
نشر الباحث اللبناني مكرم المصري اليوم على صفحة (سطور في التاريخ). المادة التالية
.
من بين الأمواج الهادئة للشعر العربي المعاصر، تبرز أسماءٌ تعد مناراتٍ تضيء دروب الأدب والفكر، ومن أبرز هذه الأسماء الشاعر السوري الدكتور نزار بريك هنيدي.، الذي وُلد في مدينة جرمانا، من ريف دمشق، وأظهر شغفًا كبيرًا بالأدب والشعر منذ نعومة أظفاره، فبدأ ينظم القصائد وهو في سن صغيرة، يعبر فيها عن مشاعره وأفكاره بأسلوب مميز، مما جعله يبرز بين أقرانه. وقد درس في مدارس جرمانا، حيث ظهرت عليه ملامح النباهة والذكاء، وهو ما ساعده في التفوق في دراسته، بالرغم من ولعه بالشعر والادب، وأصدر خلال فترة دراسته الإعدادية والثانوية مجلة مطبوعة سمّاها (الواحة) لم تلبث ثانوية جرمانا أن تبنت إصدارها وراحت توزعها على ثانويات دمشق. ونشر فيها قصائده وافتتاحياته والحوارات التي كان يجريها مع كبار الشعراء والأدباء، مثل بدوي الجبل وغيره. ، وفي نهاية المرحلة الثانوية أصدر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان (البوابة والريح ونافذة حبيبتي)، وكتب له مقدمتها الشاعر الكبير (شوقي بغدادي) الذي شبّهه بالشاعر الفرنسي النابغة (رامبو). ثم انتسب إلى كلية الطب في جامعة دمشق وتخرج فيها، ثم نال شهادة الدراسات العليا في اختصاص الجراحة العامة.
يتميز أسلوبه الشعري بالبساطة والعمق في آن واحد، حيث استطاع أن يعبر عن قضايا الإنسان والوجود بأبيات تلمس الوجدان. بفضل موهبته الفائقة واجتهاده، أصبح نزار بريك هنيدي أحد أبرز الشعراء والأدباء في العالم العربي، وخلد اسمه في سماء الشعر العربي المعاصر.
١- نزار بريك هنيدي شاعر وناقد وطبيب.
لم يكن نزار بريك هنيدي مجرد شاعر، بل كان في الوقت ذاته ناقدًا أدبيًا وأكاديميًا، بالإضافة إلى كونه طبيبًا متخصصًا في الجراحة العامة. فهو الذي جمع بين معالجته للجسد بإصلاحه، وبين معالجته للروح بالكلمة. من خلال مسيرته الأدبية، قدم العديد من القصائد التي تعكس أوجاع الإنسان وتجاربه الوجودية، وتطرح أسئلة فلسفية عميقة عن الحياة والموت، والحب والخيبة.
بدأت مسيرته الشعرية مبكرًا مع مجموعته الأولى “البوابة والريح ونافذة حبيبتي” التي صدرت عام ١٩٧٧، وكان وقتها في نهاية المرحلة الثانوية. توالت بعد ذلك أعماله الشعرية التي بلغت حتى اليوم ثماني مجموعات، أضاف إليها العديد من الكتب النقدية التي تسبر أغوار الشعر والنقد الأدبي.
٢- إنجازات أكاديمية وأدبية
حصل نزار بريك هنيدي على شهادة الطب من جامعة دمشق في عام ١٩٨٢، ثم أكمل دراسته في مجال الجراحة العامة، حيث نال شهادة الدراسات العليا في هذا الاختصاص عام ١٩٨٦. لكنه لم يتوقف عن الكتابة والنقد الأدبي، حيث نشر العديد من المقالات والأبحاث النقدية في الصحف والمجلات العربية.
شغل هنيدي عدة مناصب أدبية، منها عضوية مجلس اتحاد الكتاب العرب، وانتُخب مقررًا لجمعية الشعر لدورتين متتاليتين. كما كان عضوًا في هيئة تحرير العديد من المجلات الأدبية والصحف، مثل “الأسبوع الأدبي” و”الموقف الأدبي” و”المعرفة”. كما شارك في عدد كبير من الأمسيات الأدبية والمهرجانات الثقافية في دول عربية وعالمية، مما ساعد في نشر صوته الأدبي على نطاق أوسع.
٣- الأعمال الشعرية والنقدية
أولاً: المجموعات الشعرية
إضافة إلى مجموعاته الشعرية التي بدأت بـ”البوابة والريح ونافذة حبيبتي” عام ١٩٧٧، أصدر نزار بريك هنيدي العديد من الدواوين الأخرى، مثل:
أ- جدليّة الموت والالتصاق (١٩٨٠)
في هذه المجموعة، يطرح هنيدي تساؤلاته حول الحياة والموت، والعلاقة بينهما.
ب- ضفاف المستحيل(١٩٨٦)
وهذه المجموعة تحمل مفردات شعريّة تتناول التحديات والأحلام المستحيلة.
ج- حرائق الندى (١٩٩٤).
ديوان تتداخل فيه ألوان الشوق، الألم، والندم.
د غابة الصمت (١٩٩٥).
مجموعة تنبض بالتفكير في الصمت كعناصر فلسفية وأسئلة حية.
ه- الرحيل نحو الصفر (١٩٩٨).
تسائل هذه المجموعة الإنسان في مسيرته بين الوجود والفناء.
و- الطوفان (٢٠٠١).
الطوفان هنا يرمز إلى الاندفاع الداخلي من مشاعر وأفكار.
ز- لا وقت إلا للحياة (٢٠١٠).
هذه المجموعة تحمل بين ثناياها أسئلة عن الزمن والحياة.
ح- السيرة الزرقاء (٢٠٠٤).
ثانياً: مختارات من أعماله الشعرية.
١- الكتب النقدية
أصدر نزار بريك هنيدي العديد من الكتب النقدية التي تدور حول الشعر العربي والنقد الأدبي، والتي تتسم بجوهرية البحث ودقة التحليل، مثل:
أ- صوت الجوهر، تأملات في الشعر والنقد (١٩٩٩).
هذا الكتاب يتناول تأملات نقدية معمقة في الشعر والنقد العربي، موضحًا العلاقة بين النصوص والشاعر والمجتمع.
ب- في مهبّ الشعر دراسات ومقالات (٢٠٠٣).
في هذا الكتاب يقدم هنيدي دراسات عن الشعر العربي المعاصر ويحلل ظواهره.
ج- هكذا تكلّم جبران: دراسة في الأدب الجبراني (٢٠٠٤).
يركز هنيدي في هذا الكتاب على جبران خليل جبران وفلسفته الأدبية.
د- في الخطاب الشعري المعاصر: دراسات في الشعر العربي المعاصر (٢٠١٥).
في هذا الكتاب، يناقش هنيدي التحولات التي مر بها الشعر العربي المعاصر وأثرها على الأجيال الحديثة.
ه- لغز المتنبي (٢٠١٥):
يتناول هذا الكتاب الشاعر العربي الكبير المتنبي، محاولًا فك لغز شخصيته وأدبه.
و- الأبدية الخضراء: دراسة تحليلية لقصيدة بورخيس (فن الشعر) (٢٠١٧):
في هذا الكتاب، يدرس هنيدي قصيدة بورخيس ويحلل مفاهيم الشعر والموت.
ز- نزار قباني عاصفة الياسمين (٢٠٢٠).
يركز هذا الكتاب على دراسة أعمال الشاعر السوري نزار قباني.
ح- زاهد المالح شاعر اللغة المرئية (١٠٢٢).
يتناول هذا الكتاب الشاعر السوري زاهد المالح، ويحلل أسلوبه في الشعر.
ط- هكذا تكلم جبران، طبعة معدلة (٢٠٢٢)
إصدار معدل من كتابه السابق “هكذا تكلّم جبران”، حيث يضيف المزيد من الرؤى والتحليلات الجديدة.
هذه الأعمال النقدية لا تقتصر على تحليل النصوص الأدبية فقط، بل هي بمثابة مدخل لفهم الروح البشرية من خلال الأدب، وتكشف كيف يعكس الشعر معاناة الإنسان وتفاصيل وجوده.
· جذوره وأصالة عائلة هنيدي
ينحدر نزار بريك هنيدي من عائلة هنيدي التي تعود جذورها إلى قرية صليما في جبل لبنان، ثم انتقلت إلى محافظة السويداء في سوريا. وفي قلب هذه العائلة تبرز شخصية المجاهد فضل الله باشا هنيدي، الذي كان أحد أبرز رموز المقاومة ضد الاحتلال العثماني، وترك بصماته في تاريخ النضال السوري.
· تكريمات وجوائز
حصل نزار بريك هنيدي على العديد من التكريمات والجوائز خلال مسيرته الأدبية، منها جائزة اتحاد الكتاب العرب عن مجمل أعماله في عام ٢٠٠٦، كما كرّمه العديد من المؤسسات الثقافية في سوريا والوطن العربي. وفي عام ٢٠١٦، كرّمته وزارة الثقافة السورية في احتفالية يوم الثقافة.
· شعرٌ يروي قصص الإنسان
تتميز قصائد نزار بريك هنيدي بالعمق الفلسفي، حيث يتناول فيها قضايا الوجود والموت والحياة بكل تفاصيلها. ففي ديوانه “جدليّة الموت والالتصاق”، نجد الشاعر يسائل الحياة ويبحث عن الأمل في وسط الظلام. وفي “حرائق الندى” ينسج هنيدي مشاهد من الوجع والأمل، كما في “الطوفان” الذي يمثل فيضانات داخلية تختلط فيها الحلم بالواقع.
· نقدٌ يلامس الروح
إن النقد الأدبي عند نزار بريك هنيدي لا يقتصر على تحليل النصوص فقط، بل هو بحث عميق في الروح الإنسانية. في أعماله النقدية، يُظهر كيف أن الشعر هو لغة تفتح أبواب الفهم والتفاعل مع الذات والآخر، وتُسهم في تكوين رؤى أوسع وأعمق.
· خاتمة
في ختام هذا السرد، يتجلى أمامنا اسم نزار بريك هنيدي كشاعر أضاء بموهبته أفق الأدب العربي المعاصر، وكتب بحروفه سيرةً مليئة بالبحث عن الذات والحياة والموت. من خلال قصائده التي تتناغم بين الوجع والأمل، وبين الصمت والصوت، أبدع في صياغة أسئلة الوجود التي لا تنتهي، متأملاً في أسرار الحياة وسرابها، كما في سعيه نحو إيجاد الحقيقة وسط الفوضى. إن أدبه ليس مجرد كلمات على ورق، بل هو مرآة تَعكس الروح البشرية في أكثر حالاتها تعقيدًا، وميدانًا يتنقل فيه بين ما هو علمي ووجداني، بين جسدٍ يعالج وآخر ينقله الشعر إلى آفاق أرحب.
لم يكن نزار شاعرًا وحسب، بل كان شاهدًا على تحولات العالم، ورائيًا للإنسان المعاصر في مواجهة تحدياته، فجمع بين قلبي الطبيب الشافي وقلم الشاعر الحالم، ليكمل معادلة فريدة بين الفكر والعاطفة، بين العلم والإبداع. في قصيدته، تجده يتنقل بين التجربة والخيال، بين الفلسفة والحلم، ليترك لنا إرثًا أدبيًا يلامس كل ذرة في أعماقنا، ويثير التساؤلات التي لن تجد لها جوابًا إلا في قلب القصيدة نفسها.
لقد ظل نزار بريك هنيدي مشعلاً منيرًا في سماء الشعر والنقد، حاملاً معه أفكارًا تتحدى الزمن، ورؤى تتحدى النسيان. ومن خلال أعماله النقدية، قدم لنا مفاتيح لفهم الأدب العربي بكل تجلياته، ليلهم الأجيال القادمة بأن الكتابة ليست مجرد كلمات، بل هي الحياة بكل تقلباتها، بكل آلامها وأحلامها.
وهكذا، يبقى اسم نزار بريك هنيدي حاضرًا، شامخًا، كمنارة لا تنطفئ في بحر الأدب العربي، يحمل بين سطور قصائده ونقده، مسارًا طويلاً من البحث عن الحقيقة، ولا سيما عن معنى الإنسان في هذا العالم الرحب الذي لا يقف عند حدودٍ معروفة.
صليما ١٩/١١/٢٠٢٤
المصدر: سطور في التاريخ


