شكلت الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي متغيّرًا بالغ الأهمية في التأثير على بعض الاتجاهات المختلفة للرأي العام في عالمنا كله من خلال خطابات المنشورات والتليغرام، والتغريدات على “أكس”، وعلى رأسها خطاب الفيديو الطلقة، وباتت تشكل تمثيلات للمجال العام الرقمي الكوني والإقليمي والوطني والمناطقي داخله، وكلها حاملة لآراء ومواقف ومشاعر وانطباعات مليارات ومئات الملايين من اللاعبين عليها حول تفاصيل حياتهم ومشكلاتهم وتفضيلاتهم، ونبذهم ما لا يتوافق مع توجهاتهم.
غزّة والخطاب السياسي والإنسانوي.. ثورة وسائل التواصل الاجتماعي
لم تعد خطابات التواصل الاجتماعي محضُ مواقف شخصية/فردية، وإنما باتت جماعية ومنظمة، وبعضها تلقائي، ومن ثم تؤدي وظائف عديدة على رأسها:
– التعبئة السياسية والاجتماعية والدينية والاحتجاج السياسي والاجتماعي.
– تنظيم التظاهرات افتراضيًا وفعليًا على نحو ما تم في الانتفاضات الجماهيرية العربية المجهضة، كما في المثال المصري عام 2011، وفي غيرها من الحالات.
– إخضاع الدول والأنظمة التوتاليتارية والتسلطية لمواقع التواصل لأنظمة مراقبة في متابعة المعارضين لها. بعض أنظمة المراقبة الرقمية تنتجها شركات إسرائيلية، وبيعت لعديد الأنظمة العربية. ومن الملاحظ أنّ الدول العربية وبعض أنظمتها السياسية المختلفة أنفقت مبالغ طائلة بمليارات الدولارات لتخليق جماعات ضغط، وشخصيات بارزة لدعمها في الكونجرس، وخاصة دول اليسر المالي في إقليم النفط، بينما لم تنفق هذه الدول وغيرها من دول العسر العربية سوى أقل من عشرين ألف دولار لمواجهة الحملات الإعلامية الإسرائيلية التي أنفقت خلالها ملايين الدولارات في الحرب الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي في مسار الحرب علي قطاع غزّة، وذلك وفقًا لموقع Politico – Israel advocacy groupsoutspend.
– أثناء وقائع ومسارات الحرب على غزّة فرضت شركة Meta رقابة على خطابات رفض العدوان، وخاصة في الدول العربية.
من الملاحظ هنا الدور المؤثر الذي لعبته ولا تزال خطابات التواصل الاجتماعي في إحداث بعض التغيّرات النسبية على بعض اتجاهات الرأي العام الغربي، في مواجهة المواقف الرسمية الداعمة لإسرائيل في حربها على قطاع غزّة، وعملياتها ومعها بعض المستوطنين في الضفة الغربية، وتمثلت هذه الفعالية فيما يلي:
(1) تجسيم انتهاكات الجيش الإسرائيلي في إطار الحرب القانونية الموازية، وخروجه السافر على القوانين والشرعية الدولية.
(2) إظهار الوحشية في قتل الأطفال والنساء والمسنين والمدنيين العزّل، وقتل الآباء أمام أطفالهم وأسرهم وعائلاتهم، وهدم فوق ما يزيد عن 70% من المباني حسب بعض التقديرات، وهدم الكنائس والمساجد، وانهيار النظام الصحي، وقتل أطباء ومسعفين وقصف عربات الإسعاف، وموت الأطفال الخدج والصغار لغياب الأدوية والأجهزة الطبية لعلاجهم.
(3) الكشف عن التناقضات في الخطاب السياسي والعسكري الإسرائيلي في بعض أكاذيبه حول قتل “حماس” لكافة المدنيين، أو في كشف الجيش لأنفاق في مستشفى الشفاء وغيرها.
(4) لعبت خطابات التواصل الاجتماعي، لا سيما الخطاب المرئي الفيديوهاتي دورًا مؤثرًا في إحداث بعض من التغيّر في قلب بعض من الضمير الغربي الحر الذي اعتصم بالقيم الإنسانية الغربية في مواجهة القادة السياسيين والحزبيين الغربيين، وفي مواجهة نمط من “المكارثية” الجديدة التي بدت في بعض البرلمانات، والإدارات السياسية والإعلام التقليدي وبعض الجامعات.. إلخ.
(5) ظهر التأثير في إحراج بعض الإدارات السياسية، ونزع الطابع الأخلاقي عن السياسة الأمريكية والغربية، من خلال التظاهرات الضاغطة من أجل وقف اطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية للمدنيين.
(6) توزيع الآراء التي تؤكد على جذور التعصب والعنصرية والتطهير العرقي لسكان القطاع، والأهم صعوبة تصفية “حماس” كفكرة وكمقاومة، وعدم قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها والدعوة للإفراج عن الرهائن، ووقف إطلاق النار.
لا شك أنّ الخطاب المرئي للفيديوهات الطلقة على وسائل التواصل الاجتماعي لعب دورًا مؤثرًا في هذا التغيّر النسبي في بعض توجهات الرأي العام العالمي، من حيث توظيفها في دعم بعض السياسيين الغربيين على قلّتهم في دعم خطابهم السياسي الإنسانوي في البرلمانات في أمريكا وأوروبا كسند لرأيهم السياسي المطالب بوقف إطلاق النار وتسهيل وصول المعونات الإنسانية لسكان القطاع.
باتت وسائل التواصل الاجتماعي السياسية والإنسانوية إحدى أهم أدوات التأثير المتبادل في تشكيل وتغيير المواقف السياسية في عالمنا، وفرض نسبي لسلطة الافتراضي على الواقعي.
أثّر الخطاب المرئي للفيديوهات الطلقة بشكل بالغ على ملايين المشاركين بالواقع الرقمي، خاصة ببث الصور والفيديوهات التي توثّق مقتل الأطفال الخدج، والصغار، وملامح الخوف والاضطراب على وجوههم وأجسادهم، ونظرات العيون التي تنطق بالرعب، وهو ما دفع الآلاف من الأحرار وذوي الضمير الإنساني في الغرب وخارجه إلى التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، وشجّعهم على المشاركة في التظاهرات المنددة بالإبادة الجماعية، وذلك على نحو متزايد رغم أعياد الميلاد!.
على الجانب الآخر، ثمة حالة من العجز والتفكك في العالم العربي في ظل ازدواجية الخطاب السياسي للسلطات الحاكمة، وبين ما وراءه من تشابك في العلاقات مع الدول الغربية وأمريكا وبريطانيا والدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل، والرغبة الدفينة والمصلحة السياسية في القضاء على حركة المقاومة الإسلامية في القطاع، وتصفيتها وتفكيكها! ونسيان أنها فكرة تنامت وسط أبناء القطاع والضفة وحازت شعبية، لفشل سلطة “أوسلو” وقادتها من الشيوخ وأتباعهم في إنجاز حل الدولتين، وأيضًا في إدارة رشيدة ونزيهة للضفة، وشاركت في إنتاج الفجوات بين القطاع والضفة والمقاومة! من ثم تبدو السيناريوهات الرامية إلى إعادة السلطة الفلسطينية للقطاع بعد المرحلة الانتقالية، إذا تم هذا السيناريو، سيُنظر لها على أنهم وكلاء للاحتلال الإسرائيلي والأمريكي البريطاني الداعم له، ومن ثم ينطوي هذا الحل على فشله!، وفي الوقت ذاته هناك حالة حظر للتظاهر في بعض الدول العربية، واعتقال من يدعو لها حتى على وسائل التواصل الاجتماعي!.
إنّ خطاب وسائل التواصل الاجتماعي من المنشورات والتغريدات والانستغرام والفيديوهات الطلقة، أداة فعالة في التغيّر الجديد بعالمنا، على الرغم من أنظمة الرقابة والاستثناء في المنطقة العربية وعالمنا، وأثرها السلبي في الإجراءات السلطوية القمعية على حريات الرأي والتعبير، والتظاهر السلمي.
ستفتح الحرب على غزّة أبوابًا جديدة لمصادر عدم الاستقرار السياسي لبعض الأنظمة الحالية في المنطقة العربية في الآجال المتوسطة والبعيدة، وذلك على الرغم من عمليات القبض والاعتقال والقمع التي تعتمد على نظام الرقابة الرقمية، لأنّ صمود المقاومة الفلسطينية أعاد المسألة الفلسطينية إلى موقعها المركزي مجددًا، وشكّل الخطاب المرئي التواصلي الاجتماعي أداةً فعالة في التعبئة السياسية والدينية، ومعها تحفيز بعض الحركات الإسلامية السياسية.
في ضوء نتائج الحرب على المقاومة الإسلامية، والمدنيين في القطاع والضفة، يبدو محتملًا عودة نظرية العدو القريب والبعيد إلى المنطقة مجددًا، ومعها احتمالية ظهور العمليات الإرهابية في المنطقة والدول الداعمة لإسرائيل!.
من المرجح أنّ الخطاب المرئي التواصلي الاجتماعي سيعيد تشكيل ثقافة الأجيال Z، وغيرهم، تجاه الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وستتكرس ثقافة الكراهية والعداء لدى بعض من هذا الجيل، وغيره إزاء الثقافة والقيم الغربية السياسية والإنسانية، التي تنكرت لها أمريكا والدول الأوروبية التابعة لسياستها تجاه الفلسطينيين.
إنّ سيناريوهات “اليوم التالي” محمّلة بغموض عدم الاستقرار السياسي والعنف المحمول على السند الديني، ومعه أوهام السيطرة الكاملة أو الجزئية على القطاع وإعادة تشكيل ثقافة ووعي سكان غزّة على نحو ما تم في ألمانيا واليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأيضًا بدا واضحًا انهيار بعض من الأفكار التطبيعية التي روجت لها إسرائيل والولايات المتحدة وسط بعض المثقفين المطبّعين والإعلاميين بعد اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو!.
شرق أوسط يبدو غير مستقر يلوح في آفاق الإقليم المضطرب.
المصدر:( “عروبة 22”)