الحرب الإسرائيلية واستكمال إلغاء الفلسطينيين

سمير الزبن

يقول الدرس السياسي الأشهر “ليس هناك عدوّ دائم وليس هناك صديق دائم”. تتبدل مواقع المتصارعين وتتبدل تحالفاتهم بين صراع وآخر، فليس هناك ما هو ثابت في عالم السياسة، كلّ شيء متغيّر. تبدو إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين استثناء يؤكد القاعدة. فمنذ تأسيس إسرائيل، حتى قبل ذلك، جرى إنتاج صورة الفلسطيني في السردية الإسرائيلية عدواً دائماً، وهذا ما قرّرته طبيعة إسرائيل نفسها مشروعاً استيطانيّاً إجلائيّاً اقتلاعيّاً إلغائيّاً في مواجهة الفلسطينيين. وطالما لم يختفِ الفلسطينيون نهائياً من الخريطة السياسية للمنطقة، فلا يمكن لإسرائيل سوى أن تتعامل معهم عدوّاً، لأن من تريد إلغاءه، إذا لم تستطع القيام بالمهمّة، فإن وجوده يعني إلغاءها، لأن إسرائيل المشروع تقوم على أنقاض الفلسطينيين، طالما هم يخرجون من تحت الأنقاض التي تدفنهم تحتها، فهذا يشكل خطراً وجودياً عليها، لأن الصراع على الأرض نفسها، وواحدة من السرديتين يجب أن تختفي تحت الأخرى، فإذا وجدت إسرائيل يجب أن تختفي فلسطين، وإذا وجدت فلسطين يجب أن تختفي إسرائيل، فالصراع على الأرض نفسها، وليس على تقاسمها عبر مشروع سلام، أفشلته إسرائيل المرّة بعد الأخرى، لأن متطلبات السلام تحتاج تنازلات إسرائيل تحطّم السردية التي قامت عليها.
حتى لا تصل إسرائيل إلى أي حل سلمي مع الفلسطينيين غير قادرة على دفع ثمنه، لأن السلام نفسه يفكّك الدولة المشروع إلغائي باعترافه بالعدو شريكاً في الأرض نفسها التي يسعى إلى إخفائه منها، فليس أمامها سوى إعادة إنتاج صورة الفلسطينيين، بوصفهم العدو الأبدي الذي يسعى إلى تدمير دولة إسرائيل ورمي الإسرائيليين في البحر.
عندما أرغمت إسرائيل على الالتحاق بمؤتمر مدريد للسلام في 1991، وفي سياق ترتيب الولايات المتحدة، عالم ما بعد الحرب الباردة، وولادة نظام القطب الواحد، والتي رأت، من خلاله، أنها تستطيع أن تحقق السلام في المنطقة على أساس من مقايضة “الأرض مقابل السلام”. جاء رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إسحق شامير، المجبر على حضور المؤتمر، بخطاب في مواجهة الأساس الذي قام عليه المؤتمر “الأرض مقابل السلام” بنقيضٍ له، يقول “السلام مقابل السلام”، أي أن إسرائيل غير مستعدّة لتقديم أي تنازلات أو انسحابات من أراض من أجل تحقيق السلام. ولم يكن الحال أفضل مع توقيع اتفاق أوسلو الذي ولدت بموجبه سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، التي وافقت إسرائيل على إقامتها، حتى تحوّلها إلى أداة أمنية وشرطية للتحكّم بالفلسطينيين لا أكثر.
حتى لا تخسر إسرائيل عدوّها، بقيت محافظة على سرديّتها الأساسية، بوصف الفلسطينيين الخطر الوجودي
في ذروة وعد السلام في المنطقة، لم تتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين سوى بوصفهم عدواً. ويمكن القول إن العالم كله تغيّر بعد انتهاء الحرب الباردة، حتى إسرائيل نفسها تغيّرت مع هذا التحوّل الذي غيّر شكل العالم. لكن إسرائيل، في الموضوع الفلسطيني، بقيت تتعامل مع الفلسطينيين بوصفهم عدوّاً، مثلما تعاملت معهم طوال تاريخ الصراع. وبقيت تعيد إنتاج صورتهم عدوّاً يهدّد وجودها، حتى بتزايد الفلسطينيين الديمغرافي، وبقيت السردية الإسرائيلية نفسها، قبل الحرب الباردة وبعدها. ومع إلغاء إسرائيل عملية السلام مع الفلسطينيين، ذهبت إلى صناعة السلام مع دول المنطقة البعيدة عبر “الاتفاقات الابراهيمية”، متجاهلة الفلسطينيين أساس المشكلة الموجودة في قلب دولة إسرائيل، التي طالما تعاملت مع الوضع الفلسطيني بوصفه موضوعاً داخليّاً إسرائيليّاً.
بعد انتهاء الحرب الباردة، أدرك الإسرائيليون مبكّراً صحة ما قاله ألكسندر أرباتوف المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، مخاطبا الغرب “سنقدّم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو”، لأن الحرمان من العدو يفكّك الخطاب الجامع الذي يجري استثماره في مواجهة هذا العدو طوال العقود السابقة. وحتى لا تخسر إسرائيل عدوّها، بقيت محافظة على سرديّتها الأساسية، بوصف الفلسطينيين الخطر الوجودي، ولم تكف يوماً عن قتلهم، لأنهم دائماً ما يقومون بما يهدّد أمنها، حتى عندما يرعون غنمهم في أرضهم.
كان “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (2023) الذروة في إنتاج خطاب العدو المطلق. مع التأكيد أن العملية أهانت إسرائيل وجيشها، وكشفت أن القوة العسكرية التي تفتخر بها لها “كعب آخيل” وهذا ينطبق على كل من يعتقد أنه يملك قوة مطلقة، فليس هناك قوة ليس لها نقطة ضعف. رغم كل ما جرى في ذلك اليوم، وأوجع إسرائيل، من الصعب التصديق أن القوة المتواضعة التي أصابت العنجهية الإسرائيلية بمقتل، تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، وأن مئات المقاتلين المسلحين بأسلحتهم المتواضعة قادرون على “إبادة إسرائيل”، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن العملية كلفت إسرائيل العدد الأكبر من الضحايا في يوم واحد، والمخاوف الإسرائيلية الوجودية الدائمة بسبب عقدة الهولوكوست.
تهدف إسرائيل إلى تغيير معالم المنطقة، وتكريس نفسها إمبراطورية صغرى فيها، يأتمر الجميع بأمرها أيضاً
لقد استثمرت إسرائيل في العملية، وأعادت إنتاج خطاب العدو، الذي أنتج الحرب التي استمرّت أكثر من عامين، والمرشّحة للاستئناف. على اعتبار أن الحرب هي الصانع الأكبر لتاريخ الإسرائيلي، وهو ما يفتخر به نتنياهو أنه يحارب على سبع جبهات من أجل أمن إسرائيل، وهو ما اعتبره تشريعاً لـ”الإبادة الجماعية” التي يقوم بها جيشه بحق الفلسطينيين، فقد وحدت الحرب الإسرائيليين الذين باتوا يرغبون في اختفاء الفلسطينيين من المنطقة، فقد جاء في استطلاع رأي أجرته جامعة بن ستيت في بنسلفانيا ونشرته صحيفة هآرتس في 24 مايو/ أيار الماضي، أن 82% من الإسرائيليين يرغبون في تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
الحرب التي خاضتها إسرائيل عامين، وتستعد لاستئنافها، لا تسعى من خلالها لتشريع إبادة الفلسطينيين بذريعة “الدفاع عن النفس” فحسب، بل هي تهدف إلى تغيير معالم المنطقة، وتكريس نفسها إمبراطورية صغرى فيها، يأتمر الجميع بأمرها أيضاً. وليس إغلاق ملف “حل الدولتين” فحسب، بل إغلاق ملف المفاوضات مع الفلسطينيين أيضاً، والتعامل معهم دريئةً لتصويب أسلحتها عليهم.
هذه الحرب التي تستخدم لاصقاً للإسرائيليين وتوحيدهم، تستخدم، في الوقت نفسه، لتوليد أشد أنواع الكراهية العنصرية في مواجهة الفلسطينيين، وهي محاولة إسرائيلية أخرى تهدف إلى إخفاء الفلسطينيين وإلغائهم من خريطة المنطقة، الهدف الإسرائيلي العصي عن التحقق، والذي يحتاج إلى استكمال، لكن وجود الفلسطينيين يُفشله دائماً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى