
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، انهار نظام الأسد وانهارت معه شبكة النفوذ الإيرانية التي ظنّت طهران أنها ُمحكمة إلى درجة لا تُكسر. اليوم، ونحن نقف على أعتاب العام الأول لانتصار الثورة، تبدو سوريا مختلفة جذرياً عن تلك التي حملت ركام الحرب، والخراب، والميليشيات، والعبث الإيراني في الأرض والمجتمع. ليس لأن الثورة وحدها غيرت المشهد، بل لأن هزيمة إيران تحديداً أحدثت تحولاً أعمق في ميزان القوى، وفي الوعي السوري والوعي العربي عموماً، بل وفي خريطة المنطقة برمتها.
إيران لم تخسر نظاماً فقط بل خسرت أهم ركيزة كانت تراها حجر أساس لمشروعها الإقليمي المتمدّد. خسرت ممراً إلى البحر المتوسط، وخسرت ورقة ضغط تستخدمها في التفاوض مع العالم، وخسرت رمزاً كانت تقدمه دليلhW على قوتها وحنكتها السياسية وذلك في قدرتها على صناعة أنظمة تابعة لها، وتدور في فلكها، وتُنفّذ أجندتها. والسؤال الذي يُطرح اليوم: بعد عام كامل على انتصار السوريين؛ ما الذي تعلمته إيران من هزيمتها في سوريا؟
فمنذ 2003 حين دخلت إيران العراق من بوابة الفراغ الأميركي، تشكّلت لدى صانع القرار الإيراني قناعة بأن التوسع ممكن عبر القوة لا عبر التحالفات. سوريا كانت الحلقة الأهم في هذه المتتالية، والموقع الاستراتيجي الذي يربط بغداد ببيروت، ويحوّل طهران إلى لاعب إقليمي كبير، قادر على التفاوض وفرض شروطه على المجتمع الدولي. لكن الثورة السورية قلبت المعادلة، ومع انتصارها وسقوط النظام أصبحت إيران مكشوفة بلا غطاء، وفقدت مركز ثقل كان يمنح مشروعها قوة التمركز في قلب العالم، وعلى مشارف البحر المتوسط.
إيران بنت نفوذها على افتراض أن الدول تنهار والشعوب تُستبدل، وأن الميليشيات يمكن أن تقوم مقام السياسة، كما في لبنان والعراق واليمن. لكن سوريا أثبتت عكس ذلك: الميليشيا تحكم مؤقتاً، لكنها لا تصنع دولة. تبدو هذه الحقيقة أشد وضوحاً في سوريا؛ حيث انهارت جميع الأذرع التي بنتها إيران في سوريا خلال سنوات طويلة، وانمحى أثرها بلحظة واحدة؛ مما يدل على هشاشة التمدّد الإيراني، وخطأ الأسس التي بنت عليها القيادة الإيرانية سياستها التوسعية. والتحدي الأكبر الذي واجهته إيران لم يأتِ من الدول الإقليمية أو المجتمع الدولي، بل من السوريين أنفسهم. فمع كل محاولات الإخماد، وكل سنوات الحصار، وكل أدوات الإبادة، وُلد جيل كامل لا يرى في إيران قوة مقاومة كما قدمت نفسها، بل قوة احتلال، وخطرها يفوق الخطر الإسرائيلي.
لم يقتصر عداء السوريين للنهج الإيراني على السنة فقط، بل كانت البيئة الحاضنة لنظام الأسد أيضاً تنفر من التمدد الإيراني في المجتمعات المحلية، ولا ترى في إيران سوى قوة مساندة في حربهم، دون أي مشترك عقائدي أو ثقافي. وخلال سنوات طويلة نشط فيها رجال دين موالون لإيران في المجتمعات المحلية، لم تأت بثمارها المرجوة، سوى خطاب انتهازي عن جذور مشتركة بين الشيعة والعلوية بشكل عمومي وغائم. وفشلت كل المحاولات في إيجاد مشتركات عقائدية أو ثقافية في البيئات العلوية تربطها بإيران على غرار شيعة حزب الله في لبنان على سبيل المثال. وعندما انهار الأسد، لم يكن الوجود الإيراني ولا ميليشياتها جزءاً من المجتمع الشيعي ـ العلوي المحلي، بل مجرد امتداد لسلطة سقطت وفقدت معناها وبأثر فوري. واكتشفت إيران أنهم لم يقاتلوا دفاعاً عنها، وليسوا مستعدين للدفاع عن وجودها.
ذلك أن المشروع الإيراني في سوريا لم يملك خطاباً أخلاقياً جامعاً، ولم تَبنِ طهران جامعة يتخرج فيها السوريون، لم تطلق منحة بحثية، ولم تؤسس مشاريع تنموية. كل ما قدمته كان القوة الخشنة من ميليشيات، استخبارات، حواجز، وتحويل المدن إلى مربعات أمنية، واقتصاد يُدار على طريقة الأسد: مشاريع ريعية تهدف إلى الربح السريع، حماية أمنية لإنجاح المشروع بدل المنافسة والجدوى الاقتصادية، وإدارة تقوم على الولاء بدل الكفاءة، ما أنتج طبقة فاسدة مستنسخة عن نظام الأسد ومتشابكة معه.
في المقابل كانت القوة الناعمة الإيرانية شبه معدومة؛ لا سردية ثقافية جامعة، لا نموذج حياة جاذب، لا اقتصاد يَعِد بالتنمية، تماما كما الحياة في طهران والمدن الإيرانية المغرقة في الفقر والفساد. وهنا يكمن الفارق الحاسم بين القوة التي تقهر والقوة التي تُقنع. لذلك حين توقف الرصاص، انهار كل شيء بوزن نفسه.
على الصعيد الإقليمي تصرّفت إيران في سوريا كقوة فوقية، لا ترى في المنطقة فضاءً للتفاعل وإنما ميداناً للصراع. لم تتجه إلى تركيا كشريك محتمل، ولا إلى الخليج كفضاء اقتصادي يمكن العمل معه، ولا إلى العالم العربي كعمقٍ ثقافي مشترك. بل تعاملت مع الجميع كعدوّ يجب هزيمته. النتيجة أنّ الإقليم بأكمله تحوّل إلى جبهة مضادة، تعمل على تفكيك النفوذ الإيراني بدلاً من الشراكة معه، أو حتى استيعابه واحتوائه.
ـ هل تعلمت إيران من دروس الهزيمة؟
حتى هذه اللحظة، لا يبدو أن إيران تعلمت الدرس. فرغم غرقها في أوحال الحرب السورية وانكشافها بل وهزيمتها في عقر دارها، لم تغير من منهجها. نعم، تحاول طهران إعادة ضبط أدواتها، لكنها لم تنتقل إلى بناء مؤسسات بديلة أو تطرح مقاربات أو شراكة مع المحيط الإقليمي، ولم تراجع خطابها أو شكل حضورها الخارجي، أي أنه تخطيط لاحتواء الخسائر أكثر منه صناعة مشروع جديد. ويبدو صانع السياسة الإيراني ما يزال يؤمن بالهيمنة لا بالشراكة.
بعد عام على التحرير أصبح واضحاً رسوخ أركان الحكم الجديد في سوريا ولو جزئياً أو على الأقل انعدام إمكانية استعادة نظام الأسد بشكله القديم، مما يحتّم ضرورة بناء قواعد جديدة للتعامل بين البلدين. فسوريا بعد الثورة لم تعد منطقة نفوذ تُدار عن بعد، بل دولة لها حساباتها، وتطمح للبحث عن موقعها في المنطقة ومعنى وجودها السياسي. رغم هذا لم تطرح القيادة الإيرانية أي مقاربة جديدة للتعامل مع دمشق. ورغم وضوح فكرة أن المشروع الإيراني في سوريا لم ينتهِ لأنه هُزم فقط، بل لأنه لم يحمل مقومات الحياة أصلاً، لكن يبدو أن القيادة الإيرانية لم تدرك تلك الحقيقة بعد. فلو تعلمت الدرس، لاختارت طريقاً آخر بعد عام كامل من الهزيمة الساحقة.
المصدر: تلفزيون سوريا






