قبل خمس سنوات من وصوله لمنصب رئيس وزراء العراق، كتب رئيس جهاز الاستخبارات العراقي آنذاك “مصطفى الكاظمي” مقالا في موقع “المونيتور” الأميركي، وضع فيه أساس رؤيته السياسية لأي نخبة تريد حُكم العراق، واصفا بلده بالدولة الضعيفة ذات الوضع السياسي “الهش” التي يتوجب على حاكمها الجمع بين تحالفات خارجية متناقضة. وقد أصبحت تلك بالفعل صيغة الحُكم التي اعتمدها الكاظمي حين وصل إلى رئاسة الحكومة، إذ اتَّبع الرجل نهجا توافقيا براغماتيا صريحا، ونجا بواسطته من أفخاخ الخصوم وتقلُّبات الأصدقاء، ساعيا نحو تحقيق بعضٍ من رؤاه التي خطها منذ سنوات، ففي عهده، تمكَّن العراق من اللعب مع جميع القوى الدولية المُتصارعة حوله، بعلاقات متينة مع الإيرانيين، وتنسيق مع روسيا المتاخمة له الآن عبر الحدود السورية، وعلاقات جيدة في الوقت نفسه مع الأميركيين، وحتى السعوديين والمصريين.
مستندا إلى عقلية رجل الاستخبارات القديم التي أوصلته لمنصبه الحالي في مايو/أيار 2020 على خلفية توافق نادر بين شتى الفصائل العراقية، يستعد الكاظمي حاليا لخوض التجربة ذاتها عبر بوابة الانتخابات البرلمانية التي تجري اليوم، وتجذب اهتمام القادة العرب أكثر من سابقاتها (وهي الخامسة منذ غزو العراق عام 2003). وتُراهن على الكاظمي الآن عدة قوى محلية وإقليمية، وهو يتطلع -بعد رئاسته الوجيزة للحكومة- إلى ولاية ثانية تمنحه الفرصة لينفِّذ مشروعه السياسي. فرغم أنه جاء بالأساس على رأس حكومة انتقالية مؤقتة، فإن الترتيبات والتطورات الأخيرة في البلاد تعزز حظوظه بالنظر إلى الدعم العربي والدولي والإيراني والتوافق الحزبي اللافت الذي حازه الرجل، خاصة أن قانون الانتخابات الجديد المستند إلى نظام الدوائر الانتخابية سيَحُول دون الفوز الساحق لكتلة سياسية بعينها على الأرجح.
منذ اليوم الأول لطرح اسمه رئيسا للوزراء، واجه الكاظمي معارضة شرسة من كتائب حزب الله العراقي، أقوى الكتائب الموالية لإيران على الأرض، التي اتهمته -صراحةً- بتسهيل اغتيال “قاسم سليماني”، قائد فيلق القدس الإيراني، و”أبو مهدي المهندس”، المؤسس الفعلي لقوات الحشد الشعبي، اللذين استهدفتهما غارة جوية أميركية في يناير/كانون الثاني 2020، وقد كان “الكاظمي” وقتها على رأس جهاز الاستخبارات العراقي الذي يُعرف بقربه من الولايات المتحدة. لكن التحولات السياسية في بلاد الرافدين سرعان ما صبّت في مصلحة الكاظمي، بعدما حال الانقسام الداخلي دون تمرير حكومة “عدنان الزرفي”، الذي لم يحصل على ثقة القوى الشيعية، مثله مثل “محمد توفيق علاوي” من قبله.
استفاد الكاظمي من الخلافات التي دبَّت بين الفرقاء السياسيين، إذ قدَّمته القوى الشيعية مرشحا لرئاسة الحكومة؛ بهدف إفشال تكليف “عدنان الزرفي”، عدوهم القديم الذي دعم الأميركيين في حربهم ضد جيش المهدي، الميليشيا التابعة لمقتدى الصدر عام 2004. ورغم علاقات “الكاظمي” الوطيدة بالولايات المتحدة منذ رئاسته جهاز المخابرات العراقي عام 2016، فإن القوى الشيعية اعتبرته أفضل المرشحين القادرين على تحقيق الانتقال السياسي؛ لكونه يتمتع بعلاقات إيجابية مع طهران في الوقت ذاته، وهو ما انعكس في موافقة البرلمان العراقي -الذي تُهيمن عليه القوى السياسية الموالية لإيران- على تمرير الحكومة. هذا وحاز الكاظمي أيضا دعم السُّنة والأكراد والدول العربية، في مشهد نادر الحدوث في عراق ما بعد 2003.
لم يكن التوافق النادر الذي حازه الكاظمي نتيجة لغياب ارتباطات سياسية سابقة له، وعدم تبوُّئه أي منصب تنفيذي في الحكومات السابقة فحسب، بل الواقع أن عملية اغتيال قاسم سليماني أضعفت قبضة النفوذ الإيراني داخل العراق، وأجبرت طهران على دخول المفاوضات مع الولايات المتحدة بعد تبني الأخيرة سلسلة عقوبات ضدها، ما أسهم في خلق صيغة تفاهم جديدة، ومن ثَم جرى التوصُّل إلى اتفاقات في عدد من الملفات، بما فيها الملفات الحكومية العراقية التي ظلت شاغرة ستة أشهر كاملة قبل وصول الكاظمي، منذ استقالة رئيس الوزراء السابق “عادل عبد المهدي” إثر التظاهرات التي ضج بها الشارع العراقي في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ولكن، رغم مباركة السعودية وإيران والولايات المتحدة صعود الكاظمي غير التقليدي، واجه رئيس الوزراء الجديد سلسلة تحديات تمثَّلت في الوضع الاقتصادي المتردي الذي تزامن مع انهيار أسعار النفط (مصدر الدخل الرئيس للحكومة العراقية)، إلى جانب استمرار الاحتجاجات التي عصفت بحكومتين سابقتين، مع محاولة الدولة العراقية السيطرة على الجماعات المسلحة، ومنع تفشي فيروس كوفيد-19 الذي أدت تبعاته إلى المزيد من استنزاف موارد الدولة الاقتصادية. ووسط تلك التحديات الكبرى، وقف الكاظمي أمام امتحان عصيب، هو محاولة انتهاج سياسة “توافق” مع الجميع، والتي سبق أن شرحها بالتفصيل في أثناء عمله السابق كاتبا بموقع “المونيتور”.
كانت مهمة الكاظمي “مستحيلة” على جميع المستويات، فقد كان الرجل مطالَبا بتحقيق الحد الأدنى من المطالب على مستوى الطبقة السياسية، ومنها مطلب أميركي بإقناع النخبة الشيعية التي دعمت ترشيحه بدمج الحشد الشعبي تحت قيادة الجيش العراقي، وحصر السلاح بيد الدولة، والقضاء على الميليشيات المسلحة، وهي خطوات تعني المواجهة الحتمية مع إيران، وتهديد ائتلافه الوليد. غير أن الكاظمي نجح في النهاية في سلوك خط مهادن للجميع، بما في ذلك القوى الدولية، مع حد أدنى من الصدام مع بعض قوى الداخل، وهي سياسة ناجحة حتى الآن يراهن عليها لمنع أي انقلابات قد تُحاك ضده. ولم يقتصر الأمر على اجتياز تحديات السياسة العراقية التقليدية بنجاح لا بأس به، بل استغل الكاظمي أيضا موقعه على رأس الحكومة العراقية لنسج تحالفات جديدة تخدم أجندته السياسية.
السياسة الخارجية.. لعبة الكاظمي المفضلة
مع قُرب انتهاء مهام حكومة الكاظمي تزامنا مع إجراء الانتخابات المبكرة، لا يبدو أن رئيس الحكومة العراقية قد أوفى بجملة تعهداته التي أطلقها تنفيذا لمطالب المحتجين، إذ كان من المفترض أن تحل الحكومة الانتقالية عدة أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية في الداخل، غير أن “الكاظمي” بدأ بالملفات الأصعب على الإطلاق، المتعلقة بالاستقرار الأمني، ومكافحة الفساد، ومحاولة البحث عن دور إستراتيجي لبلاده في المنطقة لتستعيد حضورها القديم. ولطالما اعتقد الكاظمي أن الإدارة الصحيحة للعلاقات الخارجية هي مفتاح استقرار نظام الحُكم في العراق، أو بمعنى أدق، مفتاح أي حاكم نحو تجديد ولايته على رأس السلطة في بغداد لزمن طويل.
استغل العراق تحت قيادة الكاظمي بالفعل موقعه الجغرافي بين السعودية وإيران، وبدأ يلعب دور الوسيط السري بين أبرز قوتين إقليميتين في منطقة الخليج، واستطاع الكاظمي أن يعود إلى مدار السياسة العربية عبر بوابة الرياض، مستعيدا ثقة المملكة التي طالما رأت في بغداد -الواقعة تحت النفوذ الإيراني منذ عام 2003- خطرا على أمنها القومي. وخلال وقت قصير، استطاع رئيس الوزراء العراقي الارتقاء بدور بغداد من مجرد ناقل رسائل بين الدولتين الجارتين، إلى وسيط علني يرعى المباحثات المباشرة بينهما على أرضه، بحثا عن تفاهمات قد تنهي سنوات القطيعة الممتدة بين الرياض وطهران منذ عام 2016، وفي المقابل، استطاع الكاظمي تأمين دعم كلا البلدين للحصول على ولاية ثانية.
ورغم نجاح الكاظمي إلى حد ما في كبح جماح الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وكسر شوكتها داخل المؤسسات الأمنية، وإعادة هيكلة الحشد الشعبي عبر إقالة قيادات وتعيين أخرى موالية له، فإنه فعل ذلك دون أن يدخل في مواجهة مباشرة مع إيران التي كانت أولى محطاته الخارجية بعد توليه منصبه الحكومي، وهي حتى اللحظة أيضا آخر البلدان التي زارها قبيل الانتخابات. وقد اعتمد الكاظمي سياسة “ضرب الرأس” مباشرة، بدلا من مهاجمة الأذرع، وبحسب ما نقلته وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية، طلب رئيس الوزراء العراقي من قادة إيران إلجام الميليشيات العراقية التي تدعمها، وإلا اضطر لمواجهتها بنفسه، إلى جانب التوقف مؤقتا عن استهداف القوات الأميركية الموجودة في البلاد.
ربما يبدو تهديد الكاظمي لإيران محض كلمات، بيد أن الرجل سبق أن نفذ تهديده عبر عملية شنّها جهاز مكافحة الإرهاب ضد كتائب حزب الله العراقي، أهم فصيل مسلح موالٍ لطهران، إلا أن ذلك لم يؤثر على علاقته بطهران، التي وطدت علاقتها به أكثر مع وصول رئيسها الجديد “إبراهيم رئيسي” إلى سُدة الحُكم، إذ توصل الرجلان في لقائهما الأخير إلى تفاهمات حول حل عدد من الخلافات والمشاريع الاقتصادية العالقة، بالإضافة إلى إقرار إلغاء التأشيرة بين البلدين.
إلى جانب ضبط العلاقات مع إيران، والحفاظ في الوقت نفسه على الحليف الأميركي، وكسب ثقة السعودية، امتلك الكاظمي ورقة رابحة جذب بها حلفاءً آخرين إلى صفِّه، متمثلة في ملف إعمار العراق الذي كان من المفترض أن يذهب إلى إيران بعد دورها في الحرب على تنظيم الدولة. بيد أن الكاظمي سلك مسلكا براغماتيا وتوصل لاتفاق مع القاهرة صيغته: “النفط مقابل الإعمار”. وبالإضافة إلى ذلك، عقد صفقة مع الأردن والقاهرة حملت اسم “الشام الجديد”، بهدف مد أنبوب نفطي من البصرة إلى ميناء العقبة في الأردن، ومن ثَم إلى مصر، ورغم أن المشروع ليس ذا أولوية اقتصادية بالنظر لمشاريع أخرى يحتاج فيها العراق إلى إيران (مثل مشروع الربط السككي)، فإن الكاظمي حاز به اصطفافا عربيا وتأثيرا سياسيا مستقبليا يخدم أهدافه الشخصية وأفكاره السياسية للعراق، وذلك بتوسيع مظلة الدعم الخارجي لمشروعه، وهي مظلة لا تقل صلابة عن المظلة التي صقلها جيدا مع القوى العراقية في الداخل.
الطريق إلى الولاية الثانية
يتجه العراق لخوض الانتخابات المبكرة التي تأتي قبل موعدها بنحو ستة أشهر، ودعا إليها الكاظمي بنفسه في أغسطس/آب 2020 نتيجة للاحتجاجات الكبرى التي شهدها الشارع العراقي، وطالب فيها المتظاهرون بإصلاح سياسي واقتصادي شامل، وسنِّ قانون جديد للانتخابات يخفّف من احتكار الأحزاب المشاركة في السلطة للمقاعد النيابية، ويسمح بدخول مستقلين وأحزاب صغيرة إلى مجلس النواب. ورغم أن التوقيت مثَّل ضربة للأحزاب الكبرى، إذ إن بعضها لم يرغب بإجراء انتخابات في وقت يموج فيه الشارع بالغضب، فإنها لم تستطع الوقوف ضد قرار رئيس الوزراء العراقي، لا سيما أنه لاقى ترحيبا شعبيا.
ينص القانون الجديد للانتخابات على تقسيم العراق إلى 83 دائرة انتخابية تتوزع عليها مقاعد البرلمان البالغة 329 مقعدا، مع شرط حصول النساء على 25%، وإلغاء النظام الانتخابي القديم الذي اعتمد كل محافظة من محافظات العراق الـ18 باعتبارها دائرة انتخابية، وتسبَّب بالأساس في صعود القوى السياسية الحالية التي تحكم البلاد منذ أول انتخابات أجريت بعد الغزو الأميركي عام 2005. ولذا، ترى قوى معارضة اليوم بأن القانون الجديد يستهدف الأحزاب التقليدية التي حكمت العراق، في حين أن الكاظمي -الذي لم يؤسس حزبا سياسيا حتى اللحظة- يعد أبرز المستفيدين من القانون؛ لأنه يُعيد توازن القوى إلى المسرح السياسي عبر الإطاحة بالقوى التي تُمثل مصدر إزعاج له، وجذب العديد من القوى للتحالف معه بوصفها وجها توافقيا للسلطة المنتظرة.
إحدى أبرز القوى التي تحالفت مع الكاظمي على ضوء قانون الانتخابات الجديد هم نواب تحالف “سائرون”، المدعوم من رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر”، الداعم لمرجعية النجف الدينية المنحازة بدورها إلى الكاظمي في معركته ضد قوات الحشد الشعبي التي هددت سابقا بالانقلاب على رئيس الوزراء العراقي. وبجانب علاقته الجيدة بالتيار الصدري، يعوِّل الكاظمي أيضا على الأكراد، وتشير تسريبات أن رئيس الوزراء وقع اتفاقية مع إقليم كردستان تضمن تحمُّل الحكومة المركزية الديون المستحقة للشركات النفطية الأجنبية التي تعمل في الإقليم دون موافقة الحكومة الاتحادية منذ العام 2014، والبالغة قيمتها نحو 30 مليار دولار، بالإضافة إلى دفع رواتب قوات البشمركة الكردية التي تقدر بـ912 مليار دينار عراقي (736 مليون دولار) سنويا، مقابل دعمه في الانتخابات.
رغم أن النفوذ العربي في الداخل العراقي ليس كبيرا مقارنة بالتغلغل الإيراني، فإن الكاظمي حرص في أثناء قمة بغداد الأخيرة، التي جمعت عدة دول عربية فاعلة في المحيط العراقي، على تقديم نفسه بوصفه رجل دولة بوسع الجميع الرهان عليه لإدارة دفة العراق في ولاية ثانية تمتد أربع سنوات أخرى، لا سيما أنه شخصية غير محسوبة على أي من الأطراف السياسية النافذة في البلاد، وهي الميزة التي أوصلته بالأساس إلى رئاسة الحكومة الحالية على المستويين الشعبي والإقليمي. يجمع الكاظمي اليوم إذن بين استحسان مشروعه من جانب الإيرانيين والأميركيين والعرب كذلك، ودعم عدة قوى داخلية لم تعارض ترشيحه علنا، أبرزها التيار الصدري وعدد من القوى السنية والكردية، ويُضاف إلى كل ذلك سجلّه “الأبيض” نسبيا في عراق ما بعد 2003، وهو ما يجلب له دعما شعبيا لا بأس به، ما يعني أنه، ما لم تحدث مفاجآت في انتخابات الأحد، فإن الطريق ممهدة ليحوز الرجل ولاية ثانية، وأن المشروع السياسي للكاظمي ربما يصبح المشروع السياسي الأهم في العراق منذ عشرين عاما، ولعله يمتلك فرصة جيدة لانتشال البلاد من لعنة التشرذم والفساد، ولو إلى حين.
المصدر: الجزيرة. نت