفعله الأجداد في إرسال أبنائهم إلى البادية، ليعيشوا بين القبائل البعيدة عن الحواضر، لكي يتقنوا لغة الضاد بعيدا عن تأثيرات المدن والمدنية، ويتعودوا على اللسان الصحيح القويم، وقد أصبح لزاما على المؤسسات الحكومية في كل بلداننا، إجراء مسابقات في مهارات اللغة العربية وإملائها، كشرط أساس للقبول في أي وظيفة من وظائف الدولة، لأن الشهادات الجامعية لم تعد ذات دلالة على المستوى اللغوي، لكيلا نستمر في رؤية اسم محمد يكتب بواو « موحمد»، وخديجة بإضافة ألف بعد الخاء «خاديجة»، وضمير المؤنث المخاطب أنت، تكتب بياء في آخره «أنتي»، وضمير الجمع المذكر نحن، تكتب بإضافة واو في آخرها « نحنو» إلخ…
كاتب لبناني
المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى