العروبة والعرب يفقدون مناضلًا قوميًا فذًا وكبيرًا ||  “المغرب” ملكًا وشعبًا يودع عبد الرحمن اليوسفي

محمد خليفة

أعترف أني من أشد المعجبين بتجربة المغرب السياسية بين القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، فهي الأفضل منذ نهاية الحكم العربي في الأندلس، ونهاية الخلافة العباسية الى اليوم.

أصبح بعد سقوط الاندلس ملاذا للعرب واليهود الفارين من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، وصمد أمام غزوات الاسبان والبرتغاليين المتكررة على مدى قرون. كما صمد في وجه محاولات العثمانيين الوصول اليه وضمه للسلطنة. كما أصبح منارة للإسلام في غرب افريقيا على مدى قرون، وامتد تأثيره الى عموم الساحل الأطلسي لأفريقيا.

عرف المغرب الاستقرار في ظل الأسرة العلوية على الرغم من تواتر الحملات عليه دائما، وتمزيق وحدته الترابية جزئيا. ونشأت علاقة قوية فريدة بين الاسرة المالكة والشعب المغربي لأنها حمت استقلال البلاد وقاتلت الغزاة ودحرتهم، وحفظت التوازن الداخلي والتنوع العربي – الامازيغي – اليهودي، وبين الهوية الوطنية والهوية القومية.

 خضع المغرب في العصر الحديث للاستعمار الفرنسي عام 1912 وعزل المحتلون السلطان عبد العزيز ونفوه الى خارج المغرب، ولكنه تبنى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال ودعمها من منفاه . وعندما آل العرش للسلطان محمد الخامس انضم هذا لجبهة المقاومة الوطنية  ضد فرنسا ، وعندما انتصرت هذه واضطرت فرنسا للتفاوض على الاستقلال حاولت أن تنهي الحكم الملكي ، إلا أن كبار زعماء المقاومة تمسكوا بعودة السلطان الى العرش . واتفقوا معه أن يصبح المغرب بعد الاستقلال دولة ملكية دستورية ديمقراطية . وبالفعل عرف المغرب تعددية حزبية وصحافة حرة وحياة ديمقراطية كما شهد مرحلة من القمع في ظل حكم الحسن الثاني ولكن في إطار وحدة وطنية تجمع العرش والمعارضة لم يشذ عنها أي فريق في وقت كان العالم العربي ، بأكثريته الساحقة يفتقر للتعددية ، أما المغرب فلم يستثني حتى الحزب الشيوعي من تعدديته رغم الانقسام الذي خلقته الحرب الباردة في العالم كله .

 ومنذ 1959 استعاد المغرب سيادته على جبال الأطلسي بفضل ثورة عبد الكريم الخطابي وقتاله العنيد ضد المحتلين الاسبان والفرنسيين ، ثم استعاد سيطرته على الصحراء الغربية من الأسبان أيضا بفضل وحدة المغاربة على تبعيتها لهم ، ورفضهم لانفصالها عنه ، كما أرادت جبهة بوليزاريو التي تبنتها الجزائر . وتجدر الاشارة الى أن الملك الحسن الثاني قاد بنفسه المسيرة الخضراء التي شارك فيها 350 الف مغربي للصحراء الغربية عام 1975 بينما عارضتها اسبانيا والجزائر، وحاولتا خلق كيان مستقل فيها يخضع لنفوذهما .

 ورغم ما يقال عن علاقات مبكرة بين العرش المغربي واسرائيل ، فاجأ الحسن الثاني عام 1972 بإرسال قوات عسكرية نظامية الى سورية للمشاركة في حرب تشرين لتحرير الجولان عام 1973 ، وكانت مشاركتها مهمة وليست ثانوية .

وهكذا فالمغرب مثله مثل مصر إحدى الدول العربية القليلة التي تتوفر فيها دولة مركزية عريقة وسلطة شرعية تاريخية وكيان مستقر .

تذكرت هذه الخلفية وأنا أتابع التقارير عن وفاة المناضل الكبير عبد الرحمن اليوسفي رئيس الحكومة المغربية يوم الجمعة الماضي . إذ أن ما حدث بهذه المناسبة يبين مدى تميز المملكة المغربية عن بقية الدول العربية في تعامل الاسرة المالكة مع مواطنيها ، وتعامل مواطنيها وزعمائها ومعارضتها مع النظام والاسرة الحاكمة .

قبل وفاة اليوسفي بأيام عاده الملك محمد السادس في المستشفى وانحنى عليه طابعا قبلة على جبينه، تعبيرا عن تقديره لما أسداه لبلده من نضالات وتضحيات.

 حتى نفهم مدى التميز المغربي علينا أن نتذكر أن اليوسفي قضى أكثر من نصف قرن معارضا شرسا للملك الراحل الحسن الثاني وللنظام، ولاحقه النظام وحاكمه غيابيا، وحكم عليه بالإعدام، وعاش في المنفى ثم صدر عفو ملكي عنه عام 1980 وعاد البلده ، وقاد حزب الاتحاد الاشتراكي للفوز في انتخابات 1998 وصار آخر رئيس حكومة في عهد الحسن الثاني الذي مات عام 1999 ، وأول رئيس حكومة في عهد الملك محمد السادس . وقال في مناسبات عديدة رحمه الله (قلت “لا” حين كان يجب علي أن أعارض، وقلت “نعم” حين كان موقف النظام صحيحا).

 اليوسفي : قرن من النضال

بوفاة هذا الرجل فقدت العروبة ، وفقد العرب جميعا لا المغاربة فقط يوم الجمعة 29 مايو مناضلا من أبرز المناضلين القوميين في بلاد ” المغارب ” ، ينتمي لجيل الآباء المؤسسين .

  كان أحد أهم الأمناء العامين في تاريخ (الاتحاد الاشتراكي)، أكبر أحزاب اليسار القومي المعارضة في المغرب، وأحد أشد المؤمنين ب (وحدة المغرب العربي) منذ عهد الاستعمار الفرنسي للمنطقة، وأحد أبرز العروبيين الديمقراطيين الصادقين في سلوكهم ونضالهم المشرف.

رحل أخيرا عن الدنيا بعد أن سطر ملحمة نضالية حقيقية ، امتدت قرنا كاملا بين ولادته في طنجة عام 1924 الى أن توفاه الله يوم الجمعة الماضي 29 مايو 2020 . وسجل آخر مواقفه بدفاعه الشديد عن ثورات الربيع العربي منذ 2010 الى اليوم . وهو موقف منطقي ينسجم مع مسيرته ، إذعاشها من ألفها الى يائها في النضال المبدئي الثابت من أجل بلده وشعبه وأمته ، مع رعيل فذ من الآباء الخالدين من زعماء المغرب منذ علال الفاسي ، وعبد الكريم الخطابي ، والمهدي بن بركة ، وعبد الله ابراهيم ، وعبد الرحيم بو عبيد ، ومحمد بوستة ، وعمر بن جلون ومحمد اليازغي .. إلخ .

يصفه المغاربة بأنه أكثر رجال السياسة في بلدهم استقامة ونزاهة واخلاصا، وكان يعد أكثر الشخصيات التوافقية يوحد كافة التيارات، ولا يتردد في التجرد عن النزعة الحزبية والتعالي عليها في سبيل توحيد المغاربة والصف الوطني إذا احتاج الأمر ، ويصفونه بالمجاهد والقائد .

في يناير 1984 كنت في زيارة مهنية للمغرب لتغطية القمة الاسلامية في الدار البيضاء ، واستغليت الزيارة للتعرف على هذا البلد العريق فمددت زيارتي ثلاثة اسابيع ، التقيت خلالها بعشرات الشخصيات السياسية والثقافية . ومن سوء حظي أن البلد شهد فجأة انتفاضة شعبية بسبب الفقر ، ساندتها احزاب اليسار ، فألقى العاهل الراحل خطابا هدد فيه المعارضة بقبضته الحديدية ، وذكرهم بقمعه لهم في انتفاضة الناضور قبل عشرين سنة !  وحددت الشرطة إقامتي في الرباط ومنعتني من الجول بين المدن لكي لا أغطي الاحداث ، ولكني رغم ذلك اتصلت ببعض زعماء المعارضة لإجراء مقابلات معهم ، ففوجئت بأن أكثرهم هرب أو توارى عن الانظار ولم يعد يرد على الهاتف تحاشيا لغضب السلطة ، باستثناء بعض الشخصيات الشجاعة ، وكان اليوسفي منهم ، فاستقبلني في مكتب الحزب ، وأجاب على اسئلتي بشرط عدم نشرها ، وأذكر أنه قال لي (نحن في الاتحاد الاشتراكي نراقب التطورات بحذر ، وندعم المطالب الشعبية المحقة ، ونرفض التهديدات ، وانقلاب السلطة على المسار الديمقراطي ، والعودة لسنوات القمع ، وإلا فسيكون لنا موقف آخر) أي أنه رد على تهديد الملك بتهديد مثله ، مع أن الأمين العام عبد الرحيم بوعبيد كان متواريا عن الأنظار، وهو الذي طلب من الأمين العام المساعد محمد اليازغي أن يقابلني ويرد على أسئلتي ليكون حديثه رسميا . وأذكر أن الصديق العزيز عبد الجبار السحيمي مدير تحرير صحيفة العلم الذي رتب لي اللقاء واصطحبني الى الموعد : قال لي بعد خروجنا ، تصريح اليوسفي هذا  في هذه الأيام العصيبة خطير وينم عن شجاعة فائقة ، ولو وصل للملك سيأمر باعتقاله حتما !

الجدير بالذكر أيضا أن اليوسفي تعرض لمحاولة اغتيال نجى منها بفضل الله بينما استشهد رفيقه عمر بن جلون ، وقتل أيضا في نفس الفترة المهدي بن بركة في باريس بتواطؤ بين الاستخبارات الفرنسية والمغربية ، في عهد الجنرال أوفقير الذي كان ذراع الملك الضاربة ضد المعارضة ، قبل أن يحاول الانقلاب عليه .

طبعا أنا لا أقول إن المغرب دولة مثالية أو حتى ديمقراطية ، لكنني أقول إنه بلد فريد مقارنة بكل الدول العربية، فهو الوحيد الذي شهد تجربة سياسية وديمقراطية تتسم بالمرونة والاعتدال والوسطية والاستقرار السياسي بين الدول الأخرى الملكية والجمهورية  . وكما انتقل اليوسفي من محكوم بالاعدام الى رئيس حكومة وزعيم سياسي معارض ، فقد تكرر المثال مع الزعيم الراحل محمد البصري الذي مارس العنف وحمل السلاح ضد النظام ، فحكم عليه بالاعدام أيضا ، فهرب وعاش في المنفى سنين طويلة ، متنقلا بين الدول العربية واوروبا ، وكان الجميع يستقبلونه بحفاوة استثنائية في المشرق والمغرب واوروبا الشرقية ، ثم عفى عنه الملك وعاد للمغرب واستقبله هو باحترام ، وطويا الصفحة ، دون أن يطلب الملك منه أو من اليوسفي التخلي عن مبادئهما الاشتراكية والديمقراطية ، ولم يساومهما على حقوقهما كما يفعل الآخرون ، أو يمكرون بمعارضيهم ويغتالونهم بعد العفو عنهم !

هل يتعامل بقية الحكام العرب بهذه الطريقة مع معارضيهم ..؟؟!

المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى