السلام ليس غياب الحرب فحسب… بل بناء المجتمع السوري

سوسن جميل حسن

ليس السلام غياب الحرب، بل عمل يومي لبناء المجتمع. هذه حقيقة يقدّم التاريخ براهين كثيرة عليها، وسورية اليوم في واقع يعاني الحرب البينية ومُخرجاتها. عندما تتصدّع البنيات الاجتماعية، ينفجر العنف، وهذا ما نشهده اليوم. صحيح أن نظاماً استبدّ بالشعب وأنهك البلاد بحربه عليه قد سقط منذ عام، بعدما كان اليأس الجماعي قد استبدّ بالشعب حدّ أن الغالبية لم تعد تقوى على الحلم بسقوطه، لكنّه سقط، وشكّل سقوطُه لحظةَ فرح جماهيري عارم عاشه الشعب السوري بكل أطيافه، ما عدا بعض المستفيدين السابقين منه. لكن بعد مرور عام على هذا السقوط، لم يتحسّن الواقع السوري، بل إن الشروخ والانقسامات المجتمعية ازدادت عمقاً وتشعّباً. ربّما يقول بعضهم إن عاماً في تاريخ الشعوب والتحوّلات الكبرى لا يمكن اعتباره مقياساً، فهذه التحوّلات تحتاج إلى الزمن كي تختمر وتنضج. صحيح، لكن عندما يشاهد المرء الانهيار مستمرّاً، وبصورة دراماتيكية أحياناً، بدلاً من توقّف هذا الانهيار أو رأب الصدوع كي لا يحدث، فهذا أمر مقلق.
لا يمكن التعويل على وعي الشعب في هذه المرحلة، إنما يمكن التعويل على ضمائر الناس وملامسة الخير والنزوع نحو الحياة بدلاً من الموت، فالشعب السوري الخارج من تحت ركام عقد ونصف العقد من الحرب الشرسة، لم تبدأ معاناته معها فحسب، بل قبلها بعقود، اجتمعت خلالها عليه ظروف متنوعة أدّت إلى دفعه نحو الانفجار، وكان أن انفجر منذ العام 2011.
فكيف كان حال السوريين قبل 2011؟ علاوة على الحكم الديكتاتوري في عهد حافظ الأسد، كانت هناك ظروف محلّية أخرى كالجفاف الكبير ما بين (2006 – 2010)، الذي أدّى إلى نزوح 1.5 مليون فلّاح نحو المدن، تحت ضغط الجفاف وغياب مشاريع الدعم الحكومية، بحسب بعض الدراسات، ما أدّى إلى نشوء العشوائيات حول المدن، والمجتمعات الموازية، وبطالة كبيرة، وإحباط، وانهيار العقد الاجتماعي، ثم ما سمّي “الربيع العربي”، والقمع الوحشي… ما أدّى إلى “حرب أهلية”، ولن يفيد بشيء الاختباء خلف الإصبع ورفض تسميتها بالحرب الأهلية، بعدما أُجهِضت الثورة بتدخّل قوىً متنوّعة إقليمية ودولية.
تُعدُّ صراعات الهُويَّة من بين الأكثر فتكاً واستدامةً وتدميراً للعمران والبشر
هذه الظروف المتسارعة التي تُوِّجت بحرب دامت عقداً ونصف العقد أدّت إلى تغيّر المجتمع، وعندما يتغيّر المجتمع بسرعة (اقتصادياً، ثقافياً، سياسياً) تنهار المراجع. يصبح الوضع أرضاً خصبةً للعنف، ويسقط المجتمع في حالة “انكسار” وفوضى القيم. وتصبح الهُويَّة العرقية أو الدينية أو الوطنية هي المحفّز الأكبر للصراعات، وتُعدُّ صراعات الهُويَّة من بين الأكثر فتكاً واستدامةً وتدميراً للعمران والبشر. تتوسّع هذه الاختلافات العادية (اللغة والدين والأصل) إلى حدود لا يمكن تجاوزها، وتُستخَدم في الصراع، فيصبح “الآخر” خطيراً، وتهديداً يجب القضاء عليه. يستخدم قادة الأطراف هذه الهُويَّات لتوطيد سلطتهم وتبرير العنف، وفي الحالة السورية تعدّدت الأطراف الخارجية، وتعدّدت معها أدواتها الداخلية.
وإذا كانت الجماعات الواقعة تحت العنف مباشرة، كما في المناطق التي شهدت أقسى المعارك والعمليات العسكرية في سورية، ما أدّى إلى القتل والتهجير، تعاني من صدمات قد تطول بسبب العنف، وتنسحب على أجيال، خصوصاً من الأطفال الذين وُلِدوا وكبروا في هذه الظروف، فإن غالبية الشعب السوري نالها نصيب من الهزّات الارتدادية لهذا الزلزال الكبير، خاصةً أن عمليات العنف والقصف والتدمير كانت تُعرَض مباشرةً في عصر الثورة الرقمية ومنصّاتها الكثيرة، مدعومةً بالتجييش والحشد الطائفي والعرقي الذي اشتغلت عليه الأطراف كلّها، وبنى كلُّ طرفٍ سرديةً قدّمها إلى جمهوره، علاوة على الانهيار الاقتصادي والمعيشي.
هذا هو الواقع الذي استفاق عليه الشعب السوري بعد لحظة السقوط. لكن ما جرى بعدها كان كفيلاً بإضرام النيران في هشيم المجتمعات السورية مجتمعة. بدأت الأمور بمظاهر الإصرار على السيطرة على المجال العام وفرض حياة وفق معايير لا تتوافق مع تنوّع المجتمع السوري، ثم الاعتداءات الباكرة على أفراد من مكوّنات طائفة معيّنة، خاصةً العلوية، في حمص وريف حماة الغربي والساحل، وبعدها مجازر الساحل في مارس/ آذار 2025، واستمرار عمليات الاستهداف الفردية التي تصفها السلطة بأنها حالات فردية، عدا قضية اختطاف النساء أو الفتيات المُتكرِّر، ما دفع غالبية السكّان الذين ينتمون إلى هذه الطائفة إلى العيش مع خوف دائم. ثم جاءت أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا، وبعدها أحداث السويداء، والعنف الذي تعرّض له أبناء الطائفة الدرزية، وما نجم منها من تداخلات وخلط الأوراق بالنسبة إلى المعضلة السورية، عدا الهجوم بين حين وآخر على الجماعة المسيحية والاعتداء على حياة بعض أفرادها أو على أماكنها الدينية والمدنية أيضاً. هذا إضافة إلى أن الفوضى الأمنية باتت تتوسّع في جميع المدن السورية مثل حلب ودمشق وغيرهما. بعض هذه الاعتداءات يمكن وصفها بمحاولة للتغيير الديموغرافي، كما حصل في السومرية والمزّة 86 وبعض المناطق التي تسكنها أُسَر من الطائفة العلوية، كذلك الحادثة أخيراً في حمص بمقتل رجل وحرق زوجته مع كتابة عبارات مستفزّة طائفياً بدمائهما على جدران المنزل، وفزعة عشيرة بني خالد والهجوم على الأحياء العلوية في حمص، لولا تدخّل قوى الأمن العام واحتواء الأمر قبل أن يتفاقم أكثر، مع بيان وجهاء العشيرة من أجل حقن الدماء، خاصةً أن بيان وزارة الداخلية الأولي حول الحادث يشير إلى أنه ذو طابع جنائي وليس طائفياً.
السلطة السورية وحدها يجب أن تملك القوة والنيّة لصياغة قوانين رحبةٍ ومتينةٍ تضبط الشارع
أدّت هذه الحوادث كلّها، الفردية والجماعية، مع التضليل الإعلامي وغياب الشفافية، إلى شعور الخوف والإقصاء عند بعض مكوّنات الشعب، خصوصاً بالنسبة إلى الطائفة العلوية التي تدفع الفاتورة الأكبر عن إجرام النظام، بسبب الصورة النمطية في الوعي الجمعي على أنها كتلة واحدة صلدة أيّدت النظام الساقط، مع غياب العدالة الانتقالية وعدم محاسبة الضالعين الفعليين بجرائم النظام البائد، ما أدى إلى التظاهر في عدّة مدن وبلدات في الساحل وحمص بطريقة سلمية من أبناء الطائفة، رافعين شعارات مطلبية محقّة إلى حدٍّ كبير، فهذه الجماعة سُرِّح عدد كبير من أبنائها، ولديها آلاف من العسكريين المُعتقَلين من دون محاكمة، وانتهكت مناطقها واشتعلت الحرائق في أراضيها، فلم تعد صالحةً حتى للزراعة، وهي جماعة في الأساس تقوم على أساسيات قليلة: التعليم والوظائف في الدولة والزراعة، على الرغم من أن نظام الأسد (الأب والابن) فتَّت حتى هذه المنظومة لديها، عندما جعل قسماً كبيراً من أبنائها وقوداً في حربه. تعاملت قوى الأمن العام بمسؤولية مع المظاهرات، لكن مقاطع الفيديو التي عمّت مواقع التواصل أظهرت مجموعات شعبية تنتمي إلى الطائفة السُّنية تهجم على أحياء العلويين، كما حصل في حيِّ الزراعة في اللاذقية، وهي تردّد شتائم تنتهك عرض أمّهات الطائفة، مع تكسير بعض المحالّ والسيارات. باتت هذه الظواهر معروفةً ومفهومةً بالنسبة إلى حالة سورية، فيها تسييس للهُويَّات العرقية أو الطائفية أولاً، ثم تجريد الجماعات من إنسانيتها، فماذا يمكن للمواطنين فعله لمنع الحروب من هذا النوع؟ ومنع شبح التقسيم من الاقتراب من جسد سورية، خصوصاً بعد تصريحات المبعوث الأميركي توم برّاك بأن حدود سايكس بيكو ليست مُقدَّسةً؟
إذا لم تستدرك السلطة الحالية الأخطاء والعثرات التي تقع فيها، وإذا لم تسعَ إلى تنظيم حوار وطني بين أطياف الشعب كلّه، وتعزيز المواطنة، فإن الشعب ليس مؤهّلاً في الوقت الحالي لتنقية النفوس من خطاب الكراهية. لا بدّ من منع النزاعات المستقبلية، وهذا لا يتم من دون فهم جذورها والإقرار بهذه الجذور، وإلا ينذر المستقبل القريب في سورية بكارثة. الكرة اليوم في ملعب السلطة، هي الوحيدة التي يجب أن تملك القوة، وتملك النيّة في صياغة القوانين الرحبة المتينة في الوقت نفسه، التي تضبط الشارع، ما دام أن الغالبية في أقصى درجات التوتّر، وأن الهُويَّات الدينية والطائفية هي الوحيدة التي باتت تقود الجماعات.
لقد وضع القرار الصادر أخيراً من مجلس الأمن حول سورية 2799، بشأن رفع العقوبات عن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع ووزير الخارجية أنس خطّاب (6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، سورية تحت رحمة الفصل السابع، فماذا تستطيع القوى الخارجية، وماذا تستطيع منظمة الأمم المتحدة في إخماد هذه الحروب وعلاج نتائجها إذا لم تعرف السلطة إدارة هذه الأزمات البنيوية؟ في الواقع، غالباً ما تعيق القوى الكبرى مجلس الأمن لحماية مصالحها، لكنَّ مصلحة الشعب السوري، الذي من حقّه العيش في دولة تحفظ له كرامته، لن تتحقّق إلا بمشاركة الجميع في القرارات وإدارة البلاد.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى