
يعرف المشهد السياسي والحزبي في المغرب مجموعة من التحوّلات التي ساهمت وتساهم في تركيب كثير من مبادئه وأنماط عمله وترتيبها. حصل ذلك بكثير من التدرّج والمرونة، وشكّل واحدةً من سمات التعدّد الحزبي، وتَحَوَّلَ اليوم إلى وضع شبه ثابت، ساهم النظام السياسي القائم في ضبط ملامحه الكبرى والعامة، بكل ما صنعه من قواعد في العمل، شجعت أغلبية الأحزاب على نوع من التواطؤ، الذي يقبل تقنيات نظامه الانتخابي، ويشارك في تلوين بعضها، ثم يقبل أشكال تسييره الانتخابات التشريعية، والأغلبيات الحكومية التي ستناط بها مهمة القيام بالسياسات العمومية. لا مفر في ضوء هذا من الإقرار بنوع من الوصاية التي يمارسها النظام على مختلف أوجه المشهد السياسي وتجلياته.
ترتّب عن ذلك تضخم ظاهرة العزوف السياسي، عزوف الشباب وبعض النخب، وتَحَوُّل الأحزاب في أغلبها إلى مؤسّسات فارغة، يكتفي القائمون عليها بأنواع من التعبئة والعمل، مقرونةً بالمهام التي يحرص النظام، كما أشرنا، على المطالبة بها وضبطها، ثم متابعة آليات تنفيذها. ولم يعد الأمر يتعلق، في السنوات الأخيرة، بالأحزاب المعروفة بأحزاب الإدارة، وما سُمّيت أحزاب الوسط، التي يُعَدّ بعضها كلما اقتضى الأمر ذلك، من أجل توظيفها في المشهد الحزبي، لبناء الأغلبيات لحظة تشكيل الحكومة، بل شمل أيضاً الأحزاب الوطنية، بما فيها بعض الأحزاب اليسارية، وقد تحوّلت، في السنوات الأخيرة، إلى أحزاب مماثلة لأحزاب الإدارة، وارتضت بدورها الخضوع للترتيبات التي يعدّها النظام. لم يعد بإمكانها أن تقول لا، لكل من يرى النظام السياسي أنه مناسب للمجتمع وتحولاته.
لم يعد هناك فرق بين الأحزاب داخل المشهد الحزبي المغربي، صحيحٌ أننا ما زلنا نتحدّث عن اليمين واليسار والوسط، كما نتحدّث عن الإسلام السياسي واليسار الراديكالي وأحزاب الحركة الوطنية، إلا أن أغلبية الأحزاب لم تعد أكثرمن مجموعات صغيرة تنتظر أدواراً محدّدة تسند إليها، في دورات الانتخابات التشريعية، وتنتظر، بعد ذلك، القيام بمهام مرسومة في الأغلبية أو المعارضة القادمة. وفي قلب عمليات الترتيب والتدبير المسبقين، تواصل الأحزاب انتظار الأدوار التي سَتُناط بها، ويواصل الشباب عزوفه عن العمل السياسي الحزبي، ولا يتوقف عن ممارسة أشكال من الحضور السياسي في الفضاءات الرقمية، حيث يواصل حضوره السياسي في قلب المشهد السياسي وخارج مؤسساته، الأمر الذي يُولِّد مشهداً سياسياً موازياً لما هو سائد، إلا أن لا أحد يستطيع استبعاد إمكانية ارتباط الأول بالثاني، أو حصول نوع من التداخل والاختلاط بينهما. يبتعد الشباب من سياسة المؤسسات ويبني سياسة المواقع في الشبكات، مُغفلاً أن المواقع في الشبكات مؤسسات، وهو يرفض الأحزاب والحكومات والخيارات القائمة، ويدعو مقابل ذلك، إلى بناء دولة القانون والعدالة، فكيف نفهم تناقضات الموقف الذي سطرنا؟
يستوعب المشهد السياسي نظاماً سياسياً يُصِرُّ على تسيير هذا المشهد، كما يُصرّ على وصايته الكلية على تحولاته. وهو يستوعب أحزاباً لا يتردّد أغلبها في التواطؤ مع النظام، لضمان إمكانية مشاركته اليوم أو غداً، في تدبير الأغلبيات المنتظرة، ووسط حسابات براغماتية، تتبلور زعامات تقبل القيام بأدوار مُحدّدة، وتنشأ خطابات في السياسة لا تجد أي حرج في الحديث عن مغرب يجري بسرعتين، رغم أن الدستور المغربي يحدد أنظمة عمل دولةٍ جامعها يتمثل بقوانين وأنظمة متوافق عليها.
استسهل اليسار المغربي، في كثير من أجنحته، المفردات والمفاهيم المسكوكة، ولم يعمل على نَحْت (وابتكار) المفردات، القادرة على الإمساك بأسئلة المجتمع وظواهره
عندما ننتقل من الحديث العام عن المشهد الحزبي المغربي، ونقف أمام الوضع الخاص لبعض تياراته، سنجد أنفسنا أمام أهم المعضلات التي تبرز الأعطاب التي تقف حائلاً من دون حضورها الفاعل في المجال السياسي المغربي. معاينة أحوال اليسار المغربي، على سبيل المثال، سواء في تنظيماته، أو في إعلامه ولغته، أو في نمط انخراطه في المجال الافتراضي، وصُور استخدامه للوسائط الاجتماعية، تُظهِر، بصورة أو بأخرى، بَعْضَ صُوَّرِ التَّصَلُّب التي لحقته في مشهدنا السياسي. وضمن هذا السياق، نفترض أن جوانب عديدة من مظاهر فقره النظري، تعود إلى إهماله البعد الثقافي، ومختلف الروافد الفكرية، التي نعرف أنها منحته خلال مختلف أطوار تشكُّله الأولى، القوة التي كان يتمتع بها، خلال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
استسهل اليسار المغربي، في كثير من أجنحته، المفردات والمفاهيم المسكوكة، ولم يعمل على نَحْت (وابتكار) المفردات، القادرة على الإمساك بأسئلة المجتمع وظواهره، ومن هنا نتصوَّر أن تعزيز حضوره السياسي يقتضي مواصلة العمل على مزيد من تحديث المجتمع، ولا يصبح ذلك ممكناً، من دون رفع حالة التشرذم وبناء قطب سياسي، يكون بإمكانه بناء مرجعية وأفق في العمل السياسي، لا يفصل فيهما بين مطلب الحرية والحريات، والقانون والمؤسسات، ومطلب العدالة والمساواة. إضافة إلى ذلك، تطالب أحزاب كثيرة بدمقرطة الحياة العامة في المجتمع المغربي، ويجري التخلي عن ممارسة الديمقراطية داخل تنظيماتها ومؤتمراتها، حيث أصبحنا نلاحظ، في السنوات الأخيرة، عدم قدرة المنتسبين إليها، على ترك مقاعدهم للأجيال الجديدة، متناسين أهمية دمقرطة المؤسسات وأهمية تشبيبها.
لم تستطع أحزاب اليسار في المجتمع المغربي القيام بالنقد الذاتي بالصورة التي تُؤَهِّلُها للوعي بمقتضيات تحوُّلات عالم تطبعه أزمة القيم
لم تستطع أحزاب اليسار في المجتمع المغربي، وهي في الأغلب الأعم، أحزاب اشتراكية مع مجموعات قليلة تتبنَّى الماركسية من منظور عقائدي وُثُوقِي، لم تستطع القيام بالنقد الذاتي بالصورة التي تُؤَهِّلُها للوعي بمقتضيات تحوُّلات عالم تطبعه أزمة القيم، ومجموعة من الثورات التقنية المتلاحقة بإيقاع سريع. ولم تنتبه تياراته بصورة جِدِّية للأجيال الجديدة من المفاهيم التحديثية، التي أصبحت مُتداولة في الخطابات السياسية، فظلت في أغلبها تتحدث لغة لم تعد قادرة على الإحاطة بما يجري في مجتمعنا. وتَرَتَّب عن ذلك حصول مسافة تزداد اتِّساعاً بين شعاراتها ومتطلبات المعارك التي تجري في المجتمع المغربي. ومن هنا فإننا نتصوَّر أن أنماط الصراع الحاصلة اليوم داخل مجتمعنا، تدعو اليسار إلى بلورة مواقف وآليات جديدة في التعبئة، من أجل التَّمَكُّن من مواجهة مختلف التحدِّيات التي نشأت وتنشأ اليوم في المجتمع المغربي.
أمام عزوف الشباب وبعض النخب عن العمل السياسي، وتواطؤ أغلبية الأحزاب مع النظام، وسيادة الوصاية المطلقة للنظام على مختلف تلافيف الحياة السياسية، إضافة إلى التمييز بين منطقي السيادة وتصريف الأعمال في النظام المرتبط بالسياسات العمومية، نصبح أمام مغرب السرعتين، وأمام أحزابٍ تنتظر موعدها.. ويزداد المجتمع المغربي ابتعاداً عن الديمقراطية وقيمها.
المصدر: العربي الجديد






