اختبارات الشتاء والسياسة

جمال الشوفي

في بداية مواسم الشتاء يعاين الفلاح أرضه ونيّته زراعتها، وما سينتظر أن يجنيه نتيجة لتعب حولٍ كامل. المثير للإدهاش ليس فعل الفلاحة والبذار بذاته كعمل اعتيادي تاريخي بحكم استقرار وإسكان المعمورة، بل تلك اللحظة التأملية التي يمارسها الفلاح حين يبذر أرضه، إذ يملأ كف يده قمحًا وينثره في السماء وهو يقول في نفسه: هذه للأرض خيرًا علّها تنبت سنابلاً، وتلك للسماء أملاً وللطير العابر بين حنايا البرد كرماً، أما هذه فللريح تحمله لأرض جاري علّها تنبت عنده، ويطوّح بيده للأعلى وينثر القمح على مدّ يده. فهل ثمة من لا يزال يمارس هواية الفلاح وحرفته في البذار، وحرفته ليست عملاً ميكانيكيًا بل يجبله بروحه وقلبه أملاً وروحًا وتعبًا وعملاً، علّه يصل لموسم الحصاد وقد أتقن عمله والعناية بزرعه وأرضه وناسها؟
وسؤالنا اليوم هو ذاته: هل يمكننا إتقان فعل الفلاح كفلسفة حياة؟ سؤال نحتاج للإجابة عنه لإتقان صنعة الفلاح في الكتابة وبذر الكلمة في كل اتجاه؛ كلمة مسؤولة في القانون والقضاء، وكلمة معيارية في الإدارة، وأخرى شغوفة وحنونة تمسّ أوجاع المظلومين والمقهورين، وأخرى ننثرها في الكون في السلام والإنسانية.. وربما هكذا اعتادت البشرية الفعل نهاية كل عام وهي تعلّق الأماني على عام قادم، وهذا ما لا نزال نمارسه كسوريين، خاصة وأن جبل الاستبداد الجاثم على صدورنا قد انزاح ودخلنا في مرحلة التغيير منذ حول مضى، فهل نتقن صنعة الفلاح في بذار السياسة والشأن العام؟
الانتقال من صقيع الدمار والتهجير والاعتقال إلى شتاء يُنذر بالخير والأمل وشفاء الجروح العميقة التي طالت مجتمعنا هو ما علينا تجهيز بذاره، وليس فقط بل إتقان صنعة الفلاحة ذاتها. فقد مرّ العام الفائت ولا نزال نحاول التعلّم ولكن لم يأتِ حصادنا على قدر بذارنا وعملنا لسنوات وسنوات. وقد يقول قائل إن حجم التركة السورية لا يمكن تجاوزها بعام واحد، وهذا كلام حقيقي بالمبدأ. فإذا ما نظرنا إلى ملفات سوريا المتعددة والمتداخلة سواء على:
مستوى تركيبة البنية الاجتماعية التي تنتابها موجات خطاب الكراهية والطائفية والنزعات الانتقامية،
انفلات السلاح وعدم انضباطه في مؤسسات رسمية تتعامل وفق القانون لا منطق الفصائل أو الفزعات أو التقوقع الطائفي الضيق،
وتهشّم البنى الاقتصادية العامة، وترهّل العمل السياسي وعدم قدرته على تفعيل عديد المنصّات التي أُنشئت خلال سني الثورة؛
أو على مستوى الملفات الخارجية بدءًا من العقوبات المفروضة على سوريا الدولة،
تعدد الوجود العسكري فيها خاصة الروسي والأميركي والتركي وبقايا الفلول والإيرانيين،
والتدخلات الإسرائيلية المتتالية عسكريًا وأمنيًا في الشأن السوري الداخلي، ولك أن تعدّ التفصيلات التي لا تنتهي من جردها،
فكيف وإن توقفنا مع الشروط الأميركية المتعلقة بداعش والعناصر الأجنبية والفصائل الخارجة عن القانون؟
إن كانت بنيوية سلطات الشرق ذات الطابع الشمولي التي هيمنت على المنطقة لعقود قد تهاوت سياسيًا أمام تغيرات المنطقة برمتها الناتجة عن الربيع العربي وإن تغيّرت مساراته ونتائجه، لكن بقيت البنية الذهنية التي ولّدها في اختبار فاضح حقيقي اليوم.
حقيقة المشهد اليوم في سوريا لا يمكن بناؤه على أرضية دائمة التحرك بالسياسة، بقدر الوقوف على أرض ثابتة يمكن التحرك على أساسها بمساراتها المتعددة الداخلية والخارجية. وتجهيز هذه الأرضية هو هدف المرحلة الانتقالية برمتها، أي تهيئة البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية من مرحلة القلق والفوضى وتضارب المصالح لمرحلة العمل السياسي والانتخابات وممارسة شؤون الدولة. فلقد ضربت ثورات الربيع العربي، لا بُنى الاستبداد السياسي فحسب، بل بُنى المجتمع بكل جوانبه، وأسهمت ارتداداته العنفية في خلق شروخ عميقة مجتمعية على أساس الطائفة والدين كما السياسة والأيديولوجية. وهو ما نشهد ارتداداته بشكل متكرر في مناطق سورية متعددة تهدد كل المرحلة الانتقالية والهوية الوطنية.
كما وتتابع أيديولوجيات الشرق المستعصي تقديم ذات الوجبات المتعاطية مع السياسة كفعل تبرير فاقع فجّ تحت عنوان الواقعية، أو نظريات عمومية ثقيلة على الاستهلاك البشري تحت عنوان العقلانية. وكلاهما الواقعية والعقلانية السياسية براء منهما، إذ لم تشهد الساحة السورية بعد تقديم نماذج عمل سياسية تقوم على جمع المعطيات وتحليلها ومعاينة الممكنات والفرص وطرح المعيقات والتحديات علنًا أمام الجمهور!
فإن كانت بنيوية سلطات الشرق ذات الطابع الشمولي التي هيمنت على المنطقة لعقود قد تهاوت سياسيًا أمام تغيرات المنطقة برمتها الناتجة عن الربيع العربي وإن تغيّرت مساراته ونتائجه، لكن بقيت البنية الذهنية التي ولّدها في اختبار فاضح حقيقي اليوم. ومعايير هذا الاختبار متعددة فهي:
اختبار لارتباط ظاهرة العنف بالعمل السياسي السلطوي أو المعارض من أي نوع كان سياسيًا أو طائفيًا.
اختبار لارتباط ثقافة التأخر المجتمعي المستندة إلى القبيلة والعشائرية والطائفية.
اختبار الانفكاك عن الارتهان للمشاريع الخارجية التي نكّلت بسوريا والسوريين.
اختبار الانتقال من فعل الثورة كفعل هدم وتفكيك، إلى فعل الدولة في البناء والترميم.
اختبار القدرة على معالجة ملفات الانتهاكات الحقوقية بحق المدنيين وكل أطياف الشعب السوري وتحقيق العدالة الانتقالية.
واختبارات وامتحانات شتى…
ذهنية العنف والتي كانت موصوفة بها السلطة بنيويًا، ورغم دراستها في تجارب الشعوب الأخرى، لكن نادرًا ما كانت موضع تحليل أو دراسة في شرقنا، مع أنها لعبت وتلعب الدور الأساسي في الحياة السياسية والاجتماعية لتاريخنا وحاضرنا المبني على الثارات والغزوات للأسف. فكل عنف يرتبط بالأيديولوجيات الشمولية الاستبدادية سيتحوّل لعنف مجتمعي متعدد المستويات أفقيًا وعموديًا، ما يجعل مقولة الاختبارات مقولة محفوفة بالمخاطر تتطلب العمل عليها وفق آليات إعادة توزيع وإدارة السلطات بمهام محددة تنتج في تكاملها علاج ظواهر العنف العام السلطوي أو المجتمعي، وهو سؤال الراهن وإجاباته الممكنة.
إن كان ثمة عنوان للشتاء القادم فهو اختبار السياسة كفعل تحرير وبناء، فعل إنتاج وعناية وتعدد مساراتها.
ونحن ندخل في شتاء جديد بعد سقوط النظام السوري، تقول فلسفة الفلاح: ماذا لو رجعنا لحكمة من ارتبط بالأرض واعتنى بها وحافظ على وجوده فيها ووجودها فيه؟ ماذا لو نثرنا بذارنا واختبرنا زرعنا لعام قادم:
هذه لتجريم خطاب التحريض الطائفي وتقديم مروّجيه للقضاء والعدالة ونشر ثقافة التآخي والمحبة وحوار الأديان بدل العنف المتبادل اللفظي والمادي.
وهذه للمصالحات الوطنية في الساحل والجنوب السوري وتحقيق العدالة الانتقالية.
وهذه لتغيير الذهنية الأمنية من عمل فصائلي لعمل مؤسساتي بمرجعية القانون والأمر القضائي وتحقيق سيادة القانون.
وهذه لضبط السلاح المنفلت بكل الأراضي السورية ومن كل الأصناف وتحقيق الاستقرار والأمان.
وهذه لإعادة الإعمار والمشاريع التنموية الفعلية.
وهذه لحرية العمل المدني والسياسي وترخيصها قانونيًا والانفتاح على الحرية والمسؤولية والفاعلية.
وهذه، وهذه ذات غصّة وألم، هذه لأمهات الضحايا المدنيين السوريين في المعتقلات والسجون، ضحايا الأعمال العسكرية المنفلتة طوال سنوات الثورة وامتداداتها السنة الماضية، وعنوانها: لا نريد لأمّ سورية أن تدمع عينها بعد اليوم، كما عبّر أبراهام لينكولن بعد الحرب الأهلية الأميركية، بأن الأمهات هنّ أولى أولويات الترميم النفسي للمجتمع.
فإن كان ثمة عنوان للشتاء القادم فهو اختبار السياسة كفعل تحرير وبناء، فعل إنتاج وعناية وتعدد مساراتها. هو البحث في طرق الانتقال إلى موضوعة السلطة كحالة إدارة مهنية على أرضية الفعل السياسي كمهنة واحتراف حسب “ماكس فيبر”، والتوزّع الأفقي للحقوق السياسية وأشكال الإدارة السياسية والمجتمعية، كمقدمات أولى لاستعادة التعاقد المجتمعي. وهو ما قد يعيد تعريف السياسة والسلطة وارتباطهما بالقيم المجتمعية كشأن عام، لا بالعنف واحتكار السلطات وحسب.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى