
الذين خامرهم أمل أن تكون الانتخابات البرلمانية التي جرت أخيراً في العراق خطوة نحو التغيير انطلاقا من المثل الشائع “تفاءلوا بالخير تجدوه” صدموا بجملة خيبات، وليس بواحدة، وآن لهم أن يدركوا، ولو متأخّرين، أن العطّار لا يمكنه أن يصلح ما أفسده الدهر، وقد أنتج دهر الأعوام العشرين الماضية خرابا ودمارا على نحو لا تخطئه العقول.
أولى هذه الخيبات المساحة الواسعة التي احتلها الخطاب الطائفي، وكذلك الخطاب العشائري على ألسنة المرشّحين ومناصريهم، حتى بدت “الهوية” الوطنية الجامعة على درجة من الانكسار والتراجع بشكل مخيف، ومهدّد لأي أفق للتغيير يمكن أن يفكر فيه العراقيون الحالمون بوطن يجمع ولا يفرق.
وثانية الخيبات تصاعد دور الفصائل المليشياوية والجيوش الموازية على عكس ما تردّد قبل العملية الانتخابية أنها سوف تشكل البداية العملية لتفكيكها، ونزع سلاحها، وقد جاء حصول تلك الفصائل على عدد معتبر من المقاعد بمثابة تكريس لاستحواذها على “الدولة العميقة” التي أنشأتها سنوات، ومن خلالها ستضمن السيطرة في المرحلة التالية أيضا على السلطة والمال والقرار حتى ولو جرى تقليم أضافرها العسكرية بضغط من الولايات المتحدة.
وثالثة الأثافي أن اليسار العراقي، ممثلا في الحزب الشيوعي، مني بهزيمة مهولة، إذ لم يتمكن من الحصول على مقعد واحد، كما كانت نسب الأصوات التي حصل عليها مرشّحوه متدنية لحد أن الرجل الأول في الحزب (سكرتير الحزب) لم يصوت له سوى بضعة آلاف يعتقد أن معظمهم من المناضلين المخضرمين الذين كان دافعهم الى أداء الواجب الانتخابي هو الحنين إلى زمنهم الجميل عندما كانوا يصولون ويجولون في كل ساحة وميدان، وقد عزا الحزب خسارته الدراماتيكية إلى “هيمنة المال السياسي والسلاح والمحاصصة، واستغلال النفوذ والسلطة وموارد الدولة ومؤسّساتها المدنية والعسكرية والأمنية، وتأجيج النعرات الطائفية والنزعات العشائرية والمناطقية”.
اليسار العراقي، ممثلا في الحزب الشيوعي، مني بهزيمة مهولة، إذ لم يتمكن من الحصول على مقعد واحد
وإذا كان الحال من بعضه، بتعبير أشقائنا المصريين، لماذا أقدم الحزب على مغامرة زج نفسه في المعركة الانتخابية، وهو يعرف أسرارها، ويستبطن مآلاتها؟ أما كان الأجدى له أن يقاطع كما فعل الصدريون الذين أعلنوا صراحة أنهم غير مطمئنين لسلامة العملية الانتخابية لأن نتائجها معروفة ومحسومة سلفا، وأنهم لن يسمحوا لأنفسهم أن يكونوا ظهيرا للفاسدين، مع تحفظنا على سلوكهم السياسي في أكثر من واقعة، وخاصة أن ما هو معروف عنهم أنهم نشطوا داخل “العملية السياسية الطائفية”، وحصلوا على حصة وازنة في مناصب الدولة العليا قبل أن يركبوا موجة المعارضة عندما سحبوا ممثليهم من البرلمان لكنهم ظلوا متمسكين بالعباءة الطائفية على نحو أو آخر، ولم يستطيعوا أن ينتزعوا أنفسهم منها، ويبلوروا موقفا وطنيا جذريا يحسب لهم.
وبالعودة إلى الشيوعيين، الظاهر من سير الأحداث أن خسارتهم لم تشكل مفاجأة للمعنيين بالشأن العام، لكنها كانت كذلك بالنسبة لقادة الحزب الذين راهنوا على أن الفوز ببعض مقاعد البرلمان يمكن أن يعتبر نوعا من الرد على الممارسات الخاطئة التي حفل بها سجل الحزب منذ أن ارتكب خطيئته الكبرى بالدخول في مجلس الحكم الذي أنشأه الأميركيون بعد الاحتلال، وتمثيل سكرتير الحزب حميد مجيد موسى لطائفته في المجلس، تلك الخطيئة التي سوف تظل ماثلة في الذاكرة الجمعية إلى أن يقوم الحزب بإدانتها علنا، ومراجعة مواقفه اللاحقة التي أضرت بموقع الحزب في المجتمع العراقي، وأساءت إلى تاريخه.
ورابعة الخيبات أن التيارات المدنية والعلمانية بمجموع مرشحيها البالغ عددهم قرابة الـ400 فشلت في إحراز أكثر من مقعد واحد دلالة فشل في استقطاب جمهور يدعمها انتخابيا، أما “التشرينيون” فلم يظهروا موقفا متميزا يحسب لهم، فلا هم مقاطعون، ولا هم مشاركون، وبعضهم فضل أن يبقى مقيما على الشاطئ على أمل أن يتكفل البحر بجلب جثث خصومه، كذلك فعل مثلهم وطنيون وقوميون من جيل الآباء فضلوا الانزواء، وترك الميدان لمن يتقن اللعبة.
وعبر هذه الجولة على خريطة النتائج، لا نجد ما ننصح به الذين أملوا أن يتغير الحال من خلال “الصناديق”، وراهنوا على إنتاج نسخة “محسّنة” من العملية السياسية، وأصيبوا بالصدمة جراء الخيبات التي واجهوها أن يتأملوا ما كتبه محمود درويش، وهو ينعى على أبناء جيله خساراتهم: “في النهاية نبكي لأننا حاولنا طاقتنا، ولم نصل”، وهكذا عليهم، وقد أدركتهم النهاية، أن يبكوا لأنهم حاولوا طاقتهم، ولم يصلوا!






