الحوار المُهيكَل الليبي… إدارة الأزمة أم تدوير الفشل؟

الفيتوري شعيب

لم تتوقّف البعثة الأممية للدعم في ليبيا طوال السنوات الماضية من عمر الأزمة الليبية عن إظهار مصطلحات جديدة، تحاول منها إحداث خرق في العملية السياسية داخل البلاد. ويتردّد اليوم مصطلح “الحوار المُهيكَل” بوصفه أحدث المسمّيات (والأطر) التي تطرحها (وتقدّمها) البعثة الأممية لحلّ الأزمة، والإشكال السياسي، في البلاد، ليكون هذا المصطلح اسماً رسمياً للمبادرة التي أطلقتها البعثة أخيراً جزءاً من خريطة طريق سياسية مُحدَّثةٍ تستند إلى ثلاث ركائز رئيسة: وضع إطار انتخابي فنّي سليم وقابل للتنفيذ، وتشكيل حكومة تنفيذية موحّدة، وكذلك معالجة القضايا الخلافية الأساسية مثل شكل الدولة والنظام السياسي، والمسار الأمني والعسكري (استكمالاً لعمل اللجنة العسكرية “5+5”). وبالرغم من البدء الفعلي في إطلاق هذه المبادرة الجديدة، إلّا أن البوادر الحقيقية لأيّ فعل لا تزال غير ظاهرةٍ، وإزاء ذلك ينظر مراقبين إلى “الحوار المُهيكَل” بوصفه مجرَّدَ جولةٍ أخرى من “إدارة الأزمة”، خصوصاً إذا نُظر إلى الآلية المقترنة بعمله واختيار أعضاء الحوار، إذ تعتريها شوائب كثيرة أسقطت سابقاتها.
الأزمة الليبية، في جوهرها، ليست أزمةَ غياب “الحوار”، بقدر ما هي أزمة “شرعية” و”قوة” و”إرادة”، وهنا تكمن العيوب الجوهرية لمسار “الحوار المهيكل”، وأول هذه العيوب هو أزمة الشرعية، التي يجب أن تكون منبثقةً من القاعدة الشعبية، وليس اختياراً لا تضبطه ضوابط ولا تحدّه قوانين، كما كان في ملتقى الحوار السياسي 2020، الذي ضمّ خمسة وسبعين عضواً اختيروا وفق آلية تفتقر إلى المعيار الواضح، وبالتالي كان ذلك في حينه أقرب إلى إدارة الأزمة من حلّها، الأمر الذي نتج منه تسويات هشّة لم تصمد كثيراً.
الشرعية (المفقودة راهناً) هي اللبنة الأولى لبناء الدولة، ولا يمكن استبدالها بتسويات المحاصصة النُّخبَوية
العيب الثاني، وهو الأكثر فتكاً، أنّ هذه الحوارات تتحوّل حتماً من منصّات للحلّ الوطني إلى “المحاصصة” السياسية، فنبتعد أكثر من الحلّ الحقيقي، إلى إدارة الأزمة فحسب، خاصة في غياب “الإرادة” الحقيقية داخلياً وخارجياً، إذ إنّ الأزمة السياسية ليست مستعصيةً تقنياً؛ فالقوانين الانتخابية يمكن تعديلها وصياغتها، والانتخابات يمكن إجراؤها مثل ما كان في تجديد الانتخابات البلدية أخيراً، لكن الأزمة الحقيقية تكمن في أن الأطراف الفاعلة محلياً، والمدعومة إقليمياً ودولياً، لا تمتلك “الإرادة السياسية” في إنتاج حلٍّ سياسيٍّ يبني الدولة ويخرجها من المشهد الحالي، كما أنّ الأجسام السياسية الحالية (مجلسَي النواب والدولة) قد استنفدت شرعيتها الزمنية والقانونية والأخلاقية منذ سنوات. وبالتالي؛ فإنّ هذه الأجسام ليست “أطرافاً” مؤهّلة للحلّ، بل هي “أصل” الأزمة، وجزء لا يتجزّأ من المشكلة. لذلك؛ فإنّ أيّ محاولة للقفز عن هذه الحقيقة قبل معالجة أصل الشرعية، مجرّد “تدوير للأزمة”، وإعادة إنتاج للفشل، فالحلّ الحقيقي، الذي يبدو أن المسارات الأممية تتجنّبه، لا يكمن في “هيكلة” حوار مع نُخَبٍ فقدت شرعيتها، بل يكمن في تجديد الشرعية كلياً، وهذا يتطلّب قراراً حاسماً بالقفز عن جميع هذه الأجسام الحالية، وبالعودة مباشرةً إلى المصدر الوحيد للسلطات: الشعب الليبي.
في المحصّلة، يبدو أن “الحوار المُهيكَل”، رغم التفاؤل الحذر الذي تحاول البعثة الأممية تسويقه، لن يكون أكثر من محطّة أخرى في مسار “إدارة الأزمة”، وليس إنهاءها، خاصةً إذا لم يكن بآليات وخريطة طريق واضحة، وبضمانات دولية قوية، لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية شاملة. فالشرعية (المفقودة راهناً) هي اللبنة الأولى لبناء الدولة، ولا يمكن استبدالها بتسويات المحاصصة النُّخبَوية، كما يجب أن يتضمّن هذا المسار آليات واضحة لتفكيك مراكز القوة الموازية ومحاسبة المعرقلين، قبل وأثناء العملية الانتخابية، غير ذلك، فإن “الحوار المُهيكَل” سيبقى هيكلاً خاوياً على عروشه، يحمل شعارات الإصلاح، بينما يكرّس في جوهره استمرارية الأزمة، بل سيبقى المشهد الليبي يراوح مكانه، وستبقى المصطلحات الأممية تتجدّد، بينما معاناة الليبيين تتفاقم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى