
بين “ترانيم العتمة والضوء” يكتب علي الكردي رواية لا تُقاس أهميتها بما ترويه من أحداث فقط، بل بما تجرؤ على فعله من مساءلة جذرية للتجربة السياسية ذاتها، في واحدة من أكثر المراحل خطورة والتباسًا في التاريخ السوري الحديث. ليست الرواية شهادة لضحايا قمع فحسب، ولا سيرة مناضلين سابقين، بل هي نص مراجعة قاسية للذات، وللجماعة، ووهم القدرة على التغيير الذي لبس ثوب الخلاص. إنها رواية تُدين الاستبداد والقمع، نعم، لكنها تذهب أبعد من ذلك: تضع التجربة المعارضة نفسها أمام مرآة لا ترحم، وذلك من خلال قراءة بعض أوراق ما زالت محفورة في الذاكرة لشخصيات متمردة على الواقع، لكلٍّ له طريقته في الحياة، في الحب، وفي ممارسة التفاصيل، وكان قاسمها المشترك التوق إلى الحرية. جمعتهم فوق مقاعد الدراسة الجامعية ما أُطلق عليها الحلقات الماركسية، والتي لا تُقدَّم بوصفها خطة لمشروع مستقبلي، بل بوصفها استجابة بشرية لواقع مسدود، حيث كانت الحلقة فضاءً للحوار، وللاختلاف، وللحب، وللسهرات، ولإحساس عابر بالحرية في مدينة تُراقِب أنفاس عشاقها، وتستكثر الندى على جبين العاشقات في صباحاتها. وتعبيرًا عن بساطة هذه الحالة نقرأ من أوراق رياض حبو:
“كثيـرًا مـا كنـا نلتقـي أنـا وسـامي وخليـل فـي الاسـتديو، نمضـي السـهرة هنـاك، نشـتري صحـن حمـص وبضـع أقـراص فلافـل، وأوقيـة زيتـون أسـود، ونوعًا مـن الأجبـان مـع بطحـة عـرق لإحيـاء سـهرتنا، وكانـت أغنيـة «اعــزاز» لإيــاس خضــر رفيقــة دائمــة فــي ســهراتنا”.
“ترانيم العتمة والضوء” ليست رواية انكسار، ولا تحرّض ضد النضال، ولا تهاجم الحلم، بل تنتقد الوهم الذي يجعل الفكرة مطلقة، ويحوّل الإمكانية إلى يقين، والجماعة إلى ملجأ من الوحدة وملاذ من عبء القلق من مستقبل ضبابي. هي رواية وعي التجربة، وشجاعة نادرة في مراجعة الذات. هي رواية السياسة، ليس بوصفها محايثة لصيرورة حدث فحسب، بل بوصفها تجربة ارتطام الروح بوعود الخلاص وانكسارها على جدار القمع. إنها رواية تسأل منذ سطرها الأول سؤالًا لا يخصّ أبطالها وحدهم، بل يخص كل من عايش الحالة السورية على مدى خمسين عامًا: «أي كائن هذا الذي سيتحمّل أثقال تراجيديا العصر في القرن الواحد والعشرين ويعبّر عنها في كلمات؟» وكأن اللغة هنا لا تأتي لتعبّر عن لحظة تاريخية، بل لتقف في مواجهة ما تبقّى من المعنى وتستنطقه كي لا تتعفّن الذاكرة.
الرواية تُمسك “الحلم” من ياقته، لا لتؤنّبه، بل لتفتّش بين ثناياه عن الأمل، عن الصدق مع الذات حين يكون الطريق ملغّمًا بالتورية، وحين تكون الحرية هي الشيء الذي نفتقده ولا نعرف أن افتقادنا له هو الأصل في ضبابية الرؤيا. هنا تبدأ المراجعة الجريئة: المشكلة ليست فقط في النظام القمعي، بل فينا أيضًا؛ في أننا غرقنا في بطون الكتب الحمراء والأيديولوجيا المعلّبة، ونسينا “أرواحنا الطليقة”، حيث تحوّلت الأفكار من أداة فهم إلى قناع للهوية، ومن بوصلة إلى بديلٍ عن الإصغاء للنداء الداخلي العميق في أرواحنا.
ربما تكون واحدة من أقوى ثيمات الرواية هي كشفها المؤلم عن الأنا المزيّفة، حيث “الأنـا المزيّفـة التـي تسـكننا أكثـر خطـورةً علـى مشـروعنا مـن أولئـك المتربصيـن بنـا”. وليست الأنا المزيّفة هنا مجرد ادّعاء بطولة، بل بنية دفاع نفسي. ذاتٌ تشعر بالضياع في واقعٍ مُهان، فتستعير ذاتًا أكبر من حجمها، وتتماهى مع صورة “المثقف”، “المناضل”، “الواعي”، “المسؤول تاريخيًا”. هذه الأنا لا تحتمل الشك، ولا تُصغي للحدس، لأن الإصغاء يعني مواجهة الفراغ الداخلي. وهكذا يُقمع الصوت الداخلي، صوت الوجدان، ويُحوَّل القلق إلى حماسة، والخوف إلى اندفاع. وهنا تكمن ميزة الرواية في نقل السياسة من مستوى الحدث إلى مستوى النفس، ومن منطق الصراع إلى منطق التكوين الداخلي للإنسان المقموع.
كانت البداية بالحلقات الماركسية، غير أن هذه المساحة، تحت ضغط القمع وانعدام الأفق، تحوّلت تدريجيًا من حقل ثقافة وحب وتفكير إلى منطقة رمادية بين الحلم والسياسة؛ تحكمها أخلاقيات الفروسية والنبالة أكثر مما تحكمها حسابات الفعل السياسي وجدواه. كانت تعطي شعورًا رقيقًا وجميلًا، يهب الشباب والشابات إحساسًا بالسمو والاستعداد للتضحية، ويمنح الذات المرهقة بعض التوازن في زمن القمع وتآكل الحريات. غير أن هذا الاندفاع، على نقائه، لم يكن سياسة بالمعنى الدقيق، بل أقرب إلى فعلٍ دعويٍّ تطهّري، للبحث عن معنى لوجود الذات، أكثر مما هو بحث عن تغييرٍ فعلي لشروط الواقع.
من هنا يمكن فهم الانتقال المتسرّع، حسب ما توحي به الرواية، من الحلقات إلى الرابطة، ثم إلى حزب العمل الشيوعي. ذلك الانتقال كان لحظة المواجهة مع المجهول، والتي عبّر عنها خليل زهدي بقوله:
“فـي الحقيقـة كان القـرار صعـبًا علـى كلينـا، ولا سـيما أننــا أمــام مفتــرق طــرق. الاســتمرار يعنــي أن نغــوص فــي تجربـة لا نعـرف إلـى أيـن تقودنـا، والقطيعـة مـع الحلقـة باتـت أيضًـا مسـألة صعبـة بعـد أن أصبـحت مظلـة أحلامنـا، وواحـة أرواحنـا التـي نتنفـس مـن خلالهـا”.
لم يكن هذا المسار، كما توضّح الرواية، نتيجة نضج موضوعي أو قراءة دقيقة للواقع السياسي والاجتماعي، بل قفزة إرادوية غذّتها لغة التفخيم مثل “تحوّل نوعي”، “بناء حزب ثوري”، “استعداد نضالي”. هذه اللغة أدّت وظيفة خطيرة، حيث ألغت الشك، وأسكتت النقد، وتمثّلت الأيديولوجيا بديلًا عن المعرفة، ولم يعد السؤال: هل نحن قادرون؟ بل أصبح: هل نحن شجعان بما يكفي؟ هل نحن قادرون على التضحية؟ والإجابة بالتأكيد كانت نعم، حتى لا نفقد احترامنا لأنفسنا ونحافظ على تمايز ذواتنا وأخلاقياتنا.
“فـأن تحتـرم نفسـك وتعتـدّ بهـا، هـذا يعنــي الإحســاس العميــق بالكرامــة، والاستعداد للدفــاع عنهـا مهمـا بلـغ الثمـن. هـذا برأيـي مـا كان يجمعنـا أكثـر مـن أي شـيء آخـر”.
وتعرّج الرواية على حملة الاعتقالات التي لم تكن مجرد فعل قمعي وحشي، بل لحظة انكشاف شامل، حيث سقط وهم السرّية، وظهر التنظيم هشًّا، قابلًا للاختراق، من القاعدة إلى القمّة. هنا لا تبرّئ الرواية النظام وقمعه وجلّاديه، لكنها ترفض اختزال المأساة فيه. ما انهار لم يكن تنظيمًا فقط، بل طريقة تفكير كاملة، طريقة استبدلت فهم الواقع بالإرادة، والمعرفة بالحماسة، والإنسان بالفكرة والأيديولوجيا.
ولأن الرواية ترصد مراحل في حياة الحزب، كان لا بدّ أن تتطرّق إلى السجون والتعذيب، وربما من أسوأ تلك اللحظات الترحيل إلى تدمر… متاهة الضياع وقسوة الزمن والنسيان… المسافة بين السجين والضوء هناك تصبح فلكية، ويتكثّف معنى الغياب القسري الذي يشعل الذاكرة في قلب الصمت البارد، حين ينفتح ترانزستور حارس السجن على فيروز، وتصل إلى مسامع أحمد الشامي وهو على أبواب سجن تدمر: “يا جبل البعيد…”. فتقفز الروح خارج الزمان والمكان: رائحة الأم، طيف الحبيبة، أزقّة دمشق، ملاعب الطفولة… كأن الصوت، أيّ صوت، يمكنه أن يشقّ ثقبًا في جدار الجحيم.
الرواية لا تجعل التعذيب الجسدي مركز الانكسار، بل تجعل الإذلال اليومي هو ما “يطحن الروح”: تفاصيل صغيرة لكنها تترك جروحًا لا تندمل. فالسجن في الرواية منظومة مهمتها صناعة إنسانٍ جديدٍ أقلّ إنسانية، أو دفعه إلى أن يصدّق أنه لا يستحق إنسانيته. ولا تقف عذابات السجن في الرواية عند جدرانه وأسلاكه الشائكة، بل تمتد لتصل إلى دمار العائلات، لا كحاشية أو هامش، بل كجرحٍ محوري في قلب السجين، مما يشكّل عبئًا أخلاقيًا وتعذيب ضمير يُضاف إلى التعذيب اليومي.
ولم تكن المرأة في الرواية تفصيلًا ثانويًا، بل كانت في صلب الحكاية؛ تحب وتناقش وتُسجن، كما حصل مع رنا زينو، وكما عانت سعاد باصيل آثار السجن وويلات الحنين، كما عبّرت في أوراقها: أصبحت الأرض من حولي رمالًا متحركة، كل يوم تبتلع أشخاصًا، وتخلّف أحزانًا وآلامًا تئنّ تحت وطأتها الجبال. أطفال وزوجات وأمهات تُرك مصيرهن في مهبّ الريح، بلا معيل أو معين أو أي ضمان لمستقبل حياتهم المجهول.
لم ينسَ علي الكردي أن يعرّج على الجغرافيا، فكانت دمشق، التي لم تكن في الرواية خلفية تصوير، بل كائنًا أنثويًا جريحًا؛ مدينة الأسرار والشغف والتاريخ، مدينة تُنتهك وتُلوَّث، وتُحوَّل بساتينها إلى عشوائيات قبيحة، ويُحوَّل قاسيون من حارس أبدي إلى قاتل لا يرتوي، ويصبح جبل قاسيون شاهد اتهام بدل أن يكون ذاكرة حماية، وشاهدًا على مرحلة غيّبت جيلًا كاملًا عن السياسة والحياة العامة، وولّدت جيلًا جديدًا يحمل هذا الإرث الثقيل: ذاكرة الاعتقال، وبرودة العائدين من السجون، وقلق الأمهات الذي لم يفارق البيوت. كان الخوف يتسلّل إلى هذا الجيل، لا بوصفه شعورًا، بل بوصفه معرفة مسبقة بما يمكن أن يحدث إن تجاوزوا الخطوط الحمراء غير المرئية التي رسمها لهم إرث آبائهم.
ومع ذلك، حين لاحت الإشارة الأولى للثورة، انكسر هذا الإرث فجأة. تراجع الصمت إلى الخلف، وتقدّم صوت لم يعرفوه مسبقًا، صوت بلا خوف، وكأن جيلًا كاملًا قرّر، في لحظة نادرة، أن يضع خوف آبائه خلفه، لا إنكارًا لتجربتهم، بل محاولة للخروج من سجنها. فصرخ هذا الجيل: «الشعب السوري ما بنذل». في تلك الصرخة، لم يواجهوا السلطة وحدها، بل واجهوا الخوف الذي ورثوه، واكتشفوا أن التحرّر يبدأ حين يجرؤ المرء على كسر الصمت الذي سكنه طويلًا.
في النهاية، لا تَعِد الرواية بانتصارٍ قريب ولا بخاتمةٍ مريحة، لكنها تزرع يقينًا لا يأتي من السياسة بل من الحياة، حيث:
“الثابــت الوحيــد المؤكَّد أن زهـر الكـرز الأبيـض واللـوز الأخضـر سـيتفتّح فـي شـمس بلادنـا بعـد قيامتهـا، ولا بـدّ أن يثمـر فرحًـا، حبًّا، حريـةً وكرامــة، ولــو بعــد حيــن”.
وهذا الأمل ليس سذاجة، بل هو شكل من أشكال المقاومة، لأنك ترفض أن تكون العتمة هي الكلمة الأخيرة.
المصدر: تلفزيون سوريا






