
دخل الرئيس السوري أحمد الشرع البيت الأبيض كأول سوري منذ الاستقلال عام 1946، في زيارة خاصة حملت دلالات خاصة وعميقة شكلاً ومضموناً. ففي الشكل، وعلى الرغم من اللغط حول دخوله من باب خاص، وليس من المدخل الرئيسي للبيت الأبيض، فذلك ليس رسالة سياسية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يبدو أنه تجمعه “كيمياء” خاصة مع الشرع، بل هو إجراء بروتوكولي حين تكون الزيارة لرئيس مرحلة انتقالية غير منتخب، فتكون عندها زيارة خاصة وليست زيارة دولة كي يستقبل الرئيس الأميركي زائره عند الباب الرئيسي.
لكن ما طغى في الشكل أيضاً، بعيداً عن فيديو “رش العطر”، هو تسريب فيديو لكرة السلة بين الشرع وقائد القيادة المركزية الوسطى الجنرال ديفيد كوبر، في إحدى القواعد العسكرية في واشنطن. رسالة لا لبس فيها: الشرع، ومعه سوريا الجديدة، بات جزءاً من الاستراتيجية الأمنية الأميركية في المنطقة، بل عماداً أساسياً فيها، ويحظى برعاية وعلاقات خاصة وليس مجرد شريك للتنسيق في الحرب على الإرهاب التي يقودها التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة.
هذه الرسائل الشكلية لا تنفصل عن واحد من أبرز ما ناقشته الزيارة، بالإضافة إلى الملف الاقتصادي ورفع العقوبات، وهو الأمن. لا يطلب ترمب من الشرع في الوقت الحالي التزامات سياسية مع إسرائيل، بل ترتيبات أمنية، وكذلك الأمر بالنسبة للحرب على الإرهاب التكفيري السني والشيعي، والذي تجلّى في انضمام سوريا إلى تحالف محاربة الإرهاب. وهذه الملفات ذات أهمية استراتيجية وترتبط ارتباطاً وثيقاً بلبنان، وبالتالي من الممكن أن تزيد تعقيدات العلاقات بين البلدين، بالإضافة إلى تأثيرها على الشرع داخل سوريا.
محاربة “داعش” ستعني استغلال أكبر قدر ممكن من الخبرات القتالية لكل مجموعة في محاربة التنظيم الإرهابي.
التأثير على لبنان
بالنسبة للبنان، فإن الترتيبات الأمنية مع إسرائيل، التي تعني حالياً منطقة خالية من السلاح الثقيل والوجود العسكري لمجموعات وزارة الدفاع السورية وصولاً إلى قطنا جنوبي دمشق، تعني أن الحدود اللبنانية الجنوبية الغربية وصولاً إلى تخوم البقاع الغربي تصبح “ساقطة” عسكرياً بيد إسرائيل إذا أرادت القيام بأي عملية عسكرية انطلاقاً من الحدود السورية. كما أن دلالات وقوع قطنا على خط واحد مع نهر الأولي على الساحل اللبناني ليست تفصيلاً، بحسب ما ستكشفه الترتيبات المطلوبة من لبنان في الفترة المقبلة.
أما بالنسبة للشق المتعلق بمحاربة المجموعات الإيرانية وعلى رأسها حزب الله، فذلك سيعني استمرار الحكم السوري الجديد بسياساته المتفقة مع هذا الهدف أساساً، مع تشديد إضافي قد ينعكس اشتباكات مع مجموعات لبنانية مدعومة من الحزب على الحدود اللبنانية الشمالية الشرقية. ويبقى مدى تفاقم هذه الاشتباكات رهنًا بالضبط السعودي الشديد للملف الحدودي بين لبنان وسوريا.
التأثير على الداخل السوري
بالنسبة للداخل السوري، فإن انخراط سوريا في الحرب على الإرهاب يضع الشرع في مواجهة مباشرة مع نوعين من المجموعات الراديكالية السنية:
المجموعة الأولى: وهي جماعات، غالبيتها أجنبية، كانت حتى شهور خلت حليفاً وثيقاً، وبقيت تتمتع بنوع من غضّ النظر والحرية بعد سقوط الأسد، من دون أن يسمح لها الشرع ببناء أي قدرات عسكرية أو التمتع بمناطق نفوذ أمني. هذه الجماعات ربما لن تنتظر الحرب عليها لتبدأ معركتها ضد الشرع، إذ إن التحول الكبير في العلاقة مع الولايات المتحدة وكذلك التفاوض المباشر مع إسرائيل أمر لا ترضى عنه، وقد تراه حجة لبدء معركة تحت عناوين براقة.
المجموعة الثانية: وهي المجموعات التي كان يقاتلها الشرع أصلاً منذ رفضه تشكيل تنظيم “داعش” عام 2013 وصولاً إلى إسقاط الأسد عام 2024، وهي تنظيمات ورثت عقيدة “داعش”، وأبرزها “جند الأقصى” و”حراس الدين”، وغيرها من القيادات الجهادية التي كانت مطلوبة دولياً وأبرزها “أبو جليبيب”.
لكن في حين أن المجموعات الأولى ستشكل تحدياً عسكرياً لن يكون من الصعب تجاوزه، وأقصى ما يمكن أن تفعله هو الاحتماء في الجبال بين ريف إدلب الغربي واللاذقية، فإن محاربة “داعش” ستكون فرصة لإيجاد صيغة لانضمام “قسد” إلى وزارة الدفاع السورية من دون الاندماج الكلي أو الانتقال من مناطق انتشارها الحالية في شمال شرقي سوريا.
الأمر نفسه سينطبق على “جيش سوريا الحرة” المدرب أميركياً والمنتشر في البادية بالقرب من قاعدة التنف وقريباً من الحدود العراقية. فمحاربة “داعش” ستعني استغلال أكبر قدر ممكن من الخبرات القتالية لكل مجموعة في محاربة التنظيم الإرهابي. وهذا قد يشكل مخرجاً وحجة لإعلان “قسد” انضمامها إلى وزارة الدفاع مع بقائها في مراكزها حتى إتمام مهمة القضاء على “داعش”.
متطلبات الدولة كبيرة، تبدأ بحوار داخلي سوري لإرساء حكم ديمقراطي يضم الكفاءات والمجموعات المختلفة، بالإضافة إلى دستور يمثل مبادئ ثورة 2011 وعلى رأسها الحرية والكرامة، وبالتالي المواطنة.
وهكذا ستكثف “قسد” حربها في الشمال الشرقي لسوريا، في حين سيكون الجهد الأساسي لـ”جيش سوريا الحرة” في البادية، وستتولى مجموعات “هيئة تحرير الشام” سابقاً – وتشكل نواة قوات وزارة الدفاع حالياً – القتال في إدلب، إلى جانب مهمة الحرب على ما تبقى من مجموعات مرتبطة بإيران بالقرب من الحدود العراقية في الشمال الشرقي السوري، وفي المنطقة بين ريف دير الزور الغربي والرقة. بالإضافة طبعاً إلى التضييق على أنشطة حزب الله اللبناني في سوريا لناحية التهريب ومحاولة إخراج ما تركه خلفه من سلاح وصواريخ في سوريا عند الهروب بعد سقوط الأسد.
نتحدث هنا عن تحول كبير نتيجة لزيارة الشرع إلى واشنطن ولقائه ترمب، يعيد تموضع سوريا استراتيجياً إلى جانب الولايات المتحدة والغرب، مع علاقات متينة مع تركيا والسعودية. لكن التحدي الأساسي هو تدعيم الحكم السوري الجديد باتجاه تحوّله من مشروع شخص إلى مشروع دولة، وربما يكون النهوض الاقتصادي باباً لذلك، خصوصاً أنه قد يشهد تحولاً كبيراً إذا ما قرر الكونغرس إلغاء “قانون قيصر”.
متطلبات الدولة كبيرة، تبدأ بحوار داخلي سوري لإرساء حكم ديمقراطي يضم الكفاءات والمجموعات المختلفة، بالإضافة إلى دستور يمثل مبادئ ثورة 2011 وعلى رأسها الحرية والكرامة، وبالتالي المواطنة. ولا يمكن تجاهل العقبات الداخلية الكبيرة أو الاعتقاد بأن تصفير المشكلات خارجياً يعني تصفيرها داخلياً… لوقت طويل.
المصدر: تلفزيون سوريا


